شؤون آسيوية – ستوكهولم –
في ظل أجواء دولية متوترة وسلاسل توريد عالمية لا تزال تتعافى من تبعات الحرب التجارية، انطلقت يوم أمس الاثنين جولة جديدة من المحادثات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، في العاصمة السويدية ستوكهولم.
ويقود الوفد الأميركي وزير الخزانة سكوت بيسنت، بينما يرأس الجانب الصيني نائب رئيس الوزراء هي ليفنغ، في محاولة لإيجاد أرضية مشتركة لتمديد الهدنة الجمركية بين أكبر اقتصادين في العالم، والتي تنتهي رسمياً في 12 أغسطس المقبل.
ستوكهولم: مسرح للهدنة وفرصة جديدة
اختيار السويد لاستضافة الجولة الجديدة جاء بعد اتصالات بين الطرفين خلال اجتماعات لمجموعة العشرين، حيث أعربت وزيرة المالية السويدية إليزابيث سفانتيسون عن فخرها باستضافة هذا الحدث الحيوي.
في صورة رمزية حملت في طيّاتها تطلعات دولية لكسر الجمود، رُفعت الأعلام الأميركية والصينية أمام مبنى “روزنباد”، مقر الحكومة السويدية.
ويبدو أن الطرفين قد أظهرا استعداداً أولياً للتهدئة، حيث علّقت الولايات المتحدة قيودها الأخيرة على صادرات التكنولوجيا إلى الصين، بحسب تقرير لصحيفة “فاينانشال تايمز”. كما أشار بيسنت إلى أن الولايات المتحدة “ترغب في التوصل إلى تمديد محتمل للهدنة”، معتبراً أن العلاقات التجارية “في وضع جيد جداً حالياً”.
لكن في المقابل، تستعد إدارة ترامب لفرض رسوم قطاعية جديدة خلال أسابيع على واردات صينية تشمل أشباه الموصلات، والأدوية، ورافعات الحاويات، ما يعكس التردد الأميركي في تقديم تنازلات جوهرية دون مكاسب ملموسة.
أكثر من مجرد تعريفات
تشير المعطيات إلى أن ما يجري بين واشنطن وبكين يتجاوز مجرد نزاع حول الرسوم الجمركية، ليدخل في عمق النماذج الاقتصادية المختلفة بين البلدين.
فبينما ترى واشنطن أن الاقتصاد الصيني المدفوع بالتصدير، والمدعوم من الدولة، يُغرق الأسواق العالمية بسلع رخيصة، تعترض بكين على ضوابط الأمن القومي الأميركية التي تُقيّد وصولها إلى التكنولوجيا المتقدمة، وتعتبرها محاولة لتقويض صعودها التكنولوجي.
وفي هذا السياق، قال سكوت كينيدي، خبير الاقتصاد الصيني في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن، إن المحادثات السابقة في جنيف ولندن “لم تكن مفاوضات فعلية، بل محاولة لإعادة العلاقات إلى المسار الصحيح”. وأكد أن القضايا الجوهرية لم تُطرح بعد على الطاولة، مشيرًا إلى أن تمديد الهدنة هو الخيار الأقرب للواقع.
خلفية الحرب التجارية
وهنا تجدر الإشارة إلى أن شرارة الحرب التجارية الحالية بدأت منذ أربعة أشهر عندما أعلنت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض رسوم شاملة على واردات من مختلف الدول، وفرضت تحديدًا رسوماً بنسبة 145% على سلع صينية.
وعلى الرغم من خفض تلك الرسوم لاحقاً إلى 30%، إلا أنها شكّلت بداية لتوتر عميق طال الصناعات التكنولوجية، المعادن النادرة، والأدوية، وأشباه الموصلات.
وسرعان ما ردّت بكين بفرض رسوم مضادة وصلت إلى 10%، وأعلنت عن تعليق تصدير المعادن الأرضية النادرة، وهي مواد استراتيجية تدخل في صناعات دفاعية وتكنولوجية متقدمة. وقد أدّت هذه الخطوات إلى اضطرابات كبيرة في سلاسل التوريد، لا سيما في قطاعات السيارات والإلكترونيات.
ضوابط التصدير والتقنيات الحساسة
من أبرز الملفات التي طُرحت في المحادثات الأخيرة، إدراج مسألة ضوابط التصدير ضمن المفاوضات التجارية، وهو تطور غير مسبوق، حيث ذكرت مصادر مطلعة أن وزير التجارة الأميركي هوارد لوتنيك دفع باتجاه تخفيف القيود على تصدير شريحة H20 من شركة “إنفيديا”، وهي تقنية حيوية في مجال الذكاء الاصطناعي، وقد وافق ترامب شخصياً على هذه الخطوة في محاولة لتسهيل المحادثات.
بالمقابل، خففت الصين قيودها على تصدير المعادن الأرضية النادرة، ما عُدّ مؤشراً إيجابياً، حسبما أفادت إيميلي بنسون من شركة “مينرفا”، واعتبرت أن هذه التبادلية في الخطوات قد تمهد لاتفاق أوسع، لكنها شددت على أن “ما تم تحقيقه حتى الآن لا يزال في إطار التهدئة، لا الحل النهائي”.
تداعيات تتجاوز البلدين
لا تقتصر تداعيات المحادثات الأميركية الصينية على البلدين فحسب، بل تؤثر بشكل مباشر على شركاء تجاريين مثل البرازيل والهند، الذين قد يواجهون ارتفاعاً في الرسوم الجمركية يصل إلى 50% اعتباراً من 1 أغسطس، في حال فشلت واشنطن وبكين في التوصل إلى اتفاق.
هذا وكانت إدارة ترامب قد رفعت الرسوم الجمركية الأميركية إلى مستويات لم تُسجّل منذ ثلاثينات القرن الماضي، وفقًا لبيانات “ذي بادجيت لاب” التابع لجامعة يال، ومع تصاعد التهديدات، بدأت أسواق المال والترقب الدولي ينظران إلى لقاء ستوكهولم كاختبار حاسم.
الرهانات السياسية
في خلفية المحادثات، يلوح احتمال عقد قمة بين الرئيس ترامب ونظيره الصيني شي جين بينغ في أواخر أكتوبر أو أوائل نوفمبر، ربما على هامش قمة كبرى في كوريا الجنوبية. ويُنظر إلى هذه القمة كفرصة سياسية لتحويل الهدنة المؤقتة إلى اتفاق دائم.
وكان ترامب قد أعلن، خلال توقيعه أكبر صفقة تجارية له حتى الآن مع الاتحاد الأوروبي، أنه “قريب جداً من التوصل إلى اتفاق مع الصين”، في إشارة إلى أن الأمور تتحرك ببطء ولكن باتجاه إيجابي.
ويتضمن الاتفاق الأوروبي فرض رسوم بنسبة 15% على صادرات أوروبية، مقابل استثمارات ومشتريات طاقة أميركية بمئات المليارات.
ويبدو أن بكين مهتمة أيضاً بإعادة ضبط العلاقات، إذ دعا الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية غوو جياكون إلى “تعزيز التفاهم، وتقليص سوء الفهم، وتشجيع تطوير علاقات مستقرة ومستدامة”.
أين تتجه العلاقات؟
مع اقتراب الموعد النهائي في 12 أغسطس، تتزايد الضغوط للتوصل إلى اتفاق يمدد الهدنة ويمنع العودة إلى حرب تجارية شاملة.
ويُجمع المحللون على أن تمديداً إضافياً لمدة 90 يوماً يبدو هو النتيجة الأكثر ترجيحاً، خاصة مع إشارات خافتة للتقارب، ومصالح اقتصادية عميقة يصعب الفكاك منها بسهولة.
لكن، يبقى مستقبل العلاقات الاقتصادية بين واشنطن وبكين رهيناً بقرار سياسي نهائي من الرئيسين، وكما قال شون ستاين، رئيس مجلس المال والأعمال الأميركي-الصيني: “الأسواق لا تنتظر التفاصيل، بل الأجواء… وبالنسبة للجانبين، سيكون القرار النهائي في يد الرئيس”.