شؤون آسيوية – بقلم: د. سجاد عابدي*
وصل صيف عام ۱۴۰۴ هـ شمسياً إلى منتصفه، وتقف إيران في واحدة من أكثر المواقف الجيوسياسية تعقيداً في السنوات الأخيرة. في حين تقترب أوروبا من تفعيل آلية الزناد، كثّفت إسرائيل من هجماتها المستهدفة على المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية، وتشهد الحدود نشاطات غير مسبوقة من الجماعات الانفصالية، كما أن أجواء الوكالة الدولية للطاقة الذرية تتأثر بشكل كبير بالضغوط السياسية. في هذا المشهد، السؤال الأساسي هو: ما الاستراتيجية التي ستتبعها إيران في مواجهة هذا المزيج المعقد من الضغوط؟
تُعتبر آلية الزناد، التي يمكن تفعيلها حتى ۱۸ أكتوبر ۲۰۲۵، والتي تسعى أوروبا لتفعيلها خلال الأيام القادمة، أداة سياسية لاستعادة العقوبات المفروضة من مجلس الأمن الدولي. وفي حين أن تقارير الوكالة الأخيرة وفرت الأساس القانوني لهذا المسار، ترى طهران أن هذه التقارير متأثرة بـ«السياسة» وانحياز الوكالة عن الحياد. وقد وصف بعض المسؤولين الإيرانيين ربط تفعيل هذه الآلية بـ«إعلان حرب اقتصادية»؛ وهو تعبير يشير إلى أن طهران لا تنظر لهذا الإجراء كمسألة قانونية فحسب، بل كجزء من هندسة ضغط شاملة تهدف إلى تغيير ميزان القوى الإقليمي.
في هذا الإطار، تأتي الهجمات الإسرائيلية والأمريكية على المراكز الحساسة في إيران خلال شهري خرداد وتير، من منشآت نطنز وفردو إلى المراكز العسكرية القيادية، كمكمل للضغط القانوني والنفسي. وعلى الرغم من أن هذه الهجمات كانت محدودة ومستهدفة، إلا أن رسالتها كانت واضحة: الحرب ليست فقط باستخدام القوة العسكرية، بل تجري في العقول والحسابات الاستراتيجية. وهذه الهجمات جزء من مشروع يهدف إلى «بناء واقع جديد» لإجبار إيران على إعادة تعريف سلوكها الاستراتيجي في المنطقة.
ومع ذلك، وعلى عكس بعض التقييمات في وسائل الإعلام الغربية، فإن إيران ليست طرفاً سلبياً. أظهر الرد الصاروخي الإيراني على أهداف محددة داخل الأراضي الإسرائيلية في شهر تیر أن القدرة الردعية للصواريخ الإيرانية ما زالت قائمة وقادرة على تغيير قواعد اللعبة. وكان هذا الرد، إلى جانب حفاظه على عنصر الردع، يحمل رسالة واضحة لتل أبيب والعواصم الغربية بأن قدرة طهران على الرد تمتد خارج طاولة المفاوضات وتظهر جلية على أرض الواقع.
إلى جانب القوة العسكرية، برز النشاط السياسي الإيراني أيضاً، بدءاً من الزيارات المتكررة إلى موسكو وبكين وباكو ومكة، وصولاً إلى محاولة تنشيط قدرات الدبلوماسية الجنوب-جنوبية، حيث تسعى طهران إلى بناء درع جديد يصد العزلة المفروضة عليها. ويعتمد ما يُسمى بـ«عقيدة البقاء في عصر الضغط الأقصى» على ثلاثة محاور رئيسية: الردع الصاروخي، الدبلوماسية الفاعلة، والتحكم في الجبهة الداخلية.
أما على الجبهة الداخلية، فتتصاعد التهديدات. فالجماعات المسلحة الانفصالية، التي تحظى بدعم مالي وإعلامي من بعض القوى الخارجية، تحاول في بعض المناطق استغلال الفجوات الاجتماعية والعرقية المحتملة. ورغم أن هذه التحركات متفرقة ومحدودة، فإنها، في ظل الأجواء المتوترة الناتجة عن الهجمات الخارجية والضغوط الاقتصادية، تمتلك القدرة على التحول إلى أزمات أمنية. إن سيناريو «التمرد من الداخل، والضغط من الخارج» يستهدف إيران من جديد.
في هذا السياق، تُعتبر اتهامات بعض المؤسسات ووسائل الإعلام الإيرانية لرافائيل غروسي، المدير العام للوكالة، بالانحياز وتقديم تقارير موجهة، محاولة لتقويض الأساس القانوني لتفعيل آلية الزناد. وإن التشكيك في مصداقية تقارير الوكالة قد يضعف شرعية الإجراءات الغربية، لكنه في الوقت ذاته يزيد من تعقيد المسار الدبلوماسي ويشوبه الغموض.
تواجه إيران حالياً ثلاث تهديدات متزامنة: الضغوط القانونية عبر آلية الزناد، التهديدات الأمنية من إسرائيل والولايات المتحدة، ومحاولات زعزعة الاستقرار من الداخل. ولكن، بقدر ما تبدو هذه التهديدات واقعية، فإن أدوات الردع لدى طهران جدية ومتنوعة. وفي هذه اللحظة، لا يدور الصراع فقط حول الصواريخ والمفاوضات، بل حول الهوية ومستقبل النظام الإقليمي.
في النهاية، القرار يعود إلى طهران: هل ستصمد وتقاوم أم ستعيد تعريف تعاملها؟ هل تستمر في المقاومة أم تعيد ترتيب أوراقها التكتيكية؟ هل تحافظ على وحدتها أم تخاطر بالتآكل التدريجي؟ هذا الاختيار سيحدد ليس فقط مصير الجمهورية الإسلامية، بل مستقبل الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط بأسره.
*خبیر في الشأن الأمني و السیبراني الإیراني