خاص شؤون آسيوية – د. محمد زريق*|
لبنان، البلد الذي يقع في قلب الشرق الأوسط، كان دائمًا محط اهتمام القوى الكبرى التي تتنافس على النفوذ في المنطقة. إحدى الديناميات المهمة وغير المستكشفة بشكل كافٍ هي العلاقات الاقتصادية بين لبنان والصين. تسعى الصين من خلال مبادرة الحزام والطريق الطموحة إلى الاستثمار في البنية التحتية، التجارة، ومشاريع التنمية في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط. ومع ذلك، على الرغم من الإمكانات الكبيرة التي يحملها التعاون مع الصين، فإن تدفق رأس المال الصيني إلى الاقتصاد اللبناني كان محدودًا. يعود السبب الأساسي في ذلك إلى النفوذ الكبير الذي تمارسه الولايات المتحدة، والتي حافظت لعقود على نفوذ سياسي واقتصادي كبير في لبنان.
الجاذبية الاقتصادية للبنان بالنسبة للصين
يمتلك لبنان موقعًا استراتيجيًا مهمًا، حيث يشرف على البحر المتوسط ويعد مركزًا ماليًا ومصرفيًا قديمًا، مما يجعله شريكًا جذابًا للصين. يعد مرفأ بيروت واحدًا من المواقع الرئيسية التي يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في مبادرة الحزام والطريق، حيث يسهل التجارة بين شرق آسيا وأوروبا وأفريقيا. بالإضافة إلى ذلك، يمتلك لبنان موارد غير مستغلة، مثل احتياطيات النفط والغاز المحتملة في شرق البحر المتوسط، والتي توفر فرصًا استثمارية كبيرة للصين.
في حين أن الصين قد أحرزت تقدمًا اقتصاديًا في بلدان أخرى من الشرق الأوسط مثل إيران والعراق ودول الخليج، فإن لبنان يمكن أن يكون رابطًا مهمًا في هذه الاستراتيجية، مما يعزز دور الصين في المنطقة.
الأزمة الاقتصادية اللبنانية
الأزمة الاقتصادية في لبنان تعزز من حاجة البلاد الماسة إلى الاستثمار الخارجي. منذ انهيارها المالي في عام 2019، فقدت العملة اللبنانية أكثر من 90٪ من قيمتها، وارتفعت معدلات التضخم بشكل كبير. وفقًا للبنك الدولي، انكمش الناتج المحلي الإجمالي للبنان بنسبة 58.1٪ بين عامي 2019 و2021، مما جعلها واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة إلى مستويات غير مسبوقة، تحتاج الحكومة اللبنانية بشدة إلى رأس المال الأجنبي ومشاريع إعادة الإعمار.
لكن المؤسسات المالية الغربية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، كانت بطيئة في تقديم المساعدة بسبب الجمود السياسي في لبنان. لقد أعاق الفساد وعدم كفاءة المؤسسات وعدم وجود إرادة سياسية حقيقية لتحقيق الإصلاحات الاقتصادية تقدم برامج الإغاثة الاقتصادية. في ظل هذه الظروف، يمكن للصين أن تمثل بديلاً لمصادر التمويل الغربية التقليدية.
النفوذ الأمريكي في لبنان
تشكل الهيمنة الأمريكية على لبنان إحدى العقبات الرئيسية أمام أي دور اقتصادي كبير للصين في البلاد. العلاقات الأمريكية اللبنانية تمتد لعقود طويلة، حيث قدمت الولايات المتحدة مساعدات مالية وعسكرية ضخمة لدعم الجيش اللبناني وتعزيز الاستقرار الداخلي. لقد كانت الولايات المتحدة حريصة على منع أي تقارب لبناني مع الصين أو غيرها من القوى التي قد تهدد مصالحها.
في الواقع، استخدمت الولايات المتحدة نفوذها بالفعل لمنع أي تعاون دولي واسع مع لبنان. ففي عام 2020، مارست واشنطن ضغوطًا على صندوق النقد الدولي لرفض حزمة إنقاذ كانت لبنان في أمس الحاجة إليها ما لم يتم تطبيق إصلاحات سياسية واقتصادية محددة. وبالتالي، أغلقت الباب أمام بدائل مثل الصين التي كانت مستعدة للتدخل.
النهج الدبلوماسي الصيني
بخلاف الدول الغربية، تلتزم الصين بنهج يقوم على “عدم التدخل” في الشؤون الداخلية للدول، مما يمنحها القدرة على الاستثمار في دول ذات نظم سياسية هشة أو معقدة دون الاهتمام بالحوكمة والشفافية. وقد اعتمدت هذا النهج في دول مثل إثيوبيا وسريلانكا وباكستان، حيث استثمرت بكثافة في البنية التحتية دون فرض شروط سياسية.
إلا أن استثمارات الصين في لبنان كانت محدودة حتى الآن بسبب الرقابة الأمريكية. إن أي استثمار صيني في البنية التحتية أو الطاقة في لبنان سيؤدي إلى رد فعل قوي من واشنطن. تعتبر الولايات المتحدة لبنان جزءًا من دائرة نفوذها في الشرق الأوسط، ولن تتسامح مع توسع النفوذ الصيني فيه.
التنافس الأمريكي الصيني في الشرق الأوسط
لا يقتصر التنافس بين الولايات المتحدة والصين على لبنان فقط، بل يمتد ليشمل الشرق الأوسط بأسره. لقد أصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر للعديد من دول المنطقة، متجاوزة الولايات المتحدة في حجم الواردات والصادرات. ووفقًا لصندوق النقد الدولي، تجاوزت الاستثمارات الصينية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 180 مليار دولار بين عامي 2005 و2021. في المقابل، ركزت الولايات المتحدة على التحالفات الأمنية والشراكات العسكرية بدلاً من التنمية الاقتصادية.
في لبنان، يتجلى هذا التنافس بشكل خفي، حيث أن عروض الصين لتقديم المساعدة في إعادة إعمار بيروت بعد الانفجار الكبير في 2020 قد قوبلت بتردد. القادة السياسيون في لبنان، الذين يخضعون لضغوط أمريكية، يخشون من تعميق العلاقات الاقتصادية مع الصين خوفًا من العقوبات الأمريكية. كما أن نفوذ الولايات المتحدة في القطاع المصرفي اللبناني يحد من قدرة البلاد على تنويع شراكاتها الاقتصادية.
دور المؤسسات العالمية
تلعب المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي تتأثر إلى حد كبير بالسياسات الأمريكية، دورًا كبيرًا في عرقلة الاستثمارات الصينية في لبنان. يأتي أي دعم مالي تقدمه هذه المؤسسات بشروط صارمة تتماشى مع المصالح الأمريكية. على سبيل المثال، تقرير صندوق النقد الدولي لعام 2022 حول لبنان دعا إلى إصلاحات اقتصادية واسعة وإجراءات شفافية، وهي سياسات تتعارض مع نهج الصين العملي الذي يركز على الاستثمار أولاً.
علاوة على ذلك، فإن أساليب التمويل الصينية، التي غالبًا ما تشمل القروض المدعومة بالإيرادات المستقبلية أو مشاريع البنية التحتية، لا تتماشى مع إطار الاستدامة المالية الذي يروج له البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. هذه المؤسسات تركز على الاستقرار الاقتصادي على المدى الطويل. هذا الاختلاف يضع لبنان في وضعية صعبة حيث يتعين عليه الاختيار بين الدعم الغربي طويل الأجل أو الاستثمارات الصينية السريعة.
الطريق إلى الأمام للبنان
يبقى مستقبل العلاقات الاقتصادية بين لبنان والصين غامضًا بسبب التوازن الدقيق الذي يجب على البلاد الحفاظ عليه بين إرضاء الحلفاء الغربيين واستكشاف شراكات جديدة. ومع ذلك، قد تضطر القيادة اللبنانية إلى إعادة النظر في موقفها المتحفظ تجاه الصين إذا استمرت الأزمة الاقتصادية لفترة أطول. بينما تواصل الولايات المتحدة ممارسة نفوذها الكبير على الاقتصاد اللبناني، فإن احتمالات الاستثمار الصيني الواسع النطاق ستظل محفوفة بالتحديات.
في الوقت الحالي، تتعطل قدرة لبنان على أن يكون جزءًا مهمًا من مبادرة الحزام والطريق بسبب التنافس بين الولايات المتحدة والصين. يحتاج القادة اللبنانيون إلى التنقل بحذر في هذا المشهد الجيوسياسي المعقد، حيث يتعين عليهم موازنة حاجتهم إلى الاستثمار الأجنبي مع خطر فقدان دعم شركائهم الغربيين.
إن الدور المحتمل للصين في إعادة بناء الاقتصاد اللبناني معرقل بسبب النفوذ الأمريكي المستمر. لبنان، الذي هو في أمس الحاجة إلى الاستثمار الأجنبي، يمكن أن يستفيد بشكل كبير من مشاريع البنية التحتية والتنمية الصينية، لكن العقوبات الأمريكية والمخاوف الجيوسياسية تشكل عقبة رئيسية.
*دكتور في العلاقات الدولية وباحث في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة صن يات سين (الصين).