شؤون آسيوية – إعداد: رغد خضور –
تشهد الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ منتصف يونيو 2025 تصعيداً أمنياً واستخباراتياً غير مسبوق، في ظل عدوان إسرائيلي واسع النطاق يجمع بين الضربات الجوية والعمليات السرية الميدانية داخل الأراضي الإيرانية.
ويترافق ذلك مع حملة مكثفة للسلطات الإيرانية لكشف وتفكيك خلايا تجسس وتخريب مرتبطة بجهاز “الموساد” الإسرائيلي، في وقت تكشف فيه وثائق استخباراتية دولية عن تاريخ طويل من التنسيق الغربي الإسرائيلي في تنفيذ عمليات اغتيال ضد شخصيات فلسطينية، ما يسلط الضوء على طبيعة التعاون الاستخباري الدولي ومخاطره على الأمن الإقليمي.
اختراق داخلي ورد أمني مكثف
خلال الأسابيع الماضية، أعلنت السلطات الإيرانية عن اعتقال عشرات الأشخاص بتهم التجسس والتعاون مع “الموساد” في محافظات مختلفة، أبرزها البرز، طهران، أصفهان، كرمان، وزنجان.
العمليات الأمنية كشفت عن ورش سرية لتصنيع متفجرات ومسيّرات، وشبكات دعائية إلكترونية تُتهم بالترويج لأجندات معادية للنظام الإيراني، ونشر الشائعات عبر الفضاء السيبراني.
تشير الروايات الرسمية إلى أن هذه الخلايا كانت تخطط لاستهداف منشآت استراتيجية، وشخصيات علمية بارزة باستخدام طائرات مسيّرة صغيرة تُهرّب عبر السيارات وتُشغّل من داخل البلاد، في مشهد يعكس تطوراً نوعياً في أدوات الحرب الإسرائيلية ضد إيران.
كما أفادت الشرطة بضبط طائرة مسيّرة في أحد منازل “المرتزقة” في زنجان، واعتقال عناصر قاموا بإرسال معلومات استخباراتية حساسة إلى إسرائيل عبر تطبيقات إلكترونية مثل “واتساب”، ما يبرز التحديات المتزايدة في ساحة الحرب السيبرانية.
هذا وأعادت قوات التعبئة “الباسيج” انتشارها في المدن الإيرانية، ونُصبت حواجز أمنية عند مداخل المدن ومخارجها للتفتيش عن نوع معين من السيارات، خاصة “البيك آب” التي يُعتقد أنها تُستخدم في تنفيذ الهجمات.
كما أطلقت السلطات حملة توعية واسعة، دعت فيها المواطنين إلى توخي الحذر والإبلاغ عن أي نشاط مريب أو أشخاص يثيرون الشكوك، مؤكدة أن بعض العملاء استخدموا تكتيكات تضليلية مثل إشعال إطارات سيارات لإيهام السكان بوجود هجمات إسرائيلية.
حجم الاختراق
وبحسب مصادر إعلامية، فإن العدد الفعلي لهؤلاء العملاء قد لا يكون كبيراً نسبة إلى عدد سكان إيران الذي يقترب من 100 مليون نسمة، فضلاً عن أن طبيعة هذه العمليات تشير إلى نوع من “الحرب في المناطق الرمادية”.
مصادر رسمية وإعلامية إيرانية، بينت أن جزء كبير من العمليات الإسرائيلية نفذت ضد إيران من داخل أراضيها، عبر خلايا عملياتية للموساد زرعت مسبقاً أنظمة أسلحة دقيقة وطائرات مفخخة في مواقع قريبة من منشآت دفاعية وحيوية.
وقد وصلت بعض هذه الضربات إلى منشآت وزارة الخارجية وقواعد صاروخية في محيط طهران، في مؤشر إلى عمق الاختراق الإسرائيلي للمجال الأمني الإيراني.
تشير التقديرات الإيرانية إلى أن نحو 70% من الهجمات الإسرائيلية الأخيرة نُفّذت عبر وكلاء محليين ومجندين، من بينهم عناصر معارضة مثل “مجاهدي خلق” و”الملكيين” و”الانفصاليين الأكراد” ومهاجرين أفغان، فيما تنوّعت الأساليب بين استخدام المسيّرات، تفجيرات السيارات، إشعال الإطارات لبث الرعب، وإطلاق صواريخ كتفية.
البعد التاريخي لعمليات الموساد
أعاد تقرير نشرته صحيفة “ذي غارديان” البريطانية تسليط الضوء على تحالفات استخباراتية قديمة دعمت الموساد في تنفيذ اغتيالات بحق فلسطينيين في أوروبا خلال سبعينيات القرن الماضي، في أعقاب عملية ميونيخ 1972.
وكشفت الوثائق التي عثرت عليها الباحثة أفيفا غوتمان في الأرشيف السويسري عن شبكة تبادل معلومات سرية تُعرف بـ”كيلووات”، شاركت فيها 18 وكالة استخباراتية غربية، دعمت عمليات إسرائيل دون رقابة برلمانية أو سياسية.
تبرز هذه المعلومات الدور التاريخي المتجدد للموساد كأداة لسياسة إسرائيل الأمنية، المدعومة أحياناً من شبكات استخباراتية غربية. وهذا النمط من التنسيق يعزز شكوك طهران بأن حربها ليست فقط مع إسرائيل، بل أيضاً مع قوى دولية تدعم أو تسكت عن الاختراقات الإسرائيلية.
الصراع النووي في واجهة التوترات
وقبل هذا التصعيد الأمني، كشفت مصادر إسرائيلية عن لقاء سري في باريس جمع وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي ورئيس الموساد مع المبعوث الأميركي الخاص، في محاولة للتأثير على مسار المحادثات النووية بين واشنطن وطهران.
وفي موازاة ذلك، ذكرت “نيويورك تايمز” أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان قد أوقف هجوماً إسرائيلياً مخططاً على منشآت نووية إيرانية في مايو الماضي، فيما أعلنت إسرائيل رسمياً رفضها السماح لطهران بامتلاك سلاح نووي، مشيرة إلى تنفيذها عمليات عسكرية وأمنية مستهدفة لهذا الغرض.
التحديات الأمنية والسياسية
تواجه إيران تحديات أمنية معقدة في مواجهة ما يمكن وصفه بـ”حرب ظل مزدوجة” تشمل الطيران الحربي الإسرائيلي من الخارج وخلايا تخريبية من الداخل.
هذه التهديدات دفعت السلطات الإيرانية إلى تعزيز حضور “الباسيج” في المدن، ونشر نقاط تفتيش أمنية جديدة، بالإضافة إلى حملات توعية للمواطنين للإبلاغ عن أي نشاط مشبوه، مع التركيز على سيارات البيك آب التي يُعتقد أنها الوسيلة المفضلة لنقل المسيّرات.
لكن هذه الاستجابات لا تخلو من دلالات أوسع: فالتوغل الاستخباراتي الإسرائيلي العميق في الداخل الإيراني، والانكشاف الأمني النسبي، يطرحان تساؤلات حادة حول جاهزية الأجهزة الأمنية في التصدي لنمط جديد من الحروب، التي تمتزج فيها الوسائل العسكرية بالتقنيات الرقمية، والعمليات السيبرانية بالخداع الإعلامي.
تداعيات محتملة
مع اتساع دائرة الحرب بين إيران وإسرائيل، بات من الواضح أن الساحة الإيرانية تتحول إلى مختبر جديد في الصراع الاستخباراتي في غرب آسيا، ما يثير مخاوف حقيقية لدى دول الجوار الآسيوي من احتمالات انتقال هذه الحرب الهجينة إلى أراضيها، سواء من خلال عمليات استخباراتية متبادلة أو تحالفات سرية قد تتسع لاحقاً.
وبالنظر إلى الدور المتزايد للموساد في تنفيذ عمليات عابرة للحدود، والدعم الدولي الذي يحظى به أحياناً، فإن المعادلة الأمنية في المنطقة تدخل مرحلة أكثر تعقيداً. وهو ما يستوجب من مراكز الدراسات الآسيوية والصينية متابعة تطورات هذا الصراع بعناية، لما له من تداعيات استراتيجية على الأمن الإقليمي، والتحالفات الدولية، ومشاريع الربط الاقتصادي بين الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.