شؤون آسيوية – خاص –
مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس حيز التنفيذ، بدا أن قطاع غزة يلتقط أنفاسه بعد عام من الصراع المتواصل، وأن الحرب التي أنهكت الجميع قد منحت استراحة قصيرة في انتظار ما ستسفر عنه الأيام القادمة.
الاتفاق الذي تم التوصل إليه بعد مفاوضات معقدة في القاهرة والدوحة، برعاية مصرية وقطرية وبمتابعة أميركية مباشرة، يشكّل في جوهره محاولة لوقف نزيف الدم واستعادة الحد الأدنى من الحياة المدنية في غزة.
نصوص معلنة وتفاهمات ضمنية
الاتفاق المعلن يتألف من بنود واضحة في ظاهرها، لكنها محمّلة بتفاصيل حساسة تمّت صياغتها بعناية، إذ يتضمن النص الأساسي وقفاً شاملاً لإطلاق النار في قطاع غزة وجميع المناطق الحدودية، مع التزام حماس بوقف إطلاق الصواريخ والطائرات المسيّرة، والتزام إسرائيل بوقف الغارات الجوية والعمليات البرية.
كما نص الاتفاق على إعادة فتح المعابر الإنسانية تدريجياً، بدءاً من معبري رفح وكرم أبو سالم، والسماح بدخول الوقود والمساعدات الطبية والغذائية بإشراف الأمم المتحدة والهلال الأحمر القطري، مع وجود مراقبة ميدانية من ضباط مصريين.
أما البند الأكثر حساسية في الاتفاق فيتعلق بملف الأسرى والمحتجزين، حيث تم الاتفاق على إطلاق دفعات متبادلة تشمل في مرحلتها الأولى عشرات الأسرى الفلسطينيين مقابل رهائن إسرائيليين تحتجزهم حماس منذ الحرب الأخيرة، على أن يتم التبادل عبر آلية مراقبة دولية.
مصادر مطّلعة على سير المفاوضات في القاهرة أشارت إلى أن الاتفاق لا ينهي جذور النزاع، لكنه “ينظم قواعد الاشتباك مؤقتاً”، بحيث تتوقف العمليات العسكرية مقابل التزام متبادل بضبط الميدان، من دون تقديم أي تنازلات سياسية مباشرة.
وبحسب مسؤول مصري شارك في المفاوضات، فإن الاتفاق “نتاج ضغط مزدوج: ضغط إنساني دولي على إسرائيل، وضغط ميداني على حماس”، مضيفاً أن القاهرة والدوحة ستواصلان التنسيق مع الأمم المتحدة والولايات المتحدة “لتثبيت الهدنة وتحويلها إلى تفاهم أكثر استقرارًا خلال الأسابيع المقبلة”.
اختبار ميداني لإرادة الأطراف
مع حلول الصباح الأول بعد دخول الهدنة حيز التنفيذ، بدت غزة وكأنها تخرج من تحت الركام لتتنفس، الشوارع المدمّرة بقيت صامتة، والأنقاض لا تزال شاهدة على قسوة الأشهر الماضية، ووسط الدمار، تحركت بعض القوافل الإنسانية، ودخلت شاحنات تحمل مواد إغاثية من معبر رفح، في مشهد أعاد بعض الأمل إلى عشرات الآلاف من النازحين.
رغم ذلك، لم يخلُ اليوم الأول من التوتر، حيث أعلن الجيش الإسرائيلي أنه رصد إطلاق قذيفة من شمال غزة بعد ساعات قليلة من بدء وقف إطلاق النار، فيما نفت حماس مسؤوليتها، متهمةً الجيش بخرق الاتفاق عبر “نيران تحذيرية” على المزارعين شرق خانيونس، هذه الحادثة لم تتطور إلى تصعيد واسع، لكنّها كانت تذكيراً بأن الهدنة لا تزال هشة وأن أي خطأ ميداني قد يعيد الدوامة إلى نقطة الصفر.
في أحياء غزة الوسطى والشمالية، عاد بعض السكان إلى منازلهم المهدّمة جزئيًا بحثًا عن مقتنياتهم أو بقايا حياتهم السابقة، فيما انتشرت فرق الدفاع المدني والهلال الأحمر لتقييم حجم الدمار.
ورغم كل ذلك، بدت إرادة التهدئة واضحة، إذ لم تُسجّل عمليات قصف أو اجتياحات جديدة حتى مساء اليوم التالي، فيما قال مسؤول أممي إن “الطرفين التزما نسبيًا بالاتفاق، رغم غياب الثقة المتبادلة”، وبالنسبة لغزة، كان مجرد توقف القصف إنجازاً.
الوساطة المصرية-القطرية
خلال الأسابيع الأخيرة عملت القاهرة والدوحة لتقريب وجهات النظر بين الطرفين، حيث تولت مصر إدارة الجانب الأمني والميداني، بينما ركزت قطر على القناة السياسية والإنسانية، خصوصاً ما يتعلق بتدفق المساعدات وتمويل عمليات الإغاثة.
مصدر دبلوماسي عربي قال إن المفاوضات “لم تكن سهلة على الإطلاق”، إذ اصطدمت بملفات حساسة مثل آلية المراقبة وشروط إدخال المساعدات وتبادل الأسرى، حيث كانت إسرائيل تصرّ على رقابة مشددة على كل شاحنة تدخل القطاع، بينما طالبت حماس بضمانات تحول دون استخدام المعابر كورقة ضغط.
في نهاية المطاف، جرى التوصل إلى حل وسط يمنح الأمم المتحدة والهلال الأحمر الإشراف الفني، على أن تتولى مصر مسؤولية الرقابة الميدانية، أما في ملف الأسرى، فتم تأجيل تفاصيل الأعداد والترتيبات إلى جولات لاحقة، مع التزام مبدئي بإطلاق “دفعات إنسانية” كإجراء لبناء الثقة.
الوسيط المصري وصف الاتفاق بأنه “وقف مؤقت لإطلاق النار، لا أكثر ولا أقل”، لكنه أشار إلى أن تثبيته قد يفتح الباب أمام “محادثات أكثر عمقًا” بشأن ترتيبات أمنية طويلة الأمد تشمل الحدود الجنوبية لغزة، وربما إعادة إحياء دور السلطة الفلسطينية في بعض المناطق.
بين تثبيت الهدنة وتجدد المواجهة
تشير القراءات إلى ثلاثة مسارات رئيسية محتملة لمستقبل الاتفاق، الأول، وهو الأكثر تفاؤلاً، يفترض تحوّل الهدنة إلى اتفاق مستدام من خلال تفاهمات إضافية تشمل توسيع دخول المساعدات وبدء الإعمار وتبادل الأسرى، وهو ما يتطلب التزاماً دولياً جاداً وضمانات أمنية واقتصادية للطرفين.
السيناريو الثاني، وهو المرجّح في المدى القصير، يقوم على استمرار الوضع الحالي بشكل هش، بحيث تبقى الهدنة قائمة من الناحية النظرية، لكن مع تسجيل خروقات محدودة لا تؤدي إلى انهيار شامل، هذا النمط من “السلام البارد” هو ما خبرته غزة وإسرائيل مراراً في السنوات الماضية.
أما السيناريو الثالث، فهو انهيار الهدنة وعودة القتال في حال فشل ترتيبات المساعدات أو تبادل الأسرى، أو وقوع حادث أمني كبير على الحدود، هذا الاحتمال يبقى قائماً في ظل انعدام الثقة بين الطرفين، وتداخل الملفات الإقليمية التي تجعل أي توتر محلي قابلًا للانفجار سريعًا.
تحديات التنفيذ
الهدنة تواجه منذ يومها الأول تحديات معقدة، أبرزها آلية المراقبة، إذ لا توجد جهة قادرة على فرض التزام كامل على الطرفين.
الأمم المتحدة تملك دوراً تقنياً محدوداً، ومصر تعمل كضامن سياسي، لكن التطبيق العملي في الميدان يعتمد إلى حد كبير على حسن النية، وهو أمر نادر في صراعات الشرق الأوسط.
التحدي الثاني يتمثل في الملف الإنساني، إذ لا يعني إدخال المساعدات بالضرورة تحسين الوضع المعيشي سريعاً، فإسرائيل لا تزال تفرض قيوداً على المواد التي تعتبرها “ذات استخدام مزدوج”، فيما تحاول الفصائل في غزة ضمان توزيع المساعدات بعيداً عن أي تدخلات سياسية أو أمنية.
أما التحدي الثالث فهو الملف الأمني الداخلي، حيث لا تسيطر حماس بالكامل على جميع الفصائل المسلحة في القطاع، وأي عمل عسكري مستقل قد يُفجّر الهدنة ويمنح إسرائيل ذريعة للرد، في المقابل، فإن أي خرق إسرائيلي، حتى لو كان محدوداً، يُقرأ في غزة كإشارة لعودة العدوان.
حسابات متبادلة
من الناحية السياسية، يبدو أن الاتفاق يمثل لحظة توازن اضطراري بين طرفين يدركان أن الاستمرار في القتال لن يحقق مكاسب إضافية.
بالنسبة لإسرائيل، كان الهدف المعلن من التصعيد الأخير هو “تحييد قدرات حماس وتقليص تهديدها الأمني”، وفي هذا الإطار، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الاتفاق بأنه انتصار دبلوماسي ووطني وأخلاقي، لكنه تجنب وصفه بإنهاء نهائي للحرب، خاصة وأن الضغوط الداخلية عليه من وزرائه وشركائه اليمينيين ومن المؤسسة الأمنية تتزايد للمطالبة بضمانات أمنية صارمة.
ومع ذلك، تضطر إسرائيل إلى المضي في تنفيذ الاتفاق بفعل حاجتها لاستعادة الرهائن وتخفيف عزلتها الدولية واسترضاء واشنطن، إلا أن التنازلات التي وردت في الملاحق السرية قد تتحول إلى ورقة ضغط سياسية ضده إذا تعثر التنفيذ.
أما حماس فتسعى لإثبات قدرتها على الصمود وكسر الحصار دون الدخول في مواجهة مفتوحة طويلة الأمد، وهذا يظهر بعاملها بحذر مع الاتفاق؛ إذ قبلت المرحلة الأولى والتزمت بترتيباتها لكنها رفضت أي إشراف أجنبي على غزة، مؤكدة تمسكها بخيار المقاومة، فيما تبحث الفصائل الفلسطينية الأخرى إمكانية تشكيل هيئة حكم فلسطينية موحدة بصيغة معدلة تشمل الحركة ضمن هيكل إداري جديد.
ترحيب حذر وشكوك مزمنة
عقب إعلان الهدنة، توالت ردود الفعل الدولية المرحبة، وإن كان أغلبها مشوبًا بالحذر، الأمين العام للأمم المتحدة دعا الطرفين إلى “الالتزام الكامل” بالاتفاق وتسهيل وصول المساعدات، محذراً من أن أي انتكاسة جديدة “ستؤدي إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة”.
من جانبها، وصفت الإدارة الأميركية الاتفاق بأنه “خطوة أولى مهمة”، إذ تعتبر واشنطن هذه المرة طرفاً مركزياً في التنفيذ، حيث يسعى ترامب إلى تسجيل إنجاز دبلوماسي يعزز موقعه داخلياً ودولياً.
وفي هذا السياق أرسلت واشنطن مائتي جندي إلى إسرائيل لمراقبة التنفيذ، وأقامت مركز تنسيق بقيادة القيادة المركزية الأميركية (CENTCOM) لمتابعة التطورات الميدانية.
أما الاتحاد الأوروبي، فأصدر بيانًا دعا فيه إلى “التحرك السريع لإعادة الإعمار وتخفيف معاناة المدنيين”، مطالبًا إسرائيل بتسهيل دخول المساعدات دون شروط، وحاثًا حماس على “منع أي فصائل أخرى من تقويض الاتفاق”.
في المقابل، قوبل الاتفاق بتشكيك واسع داخل إسرائيل، خاصة في الأوساط اليمينية التي اعتبرت أن الحكومة “رضخت للضغوط الدولية ومنحت حماس وقتًا لإعادة بناء قدراتها”. بينما رأى محللون إسرائيليون آخرون أن “الجيش أنهى أهدافه التكتيكية مؤقتًا”، وأن التهدئة ضرورية لإعادة التقييم الميداني وترتيب الوضع السياسي الداخلي في تل أبيب.
إنهاك جماعي في غزة
على الصعيد الإنساني، لا تزال غزة تواجه أزمة غير مسبوقة، أكثر من ثلثي السكان يعتمدون على المساعدات الإنسانية، وقرابة نصف المنازل إما مدمّرة أو غير صالحة للسكن، إضافة إلى أن المستشفيات تعاني نقصاً حاداً في الأدوية والوقود، والمدارس تحوّلت إلى مراكز إيواء لعشرات الآلاف من النازحين.
في هذا السياق، يرى مراقبون أن الهدنة الحالية ليست سوى مسكّن موقت للأزمة الأعمق، فحتى مع فتح المعابر، سيستغرق وصول الإمدادات وبدء أعمال الإعمار وقتاً طويلاً، في ظل تعقيدات سياسية وأمنية تجعل أي خطوة على الأرض رهينة لموافقة إسرائيلية مسبقة.
أحد موظفي وكالة الغوث (الأونروا) قال إن “المساعدات التي دخلت بعد الهدنة لا تكفي سوى لأيام قليلة”، مضيفاً أن “الاحتياجات ضخمة والبنية التحتية الإنسانية منهارة بالكامل”.
ورغم خفوت أصوات القصف، إلا أن القلق النفسي ما زال حاضراً بقوة، فسكان القطاع يعيشون تحت ضغط الخوف من انهيار الهدنة في أي لحظة، بينما تحاول المؤسسات المحلية والأجنبية ترميم بعض مظاهر الحياة الأساسية: تشغيل محطات الكهرباء، فتح المدارس بشكل جزئي، وتطهير المياه من التلوث.
صمت على حافة الانفجار
من المبكر القول إن الهدنة ستصمد، فالتجارب السابقة تشير إلى أن غياب الأفق السياسي يجعل كل اتفاق مؤقتًا بطبيعته، وأن أي حادث صغير يمكن أن يعيد دورة العنف من جديد. لكنّها، في الوقت نفسه، تذكير بأن الضغط الإنساني يمكن أن يكون قوة سياسية مؤثرة، وأن الاستقرار – حتى المؤقت – يبدأ غالبًا بوقف النار، لا بالتصريحات الكبرى.
الرهان الآن على ما بعد الصمت: هل يمكن تحويل هذه الهدنة إلى فرصة حقيقية لإعادة بناء الحياة في غزة، أم أنها مجرد فاصلة قصيرة قبل عودة الانفجار؟ الإجابة ستتضح قريبًا، حين تبدأ الحسابات الميدانية والسياسية في فرض إيقاعها على الواقع، كعادتها دائمًا، فوق أنقاض الهدوء الهش.