شؤون آسيوية – السويداء – خاص –
رغم اتفاق وقف إطلاق النار الذي أُعلن مؤخرًا بين الحكومة السورية المؤقتة ووجهاء محليين في مدينة السويداء، جنوب سوريا، ورغم الجهود الرامية إلى احتواء الأزمة، تجدّدت الاشتباكات المسلحة بوتيرة متصاعدة، ما أسفر عن مئات القتلى والجرحى، ونزوح جماعي للسكان، في وقت دخلت فيه إسرائيل على خط المواجهة بغارات جوية طالت مواقع عسكرية سورية.
فشل تطبيق اتفاق التهدئة وتجدد الاشتباكات
أعلنت وزارة الدفاع السورية التوصل إلى اتفاق تهدئة بالتنسيق مع وجهاء وأعيان السويداء، تضمّن وقف إطلاق النار، وسحب الآليات الثقيلة من المدينة، وتثبيت نقاط أمنية لقوى الأمن الداخلي. إلا أن الاتفاق لم يصمد طويلًا، إذ أعلنت الوزارة لاحقًا أن مجموعات مسلحة “خارجة عن القانون”، على حدّ تعبيرها، خرقت التهدئة وهاجمت مواقع الجيش وقوى الأمن.
وأكدت الوزارة أن قوات الجيش ردّت على مصادر النيران وفق قواعد الاشتباك، داعية المدنيين إلى البقاء في منازلهم والإبلاغ عن أي عناصر مسلحة.
تصاعد إنساني خطير ونزوح جماعي
أدى تدهور الوضع الأمني إلى نزوح أعداد كبيرة من المدنيين من مدينة السويداء باتجاه ريف درعا الشرقي، وسط مخاوف من انقطاع الإمدادات الغذائية والدوائية، إذ تسببت الاشتباكات في إغلاق الأسواق التجارية وتوقف حركة الحياة في المدينة.
وبحسب تقارير محلية، خرجت خطوط الكهرباء الرئيسية عن الخدمة، وتوقفت محطات ضخ المياه، مما زاد من معاناة الأهالي. كما خرج المستشفى الوطني عن الخدمة بعد حصاره بالآليات الثقيلة، ما دفع الطواقم الطبية إلى إطلاق نداءات استغاثة لتحويل المرضى إلى نقاط طبية بديلة.
وأفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان بأن عدد القتلى جراء الاشتباكات والإعدامات الميدانية منذ يوم الأحد الماضي تجاوز 250 قتيلًا، معظمهم من المدنيين والمقاتلين المحليين.
فشل سياسي وتدهور الثقة
أصدرت حركة “رجال الكرامة” في السويداء بيانًا نددت فيه بما وصفته بـ”الاعتداء الوحشي” الذي تعرّضت له المدينة من قبل الحكومة، واعتبرته تهديدًا للسلم الأهلي ومحاولة لتقويض الثقة بين الدولة والأهالي.
وكشفت مصادر مطّلعة أن مجلس السويداء العسكري تولّى قيادة العمليات في المدينة، في ظل مطالبات من الوفد المفاوض – الذي يمثل الأهالي – بمحاسبة المسؤولين من الأجهزة الأمنية والفصائل الذين خرقوا تعهداتهم السابقة أمام الرئاسة الروحية لطائفة المسلمين الموحدين الدروز.
وفي السياق ذاته، أكدت مصادر مطلعة أن مفاوضات تُجرى مع الحكومة السورية برعاية خليجية، تتركز على إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه، ومحاسبة الأطراف التي خرقت تعهداتها أمام المرجعيات الروحية الدرزية.
تصعيد إسرائيلي واسع النطاق
في خضم هذا التوتر، شنّت إسرائيل سلسلة غارات جوية استهدفت مواقع عسكرية تابعة لوزارة الدفاع السورية في السويداء ودرعا.
ووفقًا لتقارير إعلامية، طالت الغارات مطار الثعلة العسكري، واللواء 52 في الحراك شرقي درعا، وتجمعات لقوات الأمن السوري وسط مدينة السويداء، بما في ذلك مقر قيادة الشرطة.
ونقلت مصادر إسرائيلية أن الغارات جاءت بأمر مباشر من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس، بزعم “منع تسليح السويداء” وحماية الدروز هناك. كما أظهرت مشاهد بثّها الجيش الإسرائيلي استهداف آليات ومواقع عسكرية سورية.
ووسط تقارير عن وساطة أميركية لوقف الهجمات الإسرائيلية، نقل موقع “أكسيوس” عن مسؤول أميركي أن إدارة الرئيس دونالد ترامب طالبت إسرائيل بوقف هجماتها جنوب سوريا، مشيرًا إلى أن تل أبيب وعدت بوقف الغارات اعتبارًا من مساء الثلاثاء الماضي.
اتهامات متبادلة وانتهاكات حقوقية
في حين تتهم الحكومة السورية المجموعات المسلحة بخرق الاتفاق وتهديد الأمن، توجه منظمات حقوقية اتهامات للقوات الحكومية بارتكاب انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، إذ وثّق المرصد انتهاكات ارتكبتها عناصر تابعة لوزارة الدفاع في قرى السويداء، شملت عمليات تخريب، وحرق، وسرقة ممتلكات مدنية، بالإضافة إلى اعتداءات على أماكن عبادة ومراكز طبية.
وقد استهدفت القذائف أحياء مثل المسلخ والجلاء وطريق الكوم، وبلدات رساس وقنوات، ما أسفر عن سقوط ضحايا من المدنيين. كما أكد شهود عيان أن بعض المناطق شهدت عمليات “إعدامات ميدانية” وتنكيل بالسكان، ما يزيد من تعقيد الأوضاع ويهدد بانهيار التفاهمات المحلية.
الموقف الرسمي السوري والدولي
أكدت الرئاسة السورية في بيان أنها كلّفت الجهات الرقابية والتنفيذية باتخاذ إجراءات قانونية بحق أي جهة مسؤولة عن التجاوزات، وشدّدت على ضرورة التزام كل الأطراف بالقانون وحماية المدنيين.
من جانبها، حمّلت وزارة الخارجية السورية إسرائيل مسؤولية التصعيد الأخير، معتبرة أن “العدوان جاء في توقيت مشبوه ويهدف إلى زعزعة الاستقرار الداخلي”، كما أكدت أن أبناء الطائفة الدرزية يشكلون جزءًا أساسيًا من النسيج الوطني السوري.
وأعرب المبعوث الأميركي إلى سوريا، توماس براك، عن قلق بلاده من التصعيد في السويداء، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة منخرطة في جهود تهدف إلى التهدئة، مع التأكيد على ضرورة التوصل إلى حل يراعي مصالح جميع الأطراف، بمن فيهم الدروز، والقبائل البدوية، والحكومة السورية، والقوات الإسرائيلية.
مخاوف من تدخل بري
وفي ضوء التصعيد، نقلت القناة 14 الإسرائيلية عن مسؤول أمني قوله: “نأمل ألا نُضطر إلى دخول بري في جنوب سوريا، لكننا لا نستبعد هذا الخيار”. ويرى محللون أن إسرائيل تسعى إلى استغلال حالة التوتر لفرض وقائع جديدة على الأرض، ربما تقود إلى تشكيل كيان درزي مستقل، وهو ما تحذّر منه أطراف سورية.
كما حذر باحثون في مركز الجزيرة للدراسات من نوايا إسرائيل في عرقلة تقارب سوري–أميركي محتمل، خاصة بعد اللقاء الذي جمع الرئيس السوري أحمد الشرع بنظيره الأميركي دونالد ترامب في الرياض، والذي أسفر عن رفع جزئي للعقوبات على دمشق.
سيناريوهات مفتوحة في مشهد معقّد
في ظل استمرار الاشتباكات، وانهيار اتفاقات التهدئة، وتزايد التدخلات الخارجية، يبدو المشهد في السويداء مفتوحًا على جميع الاحتمالات. وبينما تتحدث الحكومة عن سعيها لبسط الأمن، تتهمها الأطراف المحلية بممارسة القمع، فيما تضيف الغارات الإسرائيلية بُعدًا إقليميًا خطيرًا إلى الأزمة الداخلية.
ويبقى السؤال المطروح: هل تنجح المساعي السياسية والمفاوضات الجارية برعاية عربية في إعادة الاستقرار، أم أن السويداء تتجه نحو مواجهة طويلة الأمد قد تعيد رسم خريطة الجنوب السوري؟