شؤون آسيوية – إعداد: رغد خضور –
رغم الأوضاع المعقدة التي تعيشها اليمن منذ سنوات، ظلت الصين متمسكة بدورها كشريك داعم، فالعلاقات بين البلدين تستند إلى تاريخ طويل من التفاهم والمصالح المشتركة، ومنذ خمسينيات القرن الماضي وحتى اليوم، تميزت هذه العلاقة بالثبات والتوازن.
تاريخ من التفاعل والتقارب
تعود العلاقات اليمنية الصينية إلى ما قبل الحقبة الحديثة، حيث كانت الموانئ اليمنية التاريخية مثل عدن والمخا محطات أساسية على طريق الحرير البحري. وقد لعب التبادل التجاري بين البلدين، خاصة في سلع مثل اللبان والبخور والحرير، دوراً في تعزيز التواصل بين الحضارتين العربية والصينية.
ومع بروز الصين كقوة دولية في القرن العشرين، دخلت العلاقات بين البلدين مرحلة جديدة. ففي عام 1956، اعترفت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (جنوب اليمن سابقاً) بالحكومة الصينية، في وقت كان فيه الاعتراف الدولي بالصين لا يزال محدودًا بظل أجواء الحرب الباردة.
بعد ذلك بعامين، أقامت الجمهورية العربية اليمنية (شمال اليمن سابقاً) علاقات دبلوماسية مماثلة مع بكين، وهو ما عكس آنذاك تقارباً بين الجانبين على أسس التوجهات السياسية المستقلة والرافضة للهيمنة الدولية.
وعقب إعلان توحيد شطري اليمن عام 1990، كانت الصين من أوائل الدول التي رحبت بالدولة اليمنية الجديدة، وأكدت دعمها الكامل لوحدتها واستقرارها، مما فتح الباب أمام مرحلة جديدة من التعاون السياسي المتنامي.
دعم ثابت لوحدة اليمن وسيادته
على مدى العقود الماضية، برزت الصين كواحدة من أبرز القوى الدولية التي أكدت التزامها بوحدة اليمن واحترام سيادته الوطنية، انطلاقاً من المبادئ الثابتة في السياسة الخارجية الصينية، والتي تقوم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام خصوصية كل دولة في معالجة أزماتها.
وخلال الأزمات المتلاحقة التي شهدها اليمن، من حرب 1994، إلى أحداث 2011، وصولًا إلى الحرب الجارية منذ عام 2015، لم تحد الصين عن موقفها الثابت والداعي إلى التهدئة والحوار الوطني، رافضة أي تدخل عسكري خارجي كوسيلة لفرض الحلول.
زيارات رسمية وتعاون دبلوماسي متجدد
شهدت العلاقات السياسية بين البلدين سلسلة من الزيارات الرسمية التي أسهمت في تعزيز التعاون الثنائي، ومنها زيارة رئيس الوزراء اليمني الأسبق عبد القادر باجمال إلى بكين مطلع الألفية الجديدة، والتي جاءت تتويجاً لتطور التعاون الاقتصادي والسياسي بين الطرفين.
وكان هناك زيارات لوفود رسمية صينية إلى صنعاء وعدن، ضمت مسؤولين من مستويات رفيعة، بهدف دعم المشاريع التنموية وتعزيز العلاقات، إضافة إلى لقاءات متعددة على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقمم الصين-الدول العربية، التي كانت منصات مهمة لمناقشة تطورات الأوضاع في اليمن والمنطقة.
وقد أثمرت هذه اللقاءات عن توقيع اتفاقيات تعاون سياسي وثقافي واقتصادي، عكست التفاهم الكبير بين الطرفين حول القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك.
علاقات اقتصادية تمتد لعقود
على الرغم من قدم العلاقات الاقتصادية بين اليمن والصين والتي تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، إلا أنها بلغت ذروتها خلال الفترة الممتدة من عام 2000 إلى 2015، أي قبل اندلاع الحرب على اليمن، وخلال تلك المرحلة، كانت الصين أحد أبرز الشركاء التجاريين لليمن، وشاركت بفاعلية في عدة مشاريع استراتيجية.
لكن التجارة الثنائية لم تكن متوازنة، حيث اقتصر تصدير اليمن على المواد الخام والمنتجات البحرية، في حين تدفقت إلى الأسواق اليمنية البضائع الصينية المصنعة، من إلكترونيات وملابس ومواد بناء. وقدّر حجم التبادل التجاري في سنوات ما قبل الحرب بما يتراوح بين 1.5 إلى 2 مليار دولار سنوياً، قبل أن يشهد انكماشاً حاداً بعد عام 2015 بسبب تدهور الأوضاع الأمنية والمؤسساتية في البلاد.
الحرب وتداعياتها على الاستثمارات
قبل اندلاع الحرب، كانت الشركات الصينية حاضرة بقوة في المشهد الاقتصادي اليمني، خاصة في القطاعات الحيوية، كالطاقة والتصالات والبنية التحتية.
ففي مجال الطاقة نفذت شركات صينية مشاريع لبناء محطات كهربائية وشبكات نقل الطاقة، خصوصاً في مدينتي عدن والحديدة.
فيما لعبت شركة “هواوي” دوراً محورياً في تحديث البنية التحتية للاتصالات، وتوسيع شبكات الهاتف النقال والإنترنت.
وتولت شركات صينية مشاريع بناء طرق وموانئ، كما طرحت خطط لإنشاء منشآت صناعية ومناطق لوجستية.
ومع تصاعد وتيرة النزاع في اليمن، توقفت معظم المشاريع الاستثمارية، وغادرت الشركات الصينية العاملة. إلا أن بعض الأنشطة الاقتصادية استمرت بشكل غير رسمي، عبر توفير قطع غيار أو خدمات فنية محدودة، في انتظار عودة المناخ الملائم للاستثمار
شراكة مؤجلة
أعلنت الصين عن مبادرة الحزام والطريق في عام 2013، ساعيةً لإحياء طريق الحرير القديم بربطها بالعالم عبر شبكة من مشاريع البنية التحتية والتجارة. وكانت اليمن من أوائل الدول العربية التي انضمت رسمياً إلى المبادرة في سبتمبر 2013.
اليمن يمتلك مزايا جغرافية تجعلها محوراً مهماً في سياق مبادرة الحزام والطريق لجهة قربها من مضيق باب المندب، أحد أهم الممرات البحرية العالمية، ووجود ميناء عدن، بعمقه الطبيعي وموقعه القريب من خطوط الملاحة الدولية، فضلاً عن إمكانية تحويل اليمن إلى مركز لوجستي إقليمي أو محطة لإعادة التصدير في المحيط الهندي والبحر الأحمر.
ومن أبرز المشاريع التي كانت مطروحة قبل الحرب، تطوير وتوسعة ميناء عدن ليصبح مركز شحن إقليمي، وإنشاء خطوط سكك حديدية تربط الساحل بالمدن الداخلية، وكذلك بناء مناطق صناعية بالشراكة مع القطاع الخاص الصيني، فضلاً عن استثمارات في قطاع الطاقة النظيفة (الشمسية والرياح) لتغطية احتياجات المناطق النائية.
لكنّ الحرب المستمرة وتداعياتها والتدهور الهيكلي في مؤسسات الدولة حالت دون تنفيذ أي من تلك الخطط.
فرص العودة والاستثمار الاستراتيجي
تُعرف السياسة الصينية بالبراغماتية، وتفضل الانتظار حتى توفر الظروف الملائمة قبل اتخاذ خطوات استثمارية كبرى، وبالنظر إلى أهمية اليمن الجيوسياسية، فإن بكين قد تعود بقوة إلى المشهد الاقتصادي اليمني بمجرد تحقيق استقرار سياسي وأمني.
وتكمن الفوائد المحتملة للصين في تعزيز سيطرتها على سلاسل الإمداد البحرية العالمية، دخول أسواق جديدة واعدة، والحصول على مصادر خام بأسعار تنافسية.
وقد يكون ذلك ممكناً في حال تشكيل حكومة يمنية موحدة يمكن التفاوض معها، وتحسن البيئة الأمنية في الموانئ والمناطق الصناعية، فضلاً عن تحديث التشريعات الاستثمارية وضمان حماية حقوق المستثمرين الأجانب.
بدايات التواصل الحضاري وطريق الحرير
رغم اضطرابات الحرب وتحديات الواقع، تظل العلاقات الثقافية بين اليمن والصين واحدة من أبرز النماذج للتقارب الحضاري الطويل الأمد في المنطقة. فمن طريق الحرير القديم إلى مبادرات التبادل الأكاديمي واللغوي المعاصر، رسمت الثقافة جسوراً دائمة بين الشعبين، عبّرت عنها الموانئ، والجامعات، والمراكز التعليمية، وحتى عروض الفنون والمطبخ التقليدي.
قبل اندلاع الحرب في اليمن عام 2015، شهدت صنعاء وعدن مبادرات منظمة لتعليم اللغة الصينية، بإشراف مباشر من السفارة الصينية التي نظّمت دورات تعليمية موجهة لطلاب الجامعات والدبلوماسيين. كما أُبرمت اتفاقيات تعاون بين جامعات يمنية مثل جامعة صنعاء وعدن، وجامعات صينية، لتبادل الطلاب والأساتذة.
ومع تصاعد الصراع وتوقف الأنشطة الرسمية، لم تختف اللغة الصينية من الساحة اليمنية. إذ استمرت بعض المبادرات الفردية والمراكز التعليمية غير الرسمية في تدريس اللغة، وبرزت مبادرات شبابية يقودها طلاب يمنيون تلقوا تعليمهم في الصين، سعياً منهم لنقل المعرفة إلى الداخل اليمني.
برامج تبادل ومنح دراسية
شكلت المنح الدراسية حجر الزاوية في العلاقات الأكاديمية، حيث قدمت الصين منذ مطلع الألفية الثالثة عشرات المنح سنويًا للطلاب اليمنيين، غطت مجالات متنوعة من الطب والهندسة، إلى الاقتصاد والعلاقات الدولية واللغة الصينية.
كما استضافت جامعات صينية مرموقة في بكين وشنغهاي وقوانغتشو أعداداً متزايدة من الطلبة اليمنيين.
ولم تقتصر العلاقة على الجانب اليمني فقط، بل شارك أكاديميون وباحثون صينيون في فعاليات علمية داخل اليمن، أبرزها ما نظمه “مركز الدراسات الآسيوية” بجامعة صنعاء، في حين أسست جامعات صينية برامج لدراسة اللغة العربية والثقافة اليمنية، في خطوة تعكس الاحترام المتبادل.
فنون ومطبخ وحضور شعبي
قبل عام 2014، شهدت العاصمة صنعاء فعاليات ثقافية نظّمتها السفارة الصينية، أبرزها “الأسابيع الثقافية الصينية” التي تضمنت عروض الكونغ فو، معارض صور، عروضاً مسرحية وفنية، وفعاليات لتذوق المطبخ الصيني، ولاقت هذه الأنشطة إقبالًا واسعًا من الجمهور اليمني.
وفي المقابل، شارك فنانون يمنيون في مهرجانات صينية دولية مثل “مهرجان طريق الحرير الثقافي”، حيث قدموا عروضاً موسيقية ورقصات فولكلورية تمثل الإرث الثقافي اليمني، ما أسهم في تقديم اليمن بصورة إيجابية إلى الجمهور الصيني.
جسور معرفية بين الثقافتين
وفي إطار التعاون الإعلامي، وُقعت اتفاقيات بين وكالة الأنباء اليمنية (سبأ) ووكالة (شينخوا)، كما شهدت بعض القنوات اليمنية بث برامج وثائقية صينية مترجمة، مما أتاح للمشاهد اليمني التعرف على جوانب من الحضارة الصينية.
كما شارك اليمن في مشاريع الترجمة الثقافية، وخاصة “مشروع ترجمة الأدب الصيني إلى العربية”، حيث نُقلت إلى العربية أعمال أدبية وفكرية صينية، وشكل ذلك خطوة مهمة في تعميق التفاهم الثقافي.
اهتمام صيني بالتراث اليمني
أبدت الصين رغبة في التعاون مع اليمن في مجال الحفاظ على التراث الثقافي والآثار، وطرحت مبادرات لإرسال بعثات أثرية إلى مواقع يمنية مدرجة ضمن قائمة التراث العالمي مثل صنعاء القديمة وزبيد.
غير أن استمرار الحرب حال دون تنفيذ هذه المشاريع، رغم وجود تفاهمات أولية في هذا الصدد.
دور صحي وإنساني متواصل
تمتد العلاقات الصحية والطبية بين الصين واليمن لعقود طويلة تميزت خلالها بكين بمبادرات إنسانية قائمة على ما يُعرف بـ”الطب الناعم”، والمساعدات الموجهة للدول النامية.
الصين بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي بإرسال بعثات طبية إلى اليمن بشكل منتظم، حيث استقر عدد كبير من الأطباء في محافظات عدن وتعز والحديدة وحضرموت والبيضاء، مقدمين خدمات طبية نادرة، خصوصاً في تخصصات مثل الجراحة والنساء والولادة والباطنة.
امتاز الأطباء الصينيون بسمعة طيبة بين السكان المحليين، وغالبًا ما كانوا يُعرفون بلقب “الحكيم الصيني”، نظير كفاءتهم والتزامهم المهني. وقد تميزت هذه البعثات بإجراء عمليات مجانية في المستشفيات العامة، بالإضافة إلى تدريب الكوادر الصحية اليمنية على أحدث التقنيات الطبية، وإدخال الطب الصيني التقليدي، مثل العلاج بالوخز بالإبر، بشكل محدود.
دعم طبي
على مدار عقود، قدمت الصين دعماً طبياً متنوعاً شمل الأدوية والمعدات الطبية، حيث أرسلت بكين أدوية أساسية ومستلزمات طبية وأجهزة تشخيصية، مثل أجهزة الأشعة، وفحص الدم، ووحدات توليد الأوكسجين، دعماً للمستشفيات الحكومية اليمنية.
كما ساهمت الصين في تمويل بناء مراكز صحية، أبرزها مركز صحي في الحديدة، إلى جانب توسعة مستشفيات في تعز وعدن.
ولعبت الجامعات الصينية دوراً كبيراً في تأهيل الكوادر الطبية اليمنية، إذ تلقى عدد من الطلاب اليمنيين تعليمهم في جامعات مرموقة مثل جامعة بكين الطبية وجامعة تشونغشان، في إطار منح حكومية.
كما تلقى أطباء يمنيون تدريباً عملياً في مستشفيات صينية قبل عودتهم لممارسة المهنة محليًا. وتوجد خطة – لم تُفعّل بعد – لإطلاق برامج تبادل طبي بين جامعات صينية ويمنية، جُمّدت بسبب الأوضاع السياسية الراهنة.
وكانت الصين أبدت استعداها لضم اليمن إلى برنامج “طريق الحرير الصحي”، الذي يهدف إلى تعزيز التعاون في مجالات الصحة العامة، وتطوير الأنظمة الصحية، والاستجابة للأوبئة، ، إلا أن التنفيذ الفعلي تأخر بسبب الحرب.
استجابة سريعة خلال الجائحة
رغم الظروف المعقدة، كانت الصين من الدول القليلة التي قدمت مساعدات مباشرة لليمن خلال جائحة كوفيد-19، تضمنت إرسال شحنات من الكمامات والملابس الواقية وأجهزة قياس الحرارة، وتزويد بعض المرافق بأجهزة فحص PCR، إلى جانب عقد ورش تدريبية افتراضية للكادر الطبي اليمني، وأيضاً تقديم دفعات رمزية من لقاح “سينوفارم”، بالتنسيق مع وزارة الصحة اليمنية ومنظمات دولية.
تحديات قائمة
رغم استمرار الحرب وتعقيدات المشهد اليمني، ظلت السفارة الصينية ضمن القلائل التي لم تغلق أبوابها تماماً، ما يعكس التزام بكين بعلاقاتها مع اليمن. وتُبدي الصين استعدادها للمشاركة في جهود إعادة الإعمار، متى ما توفرت الظروف الأمنية والسياسية المناسبة.
ويرى مراقبون أن التكامل بين القدرات الاقتصادية والتكنولوجية الصينية والموقع الجغرافي والثروات الطبيعية لليمن، يمكن أن يشكل أساساً متيناً لشراكة استراتيجية في المستقبل، لا سيما في ظل سعي الصين لتعزيز وجودها في الممرات البحرية الحيوية الممتدة من بحر العرب إلى البحر الأحمر.