Monday

10-03-2025 Vol 19

أمريكا وخطوات الخروج من الشرق الأوسط الجديد

أ.د. فرح موسى: رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية **

 

منذ الحرب العالمية الثانية، وبعد استخدام السلاح النووي في هيروشيما، وتقاسم النفوذ مع الاتحاد السوفياتي على جماجم البشر، فرضت أمريكا هيمنتها على أوروبا الغربية بمشروع ماريشال الأمريكي سنة ١٩٤٨م، لإنقاذها من الدمار. ومع بداية هذا التفلت الأمريكي بدأت الحروب، فكانت أبرزها الحرب الفيتنامية لتضييق مساحات النفوذ السوفياتي، فهزمت أمريكا رغم الدبلوماسية المجرمة بقنابل النابالم في شوارع ومدن فيتنام، وهكذا، فإنه رغم كل ما حققته أمريكا من نفوذ وسطوة استعمارية في أكثر من مكان في العالم، فهي لم تتمكن من التمادي في سياساتها الاستعمارية إلا بعد سقوط السوفيات في أواخر الثمانينات من القرن الماضي.

وفي ظل هذا التمادي انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، وظهرت الكثير من الحركات التحررية ضد السياسات الأمريكية، وغير خفي على أهل الخبرة في السياسة والاستراتيجية، أن أمريكا ورثت الاستعمار البريطاني واستمرت في التحالف مع بقاياه لمزيد من الهيمنة في الشرق الأوسط من خلال زرع الكيان الصهيوني في فلسطين ليؤدي وظيفته الاستعمارية كما رسمت له لمنع قيامة العرب والمسلمين.

ومع هذا الزرع المتوحش بدأت معزوفة الديمقراطية في بلادنا معضودةً بمفاتن الحضارة الغربية، فظهر التغريب على أوسع نطاق في المناهج العلمية وما يسمى بالسياسات الوطنية لتفرض مزيدًا من الغربة على فلسطين وحولها! حضارةٌ تحمل كل مساوىء الغرب المستعمر من مادية، وعلمانية وجاهلية! فأمريكا غزت الكثير من الدول بالقوة العسكرية،أو بالهيمنة على اقتصاديات الدول، وجاءت الحرب العراقية الإيرانية وما تلاها من حروب الخليج الأولى والثانية لتنذر بالعصر الأمريكي ونهاية التاريخ وصدام الحضارات حتى بات العالم كله يبحث عن مفردات اللغة والطعام واللباس الأمريكي!ولم يكن من الصدفة أبدًا أن تأتي أحداث الحادي عشر من أيلول٢٠٠١م، لتفرض مزيدًا من الأمركة في السلاح والاقتصاد والغزو في آفاق روسيا والصين معًا، مستغلةً أحداث أيلول لغزو أفغانستان، ثم العراق بأكذوبة أسلحة الدمار الشامل! وهكذا تتابعت الأحداث على النحو الذي لا يخدم الغزو الأمريكي، لا في آسيا الوسطى، ولا في غرب آسيا، فخرجت تجر أذيال الخيبة والهزيمة من أفغانستان بعد عشرين سنة من الاحتلال، ولم تكن في العراق بأفضل حالاتها، فخسرت آلاف الجنود ،ثم كانت الهزيمة أيضًا على يد المقاومة العراقية، وهذا كله كان إيذانًا ومؤشرًا لكل قوى الشر المستعمرة بأن عصرًا جديدًا قد بدأ مع قوى المقاومة.

وقد ترافقت هذه الهزائم الأمريكية مع ضربات قوية للكيان الصهيوني في فلسطين جعلته على ترهل كبير في القوة والفكرة معًا بما تعرض له من هزائم في لبنان وفلسطين، والتي لم تكن أمريكا غريبة عنها، لكونها اكتوت بجمر لبنان يوم أثقلت بالموت الأحمر على أبواب بيروت بعد الغزو الإسرائيلي للبنان! فأمريكا ليست قدرًا على الشعوب، ولا هي فوق أن تهزم، فهي خسرت الكثير من نفوذها رغم ضوضاء الإعلام الغربي الاستعماري عن نفوذها وسطوة قوتها، وهذا ما تبدى لنا بوضوح أمام عجزها عن فتح البحر الأحمر وباب المندب لعبور سفنها.

إنه عصر القوة اليمنية في مواجهة الترهل الأمريكي، وقد اعترفت أمريكا لليمن أنه على قوة لا يستهان بها، وأنها لم تخض مثل هذه الحرب منذ الحرب العالمية الثانية! وإذا كانت أمريكا في حروبها الأخيرة قد أوحت للكثيرين بأنها لا تزال تشكل قوة قهر ودمار للشعوب، فهذا لا يعطي أملًا للغرب المستعمر أنه على عافية وسلامة في مشروعه، وأهم وأعظم دليل على ذلك هو طوفان الأقصى والهزيمة في غزة ولبنان واليمن وما العراق عن ذلك ببعيد، فكل قوى المقاومة لا تزال على أمل واطمئنان بأن التدمير الأمريكي للقرى والمدن لا يعزز له فرضيات استمرار القوة وتحقيق النصر.

فالذين يتشدّقون بالعصر الأمريكي، سواء كانوا سياسين، أو إعلاميين، أو خبراء في الجهل الاستراتيجي، ليس عليهم سوى إعادة قراءة التحولات العالمية بدقة، ليدركوا حقيقة العجز الأمريكي، وخصوصًا في عهد الرئيس”ترامب”، الذي يعمل جاهدًا لتحويل أمريكا من كونها دولة غزو وحروب، ليجعل منها دولةً تفاخر بالقوة والاقتصاد في الضجيج الإعلامي والتهويل بشن الحروب، فكم هو معيب على مَن يساجلون في النصر والهزيمة، ويتحدثون عن ضعف المقاومة، وهم يرون بأم العين عجز العدو بكل قواه الاستعمارية عن دخول قرية في غزة أو في جنوب لبنان؟ وكم يكون الحمق هائلًا أن يربط هؤلاء بين دمار المدن والقرى وهزيمة الشعوب، وكأن لندن، أو هانوي، أو ستالينغراد لم تدمر في حروب الوجود والحفاظ على القيم والمبادىء؟ فليقلع هؤلاء عن صنميتهم في تعقّل أسباب الحروب ونتائجها! وانطلاقًا مما تقدّم، يمكن لنا توصيف المشهد في رؤيتنا لحقيقة الصراع مع الطغيان الغربي الصهيوني، وقد سبق لنا أن قدّمنا رؤيتنا عن مآلات ما سمي بحرب الإسناد، وذكرنا في مقالتنا قبل ثمانية أشهر من توسع الحرب، أن العدو ليس أمامه بعد الذي جرى في غزة من خيار سوى توسيع الحرب، فليحذر لبنان من أن يؤخذ على حين غرّة، واليوم نرى أن المشهدية الشرق أوسطية قائمة على التهويل الغربي بشن الحروب، وأن أمريكا يمكن لها المبادرة إليها، سواء ضد إيران، أو ضد اليمن. ولكنها لا تزال تخشى العواقب قياسًا مع الذي جرى لها في غزة ولبنان، وهي تخشى من حرب تخرجها من الشرق الأوسط وفقًا لمعطيات التجارب والتحولات العالمية.

وقولنا هذا لا يأتي من باب التكهن، أو التقليل من قوة الغرب، وإنما هو مبنيٌ على معطى واقعي تعزّزه التجارب القريبة والبعيدة.

فكم كان مهمًا لأمريكا ببحريتها الهائلة أن تفتح البحر الأحمر أمام السفن الإسرائيلية، لتقول للعالم: إن البحار والمضائق كانت ولا تزال تتحدّث بلغتها، وتألف سطوتها؛ولكنها عجزت عن ذلك! فأمريكا أصبحت في نهاية الطريق للخروج من الشرق الأوسط، كونها لم تعد تثق بحلفائها لتحقيق أدنى انتصار، وإذا ما اختارت خوض الحروب بنفسها ،فقد جرّبت ذلك، ويمكن لها أن تشن الحرب على إيران، ولكن النتائج أصبحت معلومة لديها، فهي ليست في زمن هيروشيما، إلا إذا كانت مستعجلة على فناء الأمم والشعوب والحضارات! فهذا فيه متسع لكل الدول النووية أن تشارك فيه لتدمير وحشيتها!فإيران ليست أي دولة تخاض معها الحرب، وكذلك اليمن، فكل الأحداث تنذر بأن الكيان الصهيوني ربما يبادر إلى إعلان هذه الحرب، خشيةً منه أن تكون أمريكا قد اختارت الحروب الإعلامية والتجارية، لتكون بديلًا للنزاعات العسكرية، وعلى فرض أن الحرب كانت خيارًا لخدمة الكيان الصهيوني، فليس غريبًا توقع الهزيمة الأمريكية والخروج من الشرق الأوسط.

فإذا كانت أمريكا بسياستها الجديدة عازمة على هذه الحرب، مع ترجيحنا القوي لها، فما على العدو الصهيوني إلا الإسراع بها،لجعل الاستعمار الغربي كله أمام مأزق الخروج من الشرق الأوسط! فالأعداء يعلمون جيدًا أن الحرب في الشرق الأوسط، ستكون حربًا اقتصادية بالدرجة الأولى، وعلى كل القوى العالمية أن تتجهّز لحربها الأخيرة على وقع الهتاف الصهيوني في عالم الظلام النووي! فالعدو الأحمق يمكن له نسيان تجاربه في ظل جنون عظمته، والشعور بطغيان قوته، إلا أن ذلك لا فائدة منه في لحظة وعي الشعوب، وأمام إرادة الانتصار للحق والدفاع عن الحقوق المشروعة، وكما قال الإمام علي (ع): “فلا تقوِّيّن سلطانك بسفك دم حرام،فإن ذلك مما يُضعفُهُ ويوهنُهُ، بل يُزيلُهُ وينقُلُه.”والحمد لله رب العالمين.

Shuun Asyawiya

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *