spot_img

ذات صلة

جمع

من الرماد ….. ما مستقبل غزة؟

خاص شؤون آسيوية، مقالة: أوليفر ماك تيرنن، ترجمة: معهد...

أساليب الإقناع

شؤون آسيوية كتاب "أساليب الإقناع" لنيك كوليندا يقدم استراتيجيات عملية...

هكذا تواجه شركات اليابان انخفاض السكان وزيادة الشيخوخة

شؤون آسيوية - طوكيو - أظهر استطلاع نشر...

الصين تتوقع 9 مليارات رحلة خلال ذروة موسم السفر في عطلة عيد الربيع

شؤون آسيوية انطلقت في الصين أكبر موجة هجرة بشرية، وذلك...

ما بعد وقف اطلاق النار في غزة

شؤون آسيوية - بقلم عبير بسام* شهرين من المواجهة ما...

سورية الجديدة: أهمية التحول الديمقراطي والدستور الجديد

شؤون آسيوية – دمشق

 

بقلم/ توفيق المديني
مع سقوط حكم البعث في سورية الذي دام 61عامًا، تواجه السلطة الجديدة التي تولّت مقاليد الحكم في دمشق، بقيادة زعماء هيئة تحرير الشام بالإضافة إلى جماعات الفصائل المتحالفة معها، تحدِّياتٍ كبيرةٍ، لعل التحدِّي الفوري هو الحفاظ على النظام والأمن والخدمات الحكومية للمجتمع السوري بجميع مكوناته من دون أي إقصاءٍ، وإعادة البناء السلمي لسورية بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية أو جولات جديدة من القتال الطائفي الذي غذَّتْهُ تدخلات القوى الخارجية، من خلال التحول الديمقراطي.
يعيش العالم منذ نهاية الحرب الباردة و سقوط المنظومة السوفياتية السابقة، إقبالاً متزايداً على الديمقراطية التعددية، التي شملت مناطق متعددة من العالم في أمريكا اللاتينية، وأوروبا الشرقية والوسطى، وآسيا وإفريقيا، ووصلت أيضًا إلى تركيا، وباكستان، وألبانيا، وإندونيسيا في العالم الإسلامي.ويمكن اعتبارهذه الظاهرة واحدةً من الأحداث الكبرى في التاريخ المعاصر حتى أنَّ الدارسين الأكاديميين يلقبونها بالموجة الديمقراطية الثالثة التي بدأت في عام 1989.وتتضح معالم هذا التحول الديمقراطي، في تزايد المطالب الشعبية باحترام حقوق الإنسان و حرِّياته الأساسية، وبإضفاء الطابع الديمقراطي على مؤسسات الحكم والسياسة. ويؤكدها كذلك انهيار كثير من النظم التسلطية، و الاتجاه المتزايد نحو الأخذ بنظم التعددية الحزبية.

أهمية الانتقال الديمقراطي في سورية
ليس هناك شك في أنَّ السياسة العقلانية والحكيمة التي تلقى قبولاً كبيرًا من جميع أطياف الشعب السوري، بعد سقوط النظام الشمولي و التسلطي، هي سياسة التحول الديمقراطي، والتي تعني أساساً الانتقال من الشمولية والسلطوية إلى الدخول في مرحلة انتقالية حاسمة لإعادة بناء الدولة الوطنية السورية بعد عقود من الاستبداد.
تمثّل المرحلة الانتقالية فرصةً لإرساء أسس نظامٍ سياسيٍّ جديدٍ لا يتجاوز نظام الاستبداد الذي عرفته سورية طوال أكثر من نصف قرن فحسب، بل يمنع نشوء أيّ نوعٍ من الاستبداد أيضًا، ويستند إلى مبادئ الحكم الرشيد والمشاركة الشعبية واحترام حقوق المواطن وحرِّياته والتعددية السياسية والثقافية والدينية والمذهبية للمجتمع السوري.
إن مفهوم “الانتقال الديمقراطي” يشير من الناحية النظرية إلى مرحلة وسيطة يتم خلالها تفكيك النظام الشمولي أو التسلطي السابق ،أو انهياره،وبناء على أنقاضه نظام ديمقراطي جديد. وعادة ما تشمل عملية الانتقال مختلف عناصر النظام السياسي مثل البنية الدستورية والقانونية، والمؤسسات والعمليات السياسية وأنماط مشاركة المواطنين في العملية السياسية، لكن إعادة بناء أو تشكيل نظام ديمقراطي لا يمكن أن تتم بشكل بيروقراطي أي من دون مشاركة المجتمع المدني في صياغة معالمه الأساسية . وقد تشهد مرحلة الانتقال إلى صراعات ومساومات وعمليات تفاوض بين الفاعلين السياسيين الرئيسيين .
فالمرحلة الانتقالية تعني التحرّر من الأسس البنيوية التي يرتكز عليها النظام الاستبدادي التسلطي، وإرساء الأسس الجديدة التي يمكن أن تحمل بناء النظام الديمقراطي الجديد.إنَّها مرحلة حاسمة في تاريخ أية دولة تنتقل إلى الديمقراطية، لأنَّه يتعين قطع الطريق على القوى القديمة التي قد تستغل “سيولة” الانتقال السياسي في إعادة إنتاج النظام الاستبدادي، أو قد تفتح شهية قوى سياسية أخرى تريد أن تحتل مؤسسات الدولة، وتَحُلَّ محل الأغلبية المستبدة، أو أن يفتح الباب أمام التدخلات الخارجية .
وتعني مرحلة الانتقال الديمقراطي، الانتقال من نظام تسلطيٍّ استبداديٍّ إلى نظامٍ ديمقراطيٍّ جديدٍ.ويرى الخبراء العارفون بمراجل التحول الديمقراطي، أنَّ هناك عدَّةَ مسائلٍ ينبغي تحقيقها في المرحلة الانتقالية:
أولاً-إصلاح القوة الصلبة أو الخشنة التي كان يقوم عليها الحكم الاستبدادي في سورية، وهي في المقام الأجهزة الأمنية والأجهزة السياسية، ووضع أسس العلاقة مع المؤسسة العسكرية، بحيث تكون مؤيدة للديمقراطية بدلاً من أن تكون”حجرة عثرة” في سبيل تحقيقها.
ثانيًا-وضع قواعد لعبة جديدة من خلال وضع جملة من القوانين الأساسية التي تعزز التحول الديمقراطي في ظل سلطة مؤقتة، يمهد ذلك لتحقيق ما يمكن تسميته “الديمقراطية المستدامة”، التي تتمثل في وضع دستور جديد، وتحرير منظمات المجتمع المدني من هيمنة بيروقراطية الدولة الأمنية و المدنية، و إقرار تشريعات تعزز التنافسية بين القوى السياسية، و تأكيد حكم القانون، و استقلال مؤسسات العدالة، وتدعيم مؤسسات الرقابة و المحاسبة، و إصلاح المنظومة الإدارية للدولة، بحيث تصبح وكيلاً للمواطن، ومحل مساءلة من جانبه.
ثالثًا- إعادة بناء الجيش الوطني والإشراف على جمع السلاح، بما في ذلك من الفصائل المقاتلة، ودمج عناصرها في إطار الجيش الوطني الجديد.
رابعًا- إيجاد حكومة فعالة تُشعر الناس بانَّ هناك ثورة تواجه مشكلاتهم الأساسية في تحقق الحرية و العدالة، و تحوّل “الفوران الثوري العاطفي” إلى سياقات مؤسسية تعزّز المشاركة الشعبية الواسعة في بناء الديمقراطية.
خامسًا-إقرار قوانين تعزّز منظومة الحريات الساسية، التي عادة ما يفتئت عليها الحكم الاستبدادي، مثل حرية التنظيم، حرية العقيدة، حرية الراي و التعبير،حرية تداول المعلومات، والحريات الإعلامية..الخ.
سادسًا-التحصين ضد التدخلات الخارجية التي قد تجهض التحول الديمقراطي، ويتحقق ذلك من خلال بناء التوافق الداخلي، وتعظيم القدرات الاقتصادية، ومنع أية محاولات من شأنها إتاحة الفرصة أمام أطراف خارجية للتدخل من خلال “أطراف داخلية” في عملية تشكيل المجتمع الديمقراطي.
وهكذا، فإنَّ المرحلة الانتقالية يتعين عليها أن تشهد إرساء “قواعد قانونية تعزز الحقوق و الحريات”، وتشكيل “حكومة فعالة تنجز التحول الديمقراطي “، و”قواعد لعبة جديدة تحقق المساواة و التنافسية بين مختلف القوى السياسية”، و”تصفية النظام القديم بالتخلص من بعضه، وتطوير بعضه الآخر، وإدماج بعضه الثالث”.
لا شك أنَّ عملية التحول الديمقراطي في سورية التي شهدت أزمات كبيرة، و سقط فيها النظام الشمولي التسلطي، لكي تنجح فيها عملية الانتقال إلى الديمقراطية المستدامة، فإنَّ هذه تحتاج إلى اقتصاد قادر على النمو و التحرك، وإلى وجود دولة وطنية بالمعنى الحقيقي للكلمة، لا ماكينة دولة في المعنى الضيق للكلمة، بل دولة في معنى “النظام السياسي” يعبر فعلاً وموضوعياً عما يدور الخلاف حوله.
عملية الانتقال الديمقراطي في سورية، تقتضي وجود نظام سياسي قادر على ممارسة الديمقراطية، وحتى يتمثل هذا النهج الديمقراطي فينبغي عليه أن يعتمد على عددٍ كبيرٍ من المؤسسات الاجتماعية و الثقافية و السياسية تتضمن –وهذا شرط لا تستقيم المعادلة من دونه- معارضات سياسية ديمقراطية، و نقابات قوية، و مؤسسات المجتمع المدني الحديث.فقط بهذه العوامل يتم الحصول على الشرعية، أي على الحد الأدنى من مستوى القبول والمساندة اللذين يجعلان من النظام السياسي في هذه المرحلة الانتقالية نظاماً شرعياً، مهما كان عدد الانتقادات الموجهة إليه.
هناك عنصر إضافي آخر ضروري، هو الثقافة السياسية الديمقراطية الشديدة الصلة بالشرعية. وماهو مطروح هنا هو قدرة المواطن السوري على فهم آليات العمل الإداري و مشكلاته وأهليته على اختيار القادة السياسيين ومساندتهم، ثم مراقبة سلوكهم بانتباه. وهذا يفترض أن يتمتع المواطنون السوريون بثقة معينة في النظام، وأن يتفق الناخبون والمنتخبون على جملة قواعد أخلاقية، وأن يتشاطر الحكام و المحكومون مجموعة مبادىء ومثل عليا.هذه أهم الثوابت المثالية للنظام السياسي، الضرورية نظرياً لنجاحه.

مشروع الدستور وتأكيد الثوابت الوطنية للدولة
إنَّ أهم إنجاز يمكن أن يتحقق في مرحلة التحول الديمقراطي، هو وضع دستور جديد من قبل جمعية وطنية تأسيسية منتخبة، بوصفه عقدًا اجتماعيًا يُنَظِّمُ العلاقة بين الدولة ومواطنيها، ويهدفُ إلى إرساء قيم الديمقراطية وسيادة القانون والعدالة الاجتماعية، بما يضمن مشاركة جميع مكوّنات الشعب السوري في بناء مستقبلهم على أسس متينة وشاملة، ويفْرُضُ قيوداً على السلطة التنفيذية ، ويُمَكِّنُ السلطة التشريعية من وظيفتي التشريع و الرقابة، ويُحَقِّقُ استقلال القضاء، ويُعَزِّزُ حقوق وحريات الأفراد، ويُعَمِّقُ اللامركزية من خلال تمكين المجتمعات المحلية، و المشاركة الشعبية.
يعني مصطلح “دستور”، “التأسيس أو البناء”، أي التنظيم أو القانون الأساسي، فهو يُحِيلُ على مرجعية مفادها البحث عن الأسس الكفيلة بتأصيل وضبط ممارسة السلطة وتنظيم مؤسسات الدولة، وعلى خلفية ذلك يفسر لماذا ارتبط مفهوم الدستور بالدستورانية الأوروبية الهادفة، مع مطلع القرن الثامن عشر، إلى إعادة بناء الدولة والسلطة على تصورات فلسفية وآليات تنظيمية جديدة.
الصراع على الدستور في سورية، مسألة قديمة جديدة، والسبب في ذلك يعود إلى النزاع المتعلق بدور الإسلام في الحياة العامة، في سورية. فقد أثير في القرن الماضي، عندما امتد حكم الملك فيصل في دمشق من 1918 إلى 1920، وأثناء حقبة الانتداب الفرنسي. وتبلور لأول مرَّة في فترة الاستقلال في عام 1950 حول مشكلة الدستور. وكان المشروع المحرر حينئذ يتضمن المادة التالية:” لما كانت غالبية السكان السوريين مسلمة فإنَّ الدولة تعلن إخلاصها للإسلام ولمبادئه”. وقد أثارت هذه المادة انفعالاً شديداً في الأوساط العلمانية والليبرالية المسيحية والمسلمة، المشايعة لإزالة الحدود الطائفية في الحياة السياسية وفي الدولة، هذه العناصر حاولت – بلا طائل- القيام بالضغط لسحب هذه المادة من المقدمة وإحلال صيغة تسوية محلها بأنَّ الإسلام دين رئيس الجمهورية فحسب. وكانت مقدمة الدستور هذه، عام 1950 تمثل أقرب صيغة دستورية لتصور بلدان عربية أخرى حيث يعلن بأن دين الدولة هو الإسلام، تبنتها سوريا. ولم يكن دستور الجمهورية العربية المتحدة في أيام الوحدة المصرية-السورية (1958-1961)، الذي نادى بأن دين الدولة هو الإسلام، نصاً سورياً، حقيقة.
وكان دستور البعث المؤقت سنة 1964 قد احتفظ بصيغة التسوية التي تحدد بأنَّ الإسلام دين رئيس الجمهورية والمستبدلة أحياناً، أو ترافقها صيغة تنص على أن الفقه الإسلامي أهم مصدر للتشريع.وقد أسقط مشروع دستور عام 1973، بدوره، التنويه المتعلق بانتماء رئيس الجمهورية للإسلام، وسنّ أنّ” الجمهورية السورية دولة ديمقراطية شعبية، اشتراكية”، ولم يتخذ الرئيس حافظ الأسد القرار بالعودة إلى إدخال المادة المتعلقة بدين رئيس الجمهورية إلا بعد أن انفجرت مظاهرات عنيفة في حماة، أمام مكتب فرع حزب البعث(20 فبراير 1973)، ولم تأت مكانها هذه المرّة من المادة الثالثة، وإنما وردت في المادة 157. وكانت تلك المظاهرات من فعل القيادات المسلمة التقليدية، يقودها فقهاء دين ومفتون وقضاة وموظفون دينيون، يدعمهم الإخوان المسلمون، ويشعرون بطابع الدستور”الإلحادي” وإدخال التنويه المتعلق بدين رئيس الجمهورية.
في سورية، كانت الأكثرية المسلمة تطالب بأن يمنح الدستور رسميا مكان دين الدولة للإسلام، كما كان الحال في دساتير العراق، ومصر، والأردن، والمملكة العربية السعودية، وليبيا. وما كانت قد حُذفت ثم أعيد إدراجها-وهي الصيغة المتعلقة بدين رئيس الجمهورية-كانت الأكثرية تعتبرها حدّاً أدنى.
وعلى النقيض من ذلك، كانت مختلف الأقليات، من مسيحيين وعلويين ودروز يعارضون هذا الاعتراف الرسمي، الذي يكرس، إذا صح القول، على الصعيد الرمزي، عدم مساواة سياسية- اجتماعية بين الطوائف. فالسعي إلى رمز ذي هدف مساواتي كان ركناً أساسياً لعملهم السياسي.
بيد أنَّ الدستور وحده لا يكفي لاكتساب الدولة المشروعية المطلوبة، بل تصبح المشروعية حقيقة مقبولة حين تتعزز وثيقة الدستور بالاحترام وتحاط بالشروط الكفيلة بضمان صيانتها، أي حين تتحقق الشرعية الدستورية.
إنَّ ما يميز الدستور الديمقراطي ويجعله جديرًا بهذه الصفة استناده على جملة مقومات تضفي صبغة الديمقراطية عليه، وتبعده عن الدساتير الموضوعة إما بإرادة منفردة، كما هو حال الدساتير الممنوحة، أو عبر استفتاءات مفتقدة إلى شروط الاستقلالية والحياد والنزاهة. لعل أهم مقومات الدستور الديمقراطي:
أولاً: تأسيسه على مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية والتسليم بأنَّ الشعب مصدر السلطات ولا سيادة لفرد أو قلة عليه.
ثانياً: حكم القانون، بحيث يكون الجميع متساوين أمامه من دون أيّ استثناءات.
ثالثاً: وضع نصوص واضحة تنظم عمل السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)؛ لضمان احترام الفصل بينها وتجنّب الاستبداد.
رابعاً: تؤكد فيه الحقوق والحريات .
خامساً: ترسيخ قيم الديمقراطية، وتعزيز التعددية السياسية، من خلال نصوص قانونية تضمن حرية تأسيس الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني،وذلك عبر بناء نظام سياسي يضمن إمكانية التداول السلمي للسلطة بين الأغلبية والمعارضة..
إذا كانت هذه هي ميزة الدستور الديمقراطي الذي يعبد الطريق لولادة دولة دستورية حقيقية، فإنَّ مشروع الدستور في سورية، لا يجوز أنْ يُكَرِّسَ مختلف السلطات في أيدي رئيس الجمهورية، بل عليه أنْ يُفْسِحَ في المجال لعملية الفصل الحقيقي للسلطات، التي تعتبر أهم ركيزة أساسية للدولة الديمقراطية.
يكاد لا يخلو أي دستور دولة عربية من الإشارة الواضحة إلى بنوده المتعددة إلى احترام المؤسسات، واحترام القانون، والحريات الفردية والعامة، والتداول السلمي للسلطة. ومع كل ذلك، فإن الباحثين السياسيين وعلماء الاجتماع المهتمين بتأصيل فلسفة سياسية عقلانية عن الدولة الحديثة والمجتمع المدني في العالم العربي يعتقدون جازمين أن المؤسسات وأشكال التمثيل السياسية مأزومة، بدءاً من دور البرلمان، الذي لم يعد يتحكم بجدول أعمال جلساته، مروراً بشخصنة النقاشات عبر لعبة الانتخابات الرئاسية، أو من خلال إفراغ فصل السلطات من معناه.
وحين نتأمل في أحوال الدولة العربية الراهنة، فإننا نجدها متماثلة مع السلطة، بما أن هذه الدولة رغم أنها ذات دستور، تقلصت إلى حدود العاصمة بحكم مركزية السلطة فيها، وبالتالي فهي دولة هذه العاصمة، لا دولة الأمة ولا دولة الوطن، وهي ليست دولة جميع المواطنين المتساوين أمام القانون، بل هي دولة متحيزة لحزب مهيمن أو لطبقة، أو لدين أو لطائفة أو لإثنية أو لإقليم بعينه. وهنا يكمن الفارق بين دولة عربية ذات دستور وبين دولة دستورية.
فالدولة الدستورية هي تلك الدولة التي تقوم قولاً وفعلاً على احترام الحرية السياسية باعتبارها أصل الحريات وشرط تحققها، فبانعدامها تتعذر ممارسة “حرية الفكر والعقيدة والتملك” على حد قول مونتسكيو. والحرية السياسية لا توجد إلا في ظل الدول التي تحترم القانون، بينما الدولة العربية ذات الدستور، فتلك التي تنتهك القوانين والأنظمة السائدة، لمصلحة النخبة الحاكمة، وتصادر الحريات وتعرضها للضرر والانتهاك، وترفض أيضاً إقامة نوع من التوازن السياسي عبر الالتزام بمبدأ فصل السلطات، بوصفه أداة فنية تجعل التعايش بين المؤسسات الدستورية أمراً ممكناً، ووسيلة للتوفيق بين المشروعيات المتنافسة والمتصارعة داخل المجتمع السياسي. وهذا هو مصدر نشوء الاستبداد في التاريخ السياسي العربي المعاصر.

ضرورة بناء الدولة المدنية
في ظل هذه المرحلة الانتقالية الصعبة والمعقدة التي تشهدها سورية، تقتضي العقلانية السياسية و الحكمة من جانب السلطة الجديدة في دمشق، الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني يَضُمُّ ممثلين عن كافة مكونات الشعب السوري ومختلف القوى السياسية، بما في ذلك الأحزاب، والجمعيات غير الحكومية والأهلية والاتحادات، والنخب الفكرية والأكاديمية؛ ويهدف المؤتمر إلى توحيد الجهود الوطنية ورسم ملامح بناء الدولة الوطنية السورية على أسس تشاركية وشاملة.أي بناء دولة مدنية حديثة تقوم على المبادئ التالية:
يعرف مفهوم الدولة المدنية، المتداول حديثاً، بالدولة الديموقراطية التي تحافظ وتحمي جميع أعضاء المجتمع بغض النظر عن القومية والعرق والدين والمعتقد. هناك عدة مبادئ ينبغي توافرها في الدولة المدنية والتي لا يمكن ان تتحقق بغياب أحد الشروط عنها، أهمها :
-1الدولة المدنية هي الدولة التي تؤمن حرية المعتقد والمساواة والمواطنة ، فالفرد لا يُعرّف بمهنته أو بدينه أو بماله أو بسلطته، ولكن يُعرّف تعريفا قانونيا بأنه مواطن، أي أنه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات. وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين.
2- الدولة المدنية يجب أن تقوم على دستور ومنظومة من القواعد التشريعية والتنفيذية، فالدستور يبلور جملة القيم والأسس التي ارتضاها أفراد المجتمع لبناء نظامه السياسي والاجتماعي.
3‌- الدولة المدنية هي أيضا دولة مؤسسات، وتقوم هذه المؤسسات على مبدأ التخصص فهي تمارس أعمالها بشكل مستقل وفق ما يعرف بمبدأ فصل السلطات ،بحيث تقوم كل سلطة بممارسة مهامها ضمن مجالها المحدد ولا تتجاوزه الا في حدود ما تقتضي ضرورات التعاون والتكامل بين هذه السلطات. إذ إن السلطة العليا في الدولة المدنية هي سلطة القانون الذي يلجأ إليه الأفراد من أجل حفظ حقوقهم من الانتقاص والانتهاك. فالدولة هي التي تطبق القانون وتمنع أي طرف من تطبيق أي شكل من أشكال العقاب بأنفسهم. النظام العام هو الذي يحمي المجتمع.
4-الشرط الأساس لقيام الدولة المدنية المطلوبة اعتماد الديموقراطية كنظام سياسي لها، وأهم شروط النظام الديموقراطي تقوم على فصل السلطات والانتقال السلمي للسلطة، والوصول الى الحكم من طريق انتخابات حرة ونزيهة.
5-من المعالم الأساسية للدولة المدنية وجود مجتمع مدني فاعل ومؤسسات مدنية فاعلة للنهوض بمستوى الوعي السياسي لدى أفراد المجتمع والمساعدة في فهم الواقع السياسي والاجتماعي فهماً صحيحاً والمشاركة في بناء مؤسسات ديموقراطية وممارسة الرقابة عليها من خلال التنظيمات المدنية المختلفة والوسائل الإعلامية والرقابية المتاحة.الدولة المدنية هي استعادة حقيقية لبناء الدولة الوطنية و الارتقاء بها إلى دولة ديمقراطية، أي إعادة إنتاج الدولة الوطنية الحديثة، دولة الحق و القانون المعبرة عن الكلية الاجتماعية و القائمة على مبدأ المواطنة.و تشكل سيادة الشعب، العامل الحاسم في سيرورة التحول الديمقراطي في نطاق الدولة الوطنية.
وتكمن المقدمة الأولى للدولة الوطنية و ضمان تحولها إلى دولة ديمقراطية، في تحرر الأفراد من الروابط و العلاقات الطبيعية ما قبل الوطنية كالعشائرية، و العرقية، و المذهبية، والطائفية، و اندماجهم في فضاء اجتماعي و ثقافي و سياسي مشترك هو الفضاء الوطني.
فالدولة المدنية لا يمكن أن تكون إلا دولة ديمقراطية التي تقوم على مايلي : احترام حقوق الإنسان أولاً، و حقوق المواطن ثانياً، و فكرة الأكثرية الانتخابية الحرة التشكيلية،ثالثاً، وضمان التداول السلمي للسلطة على جميع المستويات وفي كافة مؤسسات الدولة، رابعاً.
فالدولة المدنية لا يمكن أن تكون إلا ديموقراطية لأنها تستبعد الاستئثار بالسلطة وتعتمد الرجوع إلى القاعدة بشكل دوري.و الديمقراطية هنا هي الليبرالية مفهومة فهماً جدلياً و تاريخياً صحيحاً +مفهوم الشعب، وهذا الأخير مُؤَسس على مفهوم الوطن و المواطنة، ونفي «الحرب خارج المدينة»، أي نفي العنف بكل صوره و أشكاله، و نفي الحرب خارج حدود الوطن ونطاق الأمة.
إن الدولة المدنية ليست بدولة عسكرية، و ليست أيضاً بدولة دينية، لكنها ليست بالضرورة أن تكون دولة علمانية بالمعني الغربي للكلمة . فالدولة المدنية ترفض الدولة الدينية « الثيوقراطية»، وتستبعد إسناد عملية الحكم إلى فئة من رجال الدين أو الفقهاء لأن السياسة والإدارة والقانون والاقتصاد هي تخصصات يؤهل لها من يمارسها تأهيلاً خاصاً كما يؤهل رجل الدين أو الفقيه أو العالم بالقضايا الشرعية في المعاهد والكليات الشرعية و لا يمكن لأحد أن يحل محله في الإفتاء والاجتهاد في القضايا الشرعية وكما نعترف لرجل الدين بعلمه وكفاءته في الإفتاء في الأمور الدينية فيجب أن نقر لرجل الاقتصاد والقانون والإدارة والسياسة بخبرته وتأهيله للقيام بالعمل الحكومي وبالتالي فإن الدولة المدنية لا تقبل بأسناد عملية الحكم للفقهاء أو رجال الدين لمجرد أنهم علماء بأمور الدين ويرتدون عباءة الفقيه.
فالدولة المدنية لا ترفض الدين ولا تعادي الدين ولكنها ترفض استغلال الدين لأغراض سياسية فهي ترفض إضفاء طابع القداسة على الأطروحات السياسية لأي من الفرقاء في العمل السياسي أو تنزيه أي رأي من الآراء أو اجتهاد من الاجتهادات عن النقد أو النصح والتوجيه. فالإسلام يفرق بين الوحي وبين الاجتهاد في فهم وتفسير الوحي فلا يعطي لهذه الاجتهادات لذاتها قداسة وإنما يقبلها بقدر ما تقدمه من حجج على صحة فهمها وتفسيرها للكتاب والسنة.ومن جانب آخر فإن الدولة المدنية ترفض نزع الإسلام من ميدانه الروحي ومن مجاله المقدس والزج به في المجال المدنس الذي هو مجال الصراعات والمؤامرات والألاعيب السياسية.
الدولة المدنية من هذا المنظور هي دعوة للانفتاح ودعوة لاستيعاب تراث فكرالحداثة الغربية، لا سيما في مجال قضية حقوق الإنسان، باعتبارها القضية المركزية في نسق الحداثة وفي منظومتها القيمية، وفي الثقافة الديمقراطية سواء بسواء.و لا يمكن فصل مقولة الحرية أو مشكلة الحرية، بتعبير الفلاسفة، عن قضية حقوق الإنسان و كرامته.و من المهم أن نلاحظ أن قضية الحرية كانت غائبة عن الثقافة العربية و عن الفكر السياسي خاصة، و لا تزال غائبة، ولذلك من السهل تذويب الفرد في العشيرة و الطائفة و الجماعة الإثتنية.


ينشر بالتعاون مع مجلة البلاد اللبنانية، العدد رقم 472

spot_imgspot_img