شؤون آسيوية – خاص –

تتجه الأنظار من جديد نحو طهران وتل أبيب، حيث تتقاطع المسارات النووية والعقوبات والتهديدات العسكرية في مشهد بالغ التعقيد، إذ يبدو أن آلية “سناب باك”، التي أعادت الولايات المتحدة وحلفاؤها تفعيلها مؤخراً لإعادة فرض العقوبات الأممية على إيران، لم تكن مجرد خطوة قانونية، بل تحوّلت إلى نقطة تصعيد سياسي وأمني قد تغيّر موازين القوى في المنطقة.
ومع تصاعد الخطاب المتبادل بين إيران وإسرائيل، تعود الأسئلة القديمة من جديد: هل يسير الطرفان نحو مواجهة مفتوحة؟ أم أن الحرب ستبقى مؤجلة بفعل توازن الردع وتضارب المصالح الدولية؟

“سناب باك” كأداة خنق سياسي واقتصادي
تفعيل آلية “سناب باك” لم يكن خطوة عشوائية، فالآلية، التي تتيح إعادة فرض العقوبات الأممية على إيران دون الحاجة لتصويت جديد في مجلس الأمن، أعادت طهران إلى مربع الضغط الأقصى الذي عرفته بين عامي 2018 و2020.
هذه العقوبات تشمل قيوداً على تجارة النفط والسلاح والطيران، وتضييقاً على التعاملات المالية مع البنوك الإيرانية، ما يعني تجميد جزء كبير من قدرتها على تمويل شبكاتها الإقليمية، غير أن وقع العقوبات هذه المرة أشد وطأة، إذ تأتي بعد سنوات من التآكل الاقتصادي الداخلي وتراجع العملة الإيرانية وتزايد البطالة وتآكل الاحتياطي النقدي.
من وجهة نظر واشنطن وحلفائها، فإن الغاية منع إيران من تحقيق قفزة جديدة في برنامجها النووي، الذي تقول الوكالة الدولية للطاقة الذرية إنه يقترب من مستويات التخصيب الحرجة، وفي الوقت ذاته، إضعاف قدرتها على تمويل عملياتها الإقليمية الممتدة من العراق إلى لبنان واليمن، لكن في المقابل، ترى طهران أن هذه العقوبات تمثل “عملاً عدائياً متجدداً” وأنها استهدافٌ مباشر لسيادتها، ما يدفعها نحو خيارات أكثر حدة.

الداخل الإيراني بين الصمود والانفجار
تواجه الحكومة الإيرانية وضعاً داخلياً صعباً، فالعقوبات الجديدة فاقمت التضخم، ورفعت أسعار السلع الأساسية، وضغطت على الطبقة المتوسطة التي أصبحت تتحمل عبء الأزمة المالية والسياسية معاً، وفي المقابل، تحاول القيادة الإيرانية توظيف “التهديد الخارجي” في تعبئة الداخل، مقدمةً نفسها كدرع يحمي البلاد من مؤامرة غربية ـ إسرائيلية تستهدف وجودها.
إلا أن هذا الخطاب يجد مقاومة متزايدة داخل المجتمع الإيراني، الذي بات أكثر نقداً، فالاحتجاجات التي اندلعت خلال العامين الماضيين على خلفيات اقتصادية واجتماعية لم تختفِ، بل تحولت إلى مزاج عام من التململ الصامت، ورغم تشديد القبضة الأمنية، يدرك صناع القرار في طهران أن أي مغامرة عسكرية واسعة قد تُشعل الداخل أكثر مما توحده.
في هذا السياق، تحاول إيران الموازنة بين سياسة “الردع المرن” والتصعيد المحسوب، فبدلاً من المواجهة المباشرة، تواصل تطوير صواريخها متوسطة وبعيدة المدى، وتستعرض قدراتها في المناورات، وتعلن عن تحسينات في دقة منظوماتها الباليستية.
هذا السلوك لا يُقرأ فقط كرسالة لإسرائيل أو واشنطن، بل أيضاً كإشارة للداخل الإيراني بأن النظام ما زال قوياً وممسكاً بزمام المبادرة.

الفرصة الذهبية
من الجانب الآخر، تتابع إسرائيل المشهد الإيراني بعيون استخبارية مفتوحة، فالضربات التي نفذتها في الأشهر الماضية داخل الأراضي الإيرانية — والتي استهدفت منشآت عسكرية ومواقع تطوير صاروخي — كشفت أن تل أبيب تعتبر أن فترة الضغط الدولي على إيران فرصة استراتيجية لضرب قدراتها الحساسة دون مواجهة شاملة.
الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي تواجه تحديات داخلية على خلفية الانقسامات السياسية والاحتجاجات، تجد في التهديد الإيراني عامل توحيد داخلي يعيد ترتيب الأولويات الوطنية.
من جهته، كثف الجيش الإسرائيلي مناوراته الدفاعية والهجومية في الجنوب والشمال، وعزّز جاهزية منظومات “القبة الحديدية” و”مقلاع داوود”، مع تطوير التعاون الدفاعي مع الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، والهدف، كما تقول مصادر إسرائيلية، هو “الاستعداد لأسوأ السيناريوهات” في حال قررت طهران الرد بشكل مباشر.
لكن في الوقت نفسه، لا تملك إسرائيل ترف الحرب الطويلة، فاقتصادها يواجه تباطؤاً، ورأيها العام ليس مهيأ بعد لحرب استنزاف تمتد إلى عدة جبهات، لذلك، تبقى خياراتها بين ضربات محددة ومحسوبة، أو حرب استخباراتية تضعف خصمها دون التورط في صراع شامل.

وكلاء إيران وحلفاء إسرائيل
لا يمكن النظر إلى احتمال الحرب بين إيران وإسرائيل بمعزل عن شبكة الوكلاء والتحالفات الممتدة عبر المنطقة، فإيران تمتلك بنية نفوذ متشعبة تضم “حزب الله” في لبنان، و“الحشد الشعبي” في العراق، و“أنصار الله” في اليمن.
هذه الأطراف هي ذراعها الردعي خارج حدودها، في حال تعرضت لهجوم إسرائيلي مباشر، يُتوقع أن تُستخدم هذه الشبكة لفتح جبهات متزامنة تُربك الدفاعات الإسرائيلية وتوسّع ساحة المواجهة إلى ما وراء الحدود.
في المقابل، تمتلك إسرائيل دعماً سياسياً وعسكرياً واسعاً من الولايات المتحدة، وعلاقات استراتيجية مع دول عربية تسعى لاحتواء النفوذ الإيراني، مثل الإمارات والبحرين، إضافة إلى تفاهمات أمنية غير معلنة مع السعودية، وهذا الاصطفاف الجديد يجعل من أي حرب محتملة مواجهة إقليمية متعددة الطبقات، أكثر منها نزاعاً بين دولتين.

من الردع إلى الحرب
يُجمع معظم المحللين على أن احتمال الحرب الكاملة بين إيران وإسرائيل لا يزال محدوداً، لكن خطر الانفجار قائم دائمًا، حيث يُظهر التاريخ في هذه المنطقة أن الحروب الكبرى لم تبدأ بخطط معلنة، بل بسلسلة من الأحداث الصغيرة التي خرجت عن السيطرة.
وهناك عدة عوامل يمكن أن تشكل “الزناد” المحتمل للحرب المقبلة منها هجوم إسرائيلي واسع على منشأة نووية داخل إيران، أو اغتيال شخصية عسكرية بارزة في الحرس الثوري، أو عملية إيرانية عبر وكلائها تستهدف منشأة حيوية في إسرائيل أو قاعدة أمريكية في الخليج.
أيٌّ من هذه الأحداث يمكن أن يطلق دوامة من الردود المتبادلة، تتجاوز قدرة الطرفين على ضبطها.
المعضلة الكبرى تكمن في أن كلاً من إيران وإسرائيل يواجه اليوم بيئة استراتيجية مضغوطة، من جهتها ترى إيران أن الضغط الاقتصادي المتزايد يهدد أمنها القومي وقدرتها على الردع، بينما تعتبر إسرائيل أن البرنامج النووي الإيراني يقترب من نقطة “اللاعودة”، ومع غياب قنوات تفاوض فعّالة، يصبح احتمال سوء الحسابات أكبر من أي وقت مضى.

الحرب بالوكالة
على المدى القريب، يبدو أن الطرفين يفضلان الاستمرار في “الحرب بالوكالة”، هذا النمط من الصراع يُمكِّن إيران من الرد عبر أطراف ثالثة دون أن تتحمل كلفة المواجهة المباشرة، ويتيح لإسرائيل توجيه ضربات دقيقة من دون الدخول في حرب شاملة، هذه الاشتباكات الجزئية تشكل “حرب الظل” التي تديرها الأطراف منذ سنوات.
لكن خطورة هذا السيناريو تكمن في هشاشته، فعملية واحدة غير محسوبة أو هجوم صاروخي عابر للحدود يمكن أن يغيّر المعادلة في لحظة، وكما حدث في أبريل 2025 حين تبادلت إيران وإسرائيل هجمات محدودة استمرت اثني عشر يوماً، قد يتحول أي تصعيد مماثل إلى مواجهة أوسع إذا تجاوز أحد الطرفين الخطوط الحمراء.

السيناريوهات المحتملة للمواجهة المقبلة
التحليلات الاستخباراتية الغربية والعربية تتحدث عن أربعة سيناريوهات رئيسية محتملة للمواجهة المقبلة بين إيران وإسرائيل، تتدرج من الأدنى إلى الأعلى من حيث التصعيد:
السيناريو الأول: حرب الظل المستمرة، وهو الأكثر ترجيحاً في المدى القريب، حيث يستمر الطرفان في عمليات استخباراتية وهجمات سيبرانية وضربات محدودة عبر وكلاء، هذا السيناريو يسمح بالحفاظ على توازن الردع دون انزلاق شامل، ويُبقي الصراع ضمن “قواعد غير مكتوبة”.
السيناريو الثاني: تصعيد محدود ومؤقت، إذ قد تنفذ إسرائيل ضربة جوية ضد منشآت إيرانية تعتبرها تهديدًا نوويًا، فترد طهران بهجمات صاروخية محدودة أو عبر فصائلها الإقليمية. هذا النوع من المواجهة القصيرة يخدم أغراضًا سياسية داخلية للطرفين، لكنه يبقى محفوفًا بخطر التوسع غير المقصود.
وفي السيناريو الثالث قد تتدخل الجماعات المرتبطة بإيران بمواجهة متعددة الجبهات، بالتوازي مع هجمات سيبرانية وصاروخية متبادلة، هذا النوع من الحرب سيتطلب تنسيقًا عالياً من إيران، ويضع إسرائيل أمام استنزاف خطير على جبهات مختلفة.
السيناريو الرابع: الحرب الشاملة، هو السيناريو الأكثر خطورة والأقل احتمالًا، لكنه يبقى ممكناً في حال فشل الردع تماماً أو إذا تجاوزت إيران عتبة نووية جديدة، في هذه الحالة قد تلجأ إسرائيل إلى ضربات جوية واسعة بمشاركة أمريكية، فيما ترد طهران بصواريخ بعيدة المدى وتعبئة حلفائها الإقليميين.
تداعيات مثل هذه الحرب ستكون كارثية اقتصادياً وسياسياً، وستدفع المنطقة إلى مرحلة غير مسبوقة من الفوضى.

الحسابات الدولية
القوى الكبرى ليست بعيدة عن هذا المشهد، فالولايات المتحدة، رغم دعمها الواضح لإسرائيل، لا ترغب في اندلاع حرب جديدة في الشرق الأوسط وهي تخوض صراعًا استراتيجيًا مع الصين وروسيا.
الإدارة الأمريكية تمارس ضغوطاً خلف الكواليس لمنع أي مواجهة مباشرة، خشية أن تؤدي إلى انفجار إقليمي يهدد استقرار أسواق الطاقة العالمية.
أما روسيا، فهي تجد في التوتر بين إيران وإسرائيل فرصة لتعزيز نفوذها في المنطقة من خلال الوساطة غير المعلنة، في الوقت الذي تحافظ فيه على علاقاتها العسكرية مع كلتا الدولتين.
الصين بدورها تراقب عن كثب، إذ تعتمد على استقرار إمدادات النفط من الخليج وإيران، وتسعى لتثبيت نفسها كقوة موازنة في النظام الدولي الجديد.
في ظل هذا التداخل، تصبح الحرب بين إيران وإسرائيل مسألة دولية بامتياز، تتجاوز حسابات الجغرافيا إلى معادلات الطاقة والتجارة العالمية.

تفوق تقني مقابل عمق جغرافي
من حيث القدرات، لا جدال في أن إسرائيل تمتلك تفوقاً نوعياً في التكنولوجيا العسكرية، والطيران، والاستخبارات، بفضل الدعم الأمريكي المباشر وتراكم خبراتها في الحروب القصيرة، لكن إيران، رغم ضعفها في الطيران، تتمتع بميزة العمق الجغرافي وقدرات الصواريخ بعيدة المدى، إضافة إلى شبكة من الحلفاء القادرين على فتح جبهات متعددة.
التقارير العسكرية الغربية تشير إلى أن إيران تملك الآن صواريخ يصل مداها إلى أكثر من 2000 كيلومتر، بعضها مزود بأنظمة توجيه دقيقة، هذا بالإضافة إلى أن طهران أظهرت في السنوات الأخيرة قدرة متزايدة على استخدام الطائرات المسيّرة في تنفيذ عمليات دقيقة بتكاليف منخفضة.
في المقابل، تراهن إسرائيل على تفوقها في الاستخبارات والقدرة على الضربات الجراحية داخل العمق الإيراني، مستفيدة من شبكات عملاء وعلاقات أمنية مع قوى غربية وإقليمية.
الحرب بين الطرفين — إن وقعت — ستكون بين من يملك الذكاء التقني ومن يملك الصبر الاستراتيجي.

هل الحرب قادمة حقاً؟
التقديرات المتداولة بين مراكز الأبحاث تتراوح بين من يرى الحرب وشيكة، ومن يعتقد أنها ستبقى مؤجلة بفعل الردع المتبادل.
بعض التحليلات مثل تقرير “فِتش سوليوشنز” تقدّر احتمال الحرب الكاملة بنحو 20 إلى 25 في المائة، بينما يرفع آخرون النسبة إلى 30 في المائة في حال استمرار العقوبات دون مخرج دبلوماسي.
في المقابل، يرى محللون إقليميون أن احتمال استمرار “الاحتواء المراقَب” — أي المواجهة المحدودة المضبوطة — يتجاوز 60 في المائة، على الأقل خلال الأشهر المقبلة.
بمعنى آخر، لا تبدو الحرب حتمية، لكنها ممكنة جداً إذا اجتمع عاملان: ضغط داخلي متزايد على طهران يدفعها للتصعيد الخارجي، أو قرار إسرائيلي بأن الانتظار لم يعد خياراً في ظل تسارع البرنامج النووي الإيراني.

المنطقة على حافة الاحتمال
بين العقوبات المتجددة والتصعيد الكلامي والمناورات العسكرية، يعيش الشرق الأوسط مرحلة توتر غير مسبوقة منذ سنوات، إيران تحاول كسر الحصار بالردع، وإسرائيل تسعى لتقويض قدرات خصمها قبل أن تترسخ، والقوى الكبرى تراقب وتحاول منع الانفجار دون أن تملك أدوات السيطرة الكاملة.
المؤشرات تقول إن المنطقة دخلت زمن “الاستعداد الدائم”، حيث تصبح كل أزمة محلية أو حادث أمني صغير مرشحاً لإشعال حريق أكبر.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *