بقلم: محمود موسى مصطفى*/
لا تقاس قوة الدولة الحضارية بما لديها من قوة عسكرية ضاربة، ولا بما تمتلكه من ترسانة نووية مرعبة، بل هنالك عوامل أخرى أهم من ذلك بكثير ومنها:
بناء وإعداد الفرد والمجتمع على الأسس والمبادئ الإنسانية، وتربية الأجيال الصاعدة على القيم الأخلاقية والانتماء الوطني، ومد جسور التعاون والصداقة بكافة المجالات مع الدول والشعوب ونشر السلام العالمي، كل هذه الصفات التي تم ذكرها سابقاً نُسفت من أذهان القادة المؤسسين للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، مما أدى إلى ولادة كيان ممسوخ يحمل بذور فشله وفنائه منذ تأسيسه.
فعلى صعيد الإستراتيجية الداخلية للكيان الصهيوني، وضع الصهيوني فلاديمير زئيف جابوتنسكي “نظرية الأمن الإسرائيلي” أو “الجدار الحديدي”، والتي كتبها عام 1923م، “إذا أراد المرء أن يستوطن بلداً يقطنه شعب، فعليه أن يجد من ينفذ له هذا الأمر، فإذا لم تكن هناك قوة مسلحة، تغطي كل حركة تعارض الاستيطان أو تمنعه أو تعرضه للخطر، فسيكون الاستيطان غير ممكن، إن الصهيونية مشروع استعماري استيطاني يرتبط تقدمه وتراجعه بقوة السلاح، صحيح أنه من المهم أن تتكلم العبرية، ولكن الأهم بكل آسف أن تتقن استخدام السلاح وإلا فلا استيطان”.
ومن ثم جاء من بعده الصهيوني المؤسس للكيان ديفيد بن غوريون بإستراتيجية القوة الرادعة في عام 1948، “بأن امتلاك إسرائيل للسلاح النووي سوف يقلل من قيمة الأسلحة التقليدية لدى العرب، ويضيق الفجوة الديمغرافية معهم، ويشكل رادعاً حاسماً لهم”، حتى أنه وصف “القنبلة الذرية بأنها المفتاح الاستراتيجي لبقاء الدولة الصهيونية على قيد الحياة”.
وعلى صعيد السياسة الخارجية للكيان الصهيوني، ومع بداية الخمسينيات من القرن الماضي قدم الصهيوني موشيه شاريت مشروعه التفتيتي “إن تقوية الميول الانعزالية للأقليات في العالم العربي، وإذكاء النار في مشاعرها وتوجيهها للمطالبة بالاستقلال والتحرر من الاضطهاد الإسلامي هو عمل إيجابي يدمر الاستقرار في تلك المجتمعات”، ومن مشاريعه أيضاً: “أن يحول الدول الثلاث “العراق ـ سوريا ـ مصر” إلى دويلات صغيرة، قائمة على طوائف دينية”.
وانتهجت الصهيونية غولدا مائير إستراتيجية الاختراق الأمني وتنفيذ عمليات الاغتيالات في الدول العربية والدول المعادية للفكر الصهيوني في العالم، وشكلت لجنة “الاكسات” والتي قامت بتسمية الأشخاص المستهدفين في عمليات الاغتيال وذلك بناء على المعلومات المقدمة من أجهزة الاستخبارات الصهيونية، وما زالت هذه الإستراتيجية قائمة حتى يومنا هذا، حيث تم اغتيال آلاف القادة من رجال المقاومة، والعلماء والمفكرين والشخصيات الوطنية في الوطن العربي وفي المنطقة والعالم.
لو أن هذه الاستراتيجيات والمشاريع الصهيونية التي تم ذكرها سابقاً طبقت ونفذت على أكبر وأقوى دول العالم في عصرنا الحالي لانهارت وانتهت من الوجود، فما بالك ببلد بمساحة فلسطين تتحمل كل هذه المصائب، وهنا تكمن قوة وعظمة الشعب العربي الفلسطيني في صبره ونضاله وشجاعته لانتزاع حقوقه المشروعة.
وفي أول عملية اختبار “لنظريات الأمن القومي الصهيوني وللجدران الصهيونية”، شن العرب حرب السادس من تشرين الأول / أكتوبر التحريرية عام 1973، وبعد بضع ساعات من الهجوم العربي، سقط خط آلون بيد الجيش العربي الأول على جبهة الجولان المحتل، وسقط خط بارليف بيد الجيش الثاني والثالث على الجبهة المصرية، وحققت الجيوش العربية انتصارات ساحقة على الجيش الصهيوني وداعميه، وتكبد الأخير خسائر فادحة بالأرواح والمعدات، وتم تحرير أجزاء كبيرة من الأراضي العربية التي احتلها العدو الصهيوني في عدوان الخامس من حزيران عام 1967م.
وشاهد العالم بأسره الهزيمة وسقوط الجدران الصهيونية مرة أخرى في الحرب اللبنانية عام 2000 وحرب تموز / يوليو عام 2006، وانتزعت المقاومة الفلسطينية الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي ذكرى حرب 6 تشرين / أكتوبر التحريرية عام 1973، أضافت المقاومة الفلسطينية يوماً جديد للانتصارات في تاريخ الأمة العربية والإسلامية هو يوم 7 تشرين الأول / أكتوبر عام 2023، لتذكر وتعيد ذكرى حرب رمضان بعملية عسكرية فريدة من نوعها في عصرنا الحديث، حيث سقط الجدار الحديدي للكيان الصهيوني في غلاف غزة، وفي تل أبيب، وفي كل نقطة من فلسطين المحتلة، حيث أصبحت جميعها تحت تأثير الخط الناري للمقاومة، وتكبد العدو الصهيوني في الضربة الأولى آلاف القتلى والجرحى ووقع في الأسر المئات من الصهاينة بيد رجال المقاومة الفلسطينية، وعلى أثر ذلك اندلعت الحرب على قطاع غزة حيث حدد المجرم بنيامين نتنياهو أهداف حربه على قطاع غزة وهي: “القضاء على حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، وإطلاق سراح المحتجزين في غزة، والحفاظ على أمن إسرائيل”.
ولبى العرب نداء الواجب الوطني لمناصرة الشعب العربي الفلسطيني، فبدأت جبهات الإسناد القتالية لدعم المقاومة الفلسطينية من لبنان، وسورية، واليمن، والعراق، والجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكبح ووقف حمام الدم وحرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها شعبنا الفلسطيني في الداخل، وسقطت كل الجدران الفولاذية التي بناها الكيان الصهيوني وأثبتت فشلها في الحروب المعاصرة، وأصبحت جميع المغتصبات الصهيونية تحت تأثير الخط الناري للمقاومة، بعد استخدام محور المقاومة لأسلحة متطورة محلية الصنع أثبتت جدارتها وفعاليتها في أرض المعركة، ومضى قرابة العام من الحرب الشرسة ولم يحقق الجيش الصهيوني أي هدف من أهدافه، بل على العكس تلاحقه الهزائم من جبهة إلى أخرى، فتوجهت قيادة العدو الصهيوني على تفعيل إستراتيجية “غولدا” لتحقيق ولو جزء بسيط من الانتصارات في عمق جبهات المقاومة ولحفظ ماء الوجه في الجبهة الداخلية المنهارة.
وهنا السؤال الذي يطرح نفسه لماذا هذا الانهيار والتآكل السريع من الداخل للكيان الصهيوني؟
كان القادة المؤسسون للكيان الصهيوني في بدايته أكثر ذكاءً وحنكة سياسية من القادة الحاليين، برغم أنهم متساوون بملفات الإجرام والفساد والقضايا الشائكة بإدارة الحكم في الكيان الصهيوني، فعلى سبيل المثال: كانت سياسة ديفيد بن غوريون تتبع وسائل تعويض الضعف الحاصل بالتمسك الاجتماعي، وتعميق العلاقات الدبلوماسية مع الدول، والسعي للسلام مع العرب، واستطاع بن غوريون أيضاً أن يتجاوز التناقضات الجذرية التي بنيت عليها دولة الكيان الصهيوني، (الدولة اليهودية الدينية)، و(الدولة العلمانية)، فكان يسوق بن غوريون لإقامة الدولة الدينية من أجل جلب اليهود من دول الشتات إلى فلسطين المحتلة، وكسب تعاطف العالم مع القضية اليهودية، وبنفس الوقت يقدم دولته على أنها علمانية أمام دول العالم المتحضر، مما يحسن من سمعة دولة الكيان الصهيوني أمام هذه الدول المتطورة، وهذا سهل له عملية إقامة علاقات دبلوماسية معها، وهكذا جاء الدعم الدولي والدبلوماسي والسياسي للدولة العبرية في آن واحد.
أما الحكام الحاليون للكيان الصهيوني هم أكثر ولاء للحركة الصهيونية العالمية ولمبادئها العنصرية والإجرامية والتعالي على الشعوب، وهؤلاء ليس لديهم الخبرة الكافية في مجال السياسية وإدارة الكيان الصهيوني، ويفتقرون لأدنى دراجات اللباقة والآداب الدبلوماسية، وهذا واضح من تصريحاتهم وتصرفاتهم العوجاء مع من حولهم ومع الدول التي تدعمهم، فاتجهوا إلى الطبيعة الهمجية للصهيونية وشنوا حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة وعلى المدن الفلسطينية المحتلة، وبسبب علاقتهم الندية والسيئة مع دول العالم فرضت عليهم العزلة السياسية والدولية من قبل حرب غزة حتى يومنا هذا، وأصبح معظمهم مطلوبين للمحاكم الدولية، وخسر الكيان الصهيوني التعاطف الدولي معه، بعد خروج التظاهرات في أكثر عواصم دول العالم المنددة بحرب الإبادة الجماعية التي ينفذها العدو الصهيوني على قطاع غزة. حتى اليهود المنخرطين بالحركة الصهيونية بدؤوا بالتخلي عنها، ومن الملاحظة الأعداد الكبيرة لهجرة الصهاينة من فلسطين المحتلة إلى الدول التي جاؤوا منها وبأراقم كبيرة تتجاوز المليون مهاجر، وهذا سيؤثر على جميع مناحي الحياة في داخل الكيان الصهيوني، وخاصة في المجال العسكري. فجيش العدو الصهيوني يعتمد على الرجل والمرأة في آن واحد في الخدمة العسكرية، ومن هنا بدأت عملية الخلل في الوحدات القتالية، ولذلك هناك إرباك كبير لدى القادة العسكريين في عملية انتشار القوات الصهيونية، وخاصة بعد دخول الضفة الغربية في جبهات القتال بشكل فعلي وأكثر قوة من قبل، ومع عودة العمليات الاستشهادية في عمق مغتصبات العدو الصهيوني سيكون الوضع أكثر سوءاً في الأراضي المحتلة.
وفي المقابل، فإن المقاومة في جميع الجبهات لا تزال متماسكة ولديها القدرة على حرب الاستنزاف ولسنوات طويلة، وتتزايد القوة البشرية لديها، بالإضافة للدعم الشعبي والعالمي لها، لذلك فإن انهيار الكيان الصهيوني أصبح أمراً واقعياً بعد تصدع كل الجدران الحديدية التي صنعها منذ تأسيسه حتى يومنا هذا.
*كاتب وباحث سوري.