شؤون آسيوية – إعداد: رغد خضور –
روبوت مصمم لـ”تحسين حياتك بكفاءة والإجابة على أسئلتك”، هذا ما قاله مطورو برنامج الذكاء الاصطناعي “الديب سيك”، الذي مثل فتحاً في عالم الذكاء الاصطناعي من حيث تديبه وتطويره.
ومع هذا التطبيق يبدو أن الصين تستهدف عجلة القيادة في سباق الذكاء الاصطناعي بشكل مباشر، حيث تسببت هذه الشركة الناشئة بإحداث هزة في أسواق التكنولوجيا، بطرحها نموذجاً متطوراً يضاهي ما أنتجته شركات أمريكية عملاقة، لكن بكلفة أٌقل.
التطبيق الذي جرى تحميله أكثر من 1.6 مليون مرة فقط بحلول 25 يناير الماضي، وتصدر متاجر تطبيقات أيفون في أستراليا، وكندا، والصين، وسنغافورة، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، بحسب البيانات الصادرة عن منصة متابعة السوق (App Firgures)، يقدم تسلسل الأفكار بطريقة مشابهة لتفكير الإنسان، لجهة إيضاح كيفية وصوله إلى الإجابة، كما أنه يتفوق في الفهم والشرح المنطقي خاصة فيما يتعلق بالأسئلة التي تتطلب تحليلاً منطقياً.
كما أظهر الـ”ديب سيك”، الذي تم إطلاقه في 20 يناير/كانون الثاني، قدرة تنافسية عالية مقارنة بنماذج الذكاء الاصطناعي الرائدة عالميا مثل “تشات جي بي تي”، حيث استطاع تقديم أداء متقدم بتكلفة أقل بكثير.
الـ ديب سيك..
يعتمد الروبوت على نموذج الذكاء الاصطناعي المسمى (R1) الذي يحتوي على نحو 670 مليار باراميتر، ما يجعله أكبر نموذج لغوي مفتوح المصدر حتى الآن.
والباراميترات في الذكاء الاصطناعي هي المسؤولة عن تنظيم وجودة المعلومات التي يُنتجها النموذج اللغوي. وكلما زادت نسبتها ساعد ذلك التطبيق على تدريبه بشكل أفضل وبالتالي الخروج بنتائج أفضل. بحسب خبراء بهذا المجال.
ويُقال إن (R1) يضاهي قوة نموذج (O1) الخاص بشركة “أوبن إيه آي” الذي يعمل على تشغيل “تشات جي بي تي”، وذلك من حيث الرياضيات والترميز أو الأكواد والمنطق.
الشركة الصينية الناشئة قدمت لمحة مغايرة للاعتقاد السائد بأن مستقبل تطوير الذكاء الاصطناعي سيحتاج لكميات متزايدة من الكهرباء والطاقة، وأن كلفة تطويره تصل إلى مليارات الدولارات، وقد برز التطبيق بسبب تداعياته الاقتصادية الواسعة، واستطاع أن يحظى باهتمام صناع التكنولوجيا في الولايات المتحدة وخارجها.
فجوة التكاليف..
يقول أستاذ التعلم الآلي في جامعة كامبريدج البريطانية، نيل لورانس، إن نموذج اللغة الكبير لشركة “ديب سيك” “يسخر من فكرة أننا بحاجة إلى تريليون دولار لتدريب المستوى التالي من الذكاء الاصطناعي العام”، في إشارة إلى الإعلان الأمريكي عن حاجة برنامج “ستارغيت” لنحو نصف تريليون دولار لتشييد البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، في خطة تقودها شركة “أوبن إيه آي” التي تقف وراء “تشات جي بي تي”.
وفقاً لتحليل نشرته وكالة “بلومبيرغ”، فإن “الديب سيك” تم تطويره بتكلفة لا تتجاوز 6 ملايين دولار أميركي – بعض التحليلات القادمة من آسيا تقدر أن التكلفة الحقيقة لا تتجاوز نصف هذا الرقم- مقارنة بالتقديرات التي تشير إلى أن تطوير “جي بي تي 4” كلَّف أكثر من 100 مليون دولار أميركي.
هذه الفجوة الكبيرة في التكلفة أثارت تساؤلات جوهرية حول مدى جدوى الاستثمارات الضخمة التي تضخها الشركات الأميركية في تطوير الذكاء الاصطناعي.
وفي هذا السياق، يرى الخبير الاقتصادي “دان هوتشيسون” من مؤسسة “تيك إنسايتس” أن “خفض التكاليف بهذا الشكل الكبير يعيد تشكيل سوق الذكاء الاصطناعي، حيث لم يعد الأمر يعتمد فقط على امتلاك التكنولوجيا المتقدمة، بل أيضاً على كيفية استغلال الموارد المحدودة بكفاءة لتحقيق نتائج مماثلة”.
حرب الشرائح..
وفي حرب الشرائح الإلكترونية المتطورة، استطاعت الشركات الصينية تجاوزت العقوبات الأميركية، فبينما كانت الولايات المتحدة تسعى جاهدة لمنع الصين من الوصول إلى تكنولوجيا الشرائح بحجم 14 نانومتر، تخطت الصين هذه العقبة بشكل ملحوظ، وتمكنت من صنع روبوت لا تساوي تكلفته شياً تقريباً.
وكانت الولايات المتحدة منعت تصدير التقنيات المتطورة مثل أشباه موصلات وحدات معالجة الرسوم إلى الصين، في محاولة لإبطاء تقدم بكين في الذكاء الاصطناعي، الذي يمثل الجبهة الأساسية في المنافسة بين البلدين على التفوق التقني.
لكن التقدم الذي حققه “ديب سيك” يظهر قدرة مهندسي الذكاء الاصطناعي الصينيين على الالتفاف على تلك القيود، الذين صبوا تركيزهم على زيادة الكفاءة باستخدام موارد محدودة، من خلال مشاركة المطورين الصينيين أعمالهم فيما بينهم، وتجربة أساليب جديدة للتكنولوجيا حتى يواصلوا عملهم في ظل عدم توفر إمدادات مستقرة من تلك الرقائق المتقدمة.
إطلاق هذا الروبوت يطرح شكوكاً حول القيود التجارية التي فرضتها واشنطن، وبحسب تحليل “كونتر بوينت ريسيرش”، فإن “السياسات الأميركية للحد من تصدير الشرائح لم تؤثر بشكل كبير على الشركات الصينية، بل دفعتها إلى تبني إستراتيجيات جديدة تعتمد على كفاءة البرمجيات بدلاً من القوة الحوسبية الهائلة”.
الطموحات الصينية..
الصين باتت اليوم على قدم المساواة مع الآخرين في مضمار الذكاء الاصطناعي، فالـ”ديب سيك” يخالف الفكرة السائدة بأن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في الصين متأخرة بسنوات عن الولايات المتحدة.
التقدم السريع للصين في هذا المجال قد يؤدي إلى فقدان الشركات الأميركية تفوقها التكنولوجي، مما يجعلها عرضة لخسائر اقتصادية هائلة، وفي سياق دعم الطموحات الصينية، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ أن تطوير الذكاء الاصطناعي يعد أولوية وطنية، مما يعزز من فرص الصين في المنافسة عالمياً.
هذا النجاح يعكس إستراتيجية الصين في تحقيق الهيمنة على الأسواق العالمية من خلال الابتكار المدعوم بتكاليف إنتاج منخفضة، ويمكن أن تتخذ التطورات المستقبلية عدة مسارات، تتراوح بين استمرار الهيمنة الغربية على تقنيات الذكاء الاصطناعي أو انتقال مركز الابتكار إلى الصين، وهو ما قد يعيد رسم خريطة القوى الاقتصادية العالمية.
وهذا التوسع السريع، المدعوم بسياسات حكومية قوية، قد يمنح الشركات الصينية قدرة تنافسية غير مسبوقة على المستوى الدولي.
جرس إنذار..
هزت شركة الذكاء الاصطناعي الصينية الناشئة عالم التكنولوجيا لحظة إطلاقها للتطبيق الذي يُضاهي أحدث التقنيات الأمريكية المتطورة، ما يُشكل تحدياً مباشراً لسياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترام التكنولوجية، خاصة مشروعه الطموح “ستارجيت”.
ترامب الذي قال إن التطبيق الصيني بمثابة “جرس إنذار” للشركات الأمريكية، حث تلك الشركات على تركيز اهتمامها على التنافس في سبيل الفوز، خاصة أنه لطالما استثمرت شركات التكنولوجيا في أمريكا مليارات الدولارات لتوفير البنى التحتية اللازمة للذكاء الاصطناعي، لكن نموذج “ديب سيك” خلط الأوراق.
اضطراب الأسهم..
هذا التطور، كما سبق وذكرنا، هدد الهيمنة التكنولوجية للشركات الأمريكية وشكك في الفرضيات الاقتصادية التي تقوم عليها ابتكارات الذكاء الاصطناعي.
الأمر الذي انعكس على الأسواق المالية العالمية، التي شهدت اضطراباً غير مسبوق عقب الصعود المفاجئ لـ”ديب سيك”، حيث تأثرت أسهم شركات التكنولوجيا كبرى بشكل مباشر، وفي مقدمتها عملاق التكنولوجيا الأمريكي “إنفيديا”.
قطاع صناعة الرقائق في الولايات المتحدة تلقى ضربة قاسية بعد أن كشفت التقارير أن “ديب سيك” لم يعتمد على أحدث الشرائح من “إنفيديا”، بل طور خوارزميات برمجية جديدة تعتمد على رقائق أقل تطوراً لكنها أكثر كفاءة.
ونتيجة لذلك، سجلت “إنفيديا” انخفاضاً في قيمتها السوقية، حيث خسرت موقعها كأكبر شركة أميركية لصالح “آبل” و”مايكروسوفت”، وتراجعت أسهمها بنسبة 17%، مما أدى إلى خسارتها حوالي 600 مليار دولار أميركي من قيمتها السوقية في يوم واحد، وهو أكبر انخفاض يومي في تاريخ الأسواق المالية الأميركية.
ووفقًا لصحيفة “فايننشال تايمز”، دفع هذا التراجع مؤشر فيلادلفيا لأشباه الموصلات للهبوط بنسبة 9.2%، بينما سجل مؤشر “ناسداك” انخفاضًا تجاوز 3%، مما زاد من المخاوف حول مستقبل شركات الذكاء الاصطناعي الأميركية.
مخاطر العملات..
لم تقتصر تأثيرات التطبيق على سوق الأسهم الأميركية وشركات التكنولوجيا، بل تأثرت بعض العملات بما حدث في السوق، حيث تم تسجيل طفرة في الين الياباني والفرنك السويسري.
ويُفسر كمال شارما، محلل استراتيجي عملات في “بنك أوف أفريكا”، هذا الأمر بأن المستثمرين يسعون لتجنب المخاطر في قطاع التكنولوجيا، من خلال زيادة شراء عملات الملاذ الآمن.
والتأثير السلبي طال سوق العملات المشفرة أيضاً، حيث انخفضت “بتكوين” أكثر من 5%، وباتت تتداول دون 100 ألف دولار.
كما امتد العزوف عن المخاطرة إلى عدة فئات من الأصول، إذ تراجعت عوائد سندات الخزانة الأميركية لأدنى مستوياتها في 3 أسابيع، وسجل مؤشر الدولار الأميركي أقل مستوى منذ منتصف ديسمبر الماضي.
وكذلك شهدت أسواق الأسهم الآسيوية هزة بسبب التطبيق، إذ سعى المستثمرون وراء شركات صينية مرتبطة بـ”ديب سيك”، مثل “إيفليتك”، وابتعدوا عن شركات سلسلة توريد صنع الرقائق مثل “أدفانتست”، التي قد تتعرض لأي تراجع في الطلب المتوقع على أشباه الموصلات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي.
الاضطراب الذي أحدثه صعود تطبيق “ديب سيك” في الأسواق، طال أيضاً شركة “ايه إس إم إل” الهولندية لصناعة الرقائق الإلكترونية، والتي انخفضت أسهمها بأكثر من 7%، وانخفضت أسهم شركة “سيمنز إنرجي” المتخصصة في صناعة الأجهزة ذات الصلة بالذكاء الاصطناعي.
فقاعة الذكاء الاصطناعي..
شهدت السنوات الأخيرة استثمارات ضخمة في قطاع الذكاء الاصطناعي، حيث راهنت الشركات العالمية على الإمكانات الهائلة التي يمكن أن يوفرها هذا المجال في مختلف القطاعات.
ومع ذلك، فإن ظهور “DeeSeek” جعل العديد من الخبراء والمستثمرين يعيدون التفكير في مدى استدامة هذا النمو وما إذا كنا بالفعل أمام فقاعة اقتصادية شبيهة بما حدث مع أزمة شركات الإنترنت في أوائل الألفية.
ويؤكد تقرير نشرته صحيفة “فايننشال تايمز” أن “DeeSeek” قد يكون بداية لموجة جديدة من الابتكارات الذكية منخفضة التكلفة، فيما يشير بعض المحللين إلى أن الاستثمارات الضخمة التي تدفقت إلى قطاع الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الأخيرة قد لا تكون مدعومة بعوائد مالية كافية، مما قد يؤدي إلى انهيار مفاجئ للسوق.
وفي تقرير صادر عن بلومبيرغ، ارتفع حجم التمويلات الموجهة إلى شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة بنسبة 150% خلال السنوات الثلاث الماضية، في حين أن نسبة الأرباح الفعلية لمعظم هذه الشركات لم تتجاوز 10% من التوقعات الأولية.
تصحيح السوق..
من المرجح أن يؤدي التأثير الكبير لـ”DeeSeek” على السوق إلى إعادة تشكيل نماذج الاستثمار في قطاع الذكاء الاصطناعي، ويتوقع أن تتحول استثمارات الشركات الكبرى مثل “غوغل” و”مايكروسوفت” نحو مشاريع أكثر استدامة، مع زيادة التركيز على تقنيات الذكاء الاصطناعي منخفضة التكلفة.
نجاح الروبوت الصيني قد يدفع “أوبن إيه آي” ومقدمي الخدمة الآخرين في الولايات المتحدة إلى خفض الأسعار للحفاظ على تفوقهم الحالي، ومن المحتمل أن نشهد موجة من عمليات الاندماج والاستحواذ خلال السنوات المقبلة، حيث ستسعى الشركات الكبرى مثل “أوبن إيه آي” و”أمازون” إلى شراء الشركات الناشئة الواعدة لتعزيز قدراتها في هذا المجال.
مستقبل الذكاء الاصطناعي..
ظهور الـ”DeepSeek” يعكس بداية مرحلة جديدة من المنافسة بين القوى العظمى، وهذا السباق لا يقتصر على الذكاء الاصطناعي فحسب، بل يمتد إلى البنية التحتية الرقمية والمعايير التقنية، ما قد يخلق استقطاباً عالمياً جديداً.
الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية متقدمة، بل هو عامل مؤثر قد يغير أسواق العمل بشكل جذري، وبحسب تقرير لشركة ماكينزي للاستشارات، فإن 30% من الوظائف التقنية قد تصبح مؤتمتة بالكامل بحلول عام 2030، مما سيؤثر على ملايين العاملين في القطاعات التقليدية مثل البرمجة، التحليل المالي، وخدمة العملاء.
في المقابل، من المتوقع أن تنشأ وظائف جديدة في مجالات تحليل البيانات، وإدارة أنظمة الذكاء الاصطناعي، وأمن البيانات، مما يتطلب تغييرات جذرية في أنظمة التعليم والتدريب المهني.
ما هو مؤكد أن السنوات المقبلة ستكون حاسمة في تحديد الاتجاه الذي سيتخذه قطاع الذكاء الاصطناعي، وسواء كان ذلك من خلال استمرار التفوق الأميركي، أو صعود الصين كقوة رائدة، أو حتى حدوث تصحيح اقتصادي يؤدي إلى إعادة تقييم قيمة استثمارات هذا القطاع، فإن الذكاء الاصطناعي سيظل في قلب التحولات التكنولوجية والاقتصادية لعقود مقبلة.
إن “DeepSeek” ليس ضربة قاضية، لكنه قطعة استراتيجية في لعبة الشطرنج الجيوسياسية والتكنولوجية بين الصين وأمريكا، والطريقة التي ستُدار بها هذه المنافسة هي ما سيحدد شكل المستقبل وتأثيره على العالم بأسره.