شؤون آسيوية – دمشق – خاص –
تشهد سوريا محطة سياسية فارقة، إذ تتجه الأنظار إلى انتخابات مجلس الشعب المقررة في الخامس من أكتوبر المقبل.
هذه الانتخابات تُجرى في ظل ظروف معقدة أمنياً وسياسياً واجتماعياً، وتُعتبر اختباراً حقيقياً لمدى قدرة السلطة الانتقالية على إدارة المرحلة وبناء مؤسسات قادرة على تمثيل السوريين وإعادة الشرعية السياسية إلى الدولة.
تسوية انتقالية..
دخلت سوريا حالة فراغ تشريعي منذ حل مجلس الشعب التابع للنظام السابق أواخر 2024، إلى جانب حل حزب البعث والأجهزة الأمنية والفصائل المسلحة، وإلغاء العمل بالدستور القديم، هذا الفراغ دفع رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع إلى إصدار الإعلان الدستوري الذي نص في مادته (24) على تشكيل مجلس شعب مؤقت يتولى السلطة التشريعية حتى إقرار دستور دائم وانتخابات عامة جديدة.
في 13 يونيو 2025، أصدر الشرع المرسوم رقم (66) الذي أنشأ اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب برئاسة محمد طه الأحمد وعضوية عدد من القانونيين والسياسيين، كما نص على تشكيل المجلس الجديد خلال 60 إلى 90 يوماً، واعتماد نظام انتخابي مؤقت غير مباشر، وفي 20 أغسطس أُصدر المرسوم (143) ليصادق على هذا النظام.
يتكون المجلس من 210 أعضاء، 140 منهم يُنتخبون عبر هيئات ناخبة تشكلها اللجان الفرعية، بينما يعيّن الشرع 70 عضواً.
هذه الصيغة وُصفت بأنها “تسوية انتقالية” كحل للتحديات التي تواجه البلاد، وأبرزها غياب سجلات مدنية دقيقة نتيجة النزوح والدمار، وانعدام الظروف الأمنية لإجراء انتخابات عامة مباشرة تشمل الداخل والخارج.
شروط الترشح التي وضعت، والمتمثلة في أن يكون المرشح سورياً قبل مايو 2011، ومقيماً في دائرته لخمس سنوات متتالية قبل ذلك العام، وألا يكون من داعمي النظام السابق أو المنخرطين في التنظيمات الإرهابية أو دعاة الانفصال، هذا واستُبعد العسكريون والأمنيون والوزراء والمحافظون، فتحت جدلاً واسعاً حول حدود الإقصاء ومدى شموليته.
الإعلان الدستوري كمرجعية
الإعلان الدستوري الصادر في ديسمبر 2024 وضع الإطار القانوني للعملية الانتقالية، حيث منح المجلس المؤقت سلطات واسعة: اقتراح القوانين وإقرارها، تعديل التشريعات السابقة، المصادقة على المعاهدات، إقرار الموازنة، وإعلان العفو العام.
المادة (25) وفرت حصانة للنواب، فلا يمكن عزلهم إلا بموافقة ثلثي الأعضاء، في المقابل، أبقت المادة (38) لرئيس الجمهورية حق الاعتراض على القوانين، ولا يتجاوز هذا الفيتو إلا بثلثي أصوات المجلس.
وتحدد ولاية المجلس بـ30 شهراً قابلة للتمديد، وهو ما يجعله جسراً دستورياً نحو مرحلة جديدة، لكن هناك من يخشى أن يتحول هذا “المؤقت” إلى دائم، إذا لم يتم التقدم في صياغة دستور شامل.
الإجراءات الزمنية
بدأت العملية الانتخابية باستقبال طلبات الترشح لعضوية الهيئات الناخبة في الصيف، حيث تجاوز عدد المتقدمين 14 ألفاً، بينهم نسبة ملحوظة من النساء.
وبعد سلسلة مراحل –إصدار القوائم المبدئية، فتح باب الطعون، اعتماد القوائم النهائية– وصلت العملية إلى المرحلة الأخيرة، حيث فُتح باب الترشح للمجلس يومي 27 و28 سبتمبر، ثم بدء الحملات الانتخابية، وصولاً إلى الاقتراع في الخامس من أكتوبر.
التأخير عن الموعد الأصلي (15 – 20 سبتمبر) أثار انتقادات وجدلاً، لكن اللجنة العليا أوضحت أن الأمر يعود لأسباب لوجستية مرتبطة بكثرة الطلبات ودقة التدقيق في الشروط، فيما اعتبر خبراء أن هذا التأخير طبيعي في سياق انتقالي معقد، ولا يُعد تأجيلاً سياسياً.
الحملات الانتخابية والقيود القانونية
بعد إغلاق باب الترشح، يبدأ المرشحون حملاتهم لمدة سبعة أيام فقط، وتمنع اللوائح استخدام شعارات إثنية أو مذهبية أو طائفية، وتحظر التشهير أو خداع الناخبين.
هذه القواعد تهدف إلى منع إعادة إنتاج خطاب الانقسام الذي غذى الحرب الأهلية، غير أن قِصر فترة الحملة يحد من قدرة المرشحين على التواصل الفعّال مع الناخبين، خاصة في ظل ضعف الإعلام المحلي المستقل.
وفي هذا السياق أشار المتحدث باسم اللجنة، نوار نجمة، إلى نية تنظيم مناظرات فكرية بين المرشحين، وهو أمر غير مألوف في التجربة السورية السابقة، وقد يشكل بارقة أمل نحو منافسة سياسية فعلية.
توقعات لدور المجلس
المجلس الجديد، إذا ما اكتسب شرعية نسبية، سيكون أمامه مهام ضخمة لجهة سن قوانين جديدة تعكس التحول من دولة أمنية إلى دولة مدنية، إقرار معاهدات قد تعيد رسم تحالفات سوريا الخارجية، ومناقشة إصلاحات اقتصادية تُنهي عقوداً من السيطرة الحكومية المطلقة، كما سيُعهد إليه بمناقشة مسار العدالة الانتقالية، بما في ذلك قضايا المعتقلين والنازحين واللاجئين.
غير أن قدرته على القيام بكل ذلك ستعتمد على أمرين: مدى استقلاليته الفعلية عن الرئيس الشرع، ومدى قبوله من قبل المكونات السورية غير المشاركة حالياً، مثل قسد وبعض قوى المعارضة في الخارج.
العقبات الأمنية والسياسية
ثلاث محافظات أساسية، هي الرقة والحسكة والسويداء، استُبعدت موقتاً من العملية بسبب ظروف أمنية.
ففي الرقة والحسكة، تسيطر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي ترفض الاعتراف بالسلطة الجديدة، فيما تعيش السويداء اضطرابات شديدة نتيجة الاقتتال الذي حصل بين أبناء المنطقة والعشائر.
هذا الواقع حال دون تنظيم الاقتراع، ما دفع اللجنة لطرح ثلاثة خيارات بديلة: الاقتراع خارج المحافظات، تعيين نواب عنها، أو ترك المقاعد شاغرة، إلا أن أيّاً من هذه الخيارات يظل محل جدل سياسي وقانوني، إذ يرى مراقبون أنها تضعف شرعية المجلس وتؤجل مواجهة التحديات الوطنية الكبرى.
التحديات الاجتماعية والديموغرافية
إحدى أكبر العقبات أمام التمثيل العادل هي التغيرات الديموغرافية العميقة، إذ يعيش نحو ثلث السوريين خارج البلاد كلاجئين أو مهاجرين، فيما فقد ملايين النازحين داخل سوريا عناوينهم المدنية، لذا اعتمد النظام الانتخابي الحالي على بيانات قديمة تعود إلى 2011، ما يثير تساؤلات حول مدى دقة توزيع المقاعد.
مع ذلك، حاولت اللجان الفرعية مراعاة التنوع، فنصت القواعد على تخصيص 20% من المقاعد للنساء، و3% لذوي الإعاقة ومصابي الثورة، إضافة إلى تمثيل المهجرين وذوي الشهداء والناجين من المعتقلات، في محاولة لإدماج الفئات المهمشة، لكنها لا تحل جذرياً مشكلة التمثيل السكاني.
جدلية النظام غير المباشر
رغم وصفه بحل مؤقت، أثار النظام غير المباشر انتقادات لكونه يقلص المشاركة الشعبية، فبعض المرشحين مثل أحلام العلي من إدلب عبّرت عن خشيتها من أن يؤدي غياب جدول زمني واضح وتأجيلات متكررة إلى إضعاف ثقة الناس بالعملية، في حين رأى آخرون أن النظام يوفر تمثيلاً نسبياً أكثر انضباطاً، ويمنع الفوضى الناتجة عن غياب بيانات الناخبين.
المعضلة هنا بين الواقعية والمثالية: هل الأفضل انتخابات غير مباشرة قابلة للتنفيذ، أم انتظار انتخابات مباشرة قد تكون مستحيلة في ظروف التهجير والنزوح؟ هذا الجدل يعكس طبيعة المرحلة الانتقالية نفسها، حيث تغيب الحلول الكاملة.
المجتمع الدولي والرقابة
الانتخابات تحظى باهتمام خارجي واضح، حيث أظهر لقاء اللجنة العليا مع سفراء الاتحاد الأوروبي في دمشق رغبة أوروبية في دعم العملية فنياً، والمشاركة في الرقابة لتعزيز مصداقيتها.
رئيس اللجنة، محمد طه الأحمد، أكد التزام الشفافية وإمكانية دعوة بعثات دبلوماسية ومنظمات دولية لحضور الاقتراع، الأوروبيون شددوا على ضرورة إشراك المجتمع المدني وضمان التمثيل الشامل لكل المكونات.
هذا الانفتاح على المراقبة الدولية يُعد خطوة مهمة، ويعكس إدراكاً دولياً أن نجاح أو فشل الانتخابات سيترك بصمة على الاستقرار الإقليمي، إلا أنه يبقى رهناً بمدى تعاون السلطة الانتقالية ومرونتها في السماح برقابة فعلية، لا مجرد شكلية.
ما بين الأمل والقلق
بالنسبة لكثير من السوريين، تعد هذه الانتخابات محاولة لإحياء الحياة النيابية، وهناك آمال بأن يشكل المجلس الجديد بداية لعقد اجتماعي مختلف، قائم على المواطنة لا الولاءات الطائفية والعشائرية، لكن القلق قائم أيضاً من أن يتحول إلى مؤسسة شكلية أخرى، أو أن تُمدد ولايته بلا نهاية، مما يكرس حالة انتقالية مفتوحة.
النقاشات في الشارع السوري تعكس هذا التوتر، إذ يرى بعض المواطنين مجرد إجراء الانتخابات خطوة إيجابية تدل على رغبة بتنظيم الحياة السياسية، في حين يشكك آخرون بقدرتها على تحقيق تمثيل حقيقي في ظل غياب الملايين من السوريين خارج البلاد.
وهناك من يعتقد أن المجلس سيكون مجرد مرحلة تمهيدية لا أكثر، وأن الإنجاز الحقيقي سيكون عند صياغة الدستور الجديد وإجراء انتخابات عامة شاملة.
انتخابات مجلس الشعب في أكتوبر 2025 تمثل امتحاناً للسلطة الانتقالية، ومختبر لإرادة السوريين في إعادة بناء دولتهم، ونجاح العملية سيعني بداية تكوين شرعية دستورية جديدة، بينما فشلها قد يعمق الانقسام ويعيد عقارب الساعة إلى الوراء.