شؤون آسيوية – خاص –
شهد المشهد العسكري والأمني بين إيران وإسرائيل تصعيدًا متسارعا خلال الساعات والأيام القليلة الماضية، في ظل مؤشرات متزايدة على دخول الصراع مرحلة أكثر حساسية وتعقيدا. وبين تبادل الرسائل السياسية والعسكرية، وتصاعد حرب الاستخبارات، وتكثيف الاستعدادات الدفاعية والهجومية، تبدو المنطقة أمام مفترق طرق خطير، حيث يترقب الجميع الطرف الذي قد يطلق “شارة البدء” لمواجهة جديدة، قد تكون أوسع وأكثر كلفة من سابقاتها.
هذا التصعيد يأتي بعد ستة أشهر فقط من الحرب القصيرة التي اندلعت بين الطرفين في يونيو 2025 واستمرت 12 يوما، وهي حرب تركت آثارا عميقة على الحسابات العسكرية والأمنية للطرفين، وأعادت رسم خطوط الردع وقواعد الاشتباك في الشرق الأوسط.
إدارة التصعيد لا إشعاله
في 22 ديسمبر 2025، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عزمه زيارة العاصمة الأميركية واشنطن لإجراء مباحثات مع الرئيس الأميركي حول “الملف الإيراني”، في خطوة تعكس إدراك تل أبيب لحساسية المرحلة، وحاجتها إلى تنسيق وثيق مع الحليف الأميركي في ظل التوتر المتصاعد.
نتنياهو شدد في تصريحاته على القلق الإسرائيلي المتزايد من النشاط الصاروخي الإيراني، معتبرًا أن هذا الملف يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن الإسرائيلي والاستقرار الإقليمي. وفي الوقت نفسه، حرص رئيس الوزراء الإسرائيلي على التأكيد بأن بلاده “لا تسعى إلى مواجهة مفتوحة”، بل تهدف – وفق تعبيره – إلى تثبيت السلام والاستقرار في المنطقة.
غير أن هذا الخطاب المزدوج، الذي يجمع بين نبرة التهدئة والتحذير، يعكس في جوهره مأزقًا إسرائيليًا تقليديًا: كيف يمكن ردع إيران دون الانزلاق إلى حرب شاملة، وكيف يمكن احتواء قدراتها العسكرية المتنامية دون الدخول في مغامرة عسكرية غير محسوبة النتائج؟
زيارة نتنياهو إلى واشنطن لا يمكن فصلها عن محاولات إسرائيل إشراك الولايات المتحدة بشكل أعمق في تقييم الوضع الأمني، وربما في رسم سيناريوهات الردع أو المواجهة، خصوصًا في ظل إدراك تل أبيب أن أي صدام واسع مع إيران لن يكون ممكنًا أو مستدامًا دون غطاء سياسي وعسكري أميركي.
رسائل ردع متعددة الاتجاهات
في المقابل، ذكرت تقارير غربية، إضافة إلى بعض المواقع الإيرانية، أن طهران أجرت اختبارات صواريخ باليستية جديدة في عدة مدن، من بينها طهران وأصفهان ومشهد. هذه الاختبارات جاءت بعد ستة أشهر من الحرب السابقة مع إسرائيل، وفي توقيت بالغ الحساسية.
إيران قدّمت هذه المناورات على أنها جزء من استعدادات دفاعية طبيعية، ورسالة ردع تهدف إلى منع أي اعتداء جديد. غير أن دلالاتها تتجاوز البعد التقني، لتدخل في إطار الحرب النفسية والسياسية، سواء تجاه إسرائيل أو الولايات المتحدة.
من وجهة نظر تل أبيب، تمثل هذه الاختبارات مؤشرًا على تسارع تطوير القدرات الصاروخية الإيرانية، وهو ما يعزز المخاوف الإسرائيلية التقليدية من أن تتحول هذه القدرات إلى أداة ضغط أو تهديد مباشر في أي مواجهة مستقبلية. أما بالنسبة لواشنطن، فإن هذه التحركات تعيد فتح ملف “الخطوط الحمراء” المتعلقة ببرامج التسلح الإيرانية، وتضع الإدارة الأميركية أمام معادلة صعبة بين الاحتواء والدبلوماسية من جهة، والردع الصارم من جهة أخرى.
حرب الظل تتصاعد
في 20 ديسمبر 2025، أعلنت إيران تنفيذ حكم الإعدام بحق رجل متهم بالتجسس لصالح إسرائيل والانتماء إلى جماعات معارضة. هذه الخطوة جاءت لتسلط الضوء مجددًا على تصاعد “حرب الظل” بين طهران وتل أبيب، وهي الحرب التي غالبًا ما تكون أقل ضجيجًا من المواجهات العسكرية، لكنها لا تقل خطورة وتأثيرًا.
إعدام المتهم بالتجسس لا يُقرأ فقط كإجراء قضائي، بل كرسالة سياسية وأمنية واضحة. الرسالة الأولى موجهة إلى الداخل الإيراني، في سياق تعزيز خطاب اليقظة الأمنية وإظهار الحزم في مواجهة الاختراقات الاستخباراتية. أما الرسالة الثانية، فهي موجهة إلى إسرائيل، مفادها أن طهران تعتبر نفسها في حالة مواجهة استخباراتية مفتوحة، وأنها مستعدة للرد بقسوة على أي نشاط سري داخل أراضيها.
هذا التطور يعكس حجم التوتر في العلاقات الأمنية بين الطرفين، ويؤكد أن الصراع لم يعد مقتصرًا على التصريحات أو المناورات، بل يمتد إلى عمق البنية الأمنية والاستخباراتية لكل طرف.
تحذيرات إسرائيلية
في خضم هذه التطورات، أدلى رئيس الأركان الإسرائيلي إيَال زامير بتصريحات تحذيرية خلال الأيام الماضية، أشار فيها إلى أن إسرائيل قد تضطر للرد عسكريًا “بشكل قاسٍ” على أي تهديد إيراني. وأكد زامير أن الجيش الإسرائيلي يعدّ لسيناريوهات متعددة في حال احتدم الصراع.
هذه التصريحات تعكس انتقال الخطاب العسكري الإسرائيلي من مرحلة التحذير العام إلى مرحلة التلويح العملي باستخدام القوة. الحديث عن “سيناريوهات متعددة” يشير إلى أن تل أبيب تدرس خيارات مختلفة، تتراوح بين ضربات محدودة، وعمليات ردع نوعية، وصولًا إلى مواجهة أوسع إذا ما فُرضت عليها.
لكن في الوقت نفسه، فإن هذا الخطاب يعكس قلقًا إسرائيليًا حقيقيًا من كلفة أي مواجهة مباشرة مع إيران، خاصة في ظل إدراك المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أن الحرب المقبلة – إن وقعت – ستكون مختلفة جذريًا عن سابقاتها، سواء من حيث الجغرافيا أو طبيعة الأهداف أو حجم الردود المتبادلة.
طهران ترفع مستوى الجهوزية
على الجانب الإيراني، جاءت التصريحات الرسمية لتؤكد الاستعداد الكامل لمواجهة أي سيناريو عدائي. العميد أبو الفضل شكارجي، نائب رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة لشؤون الثقافة والحرب الناعمة والمتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة الإيرانية، أكد أن القوات الإيرانية جاهزة للتعامل مع أي تهديد إسرائيلي أو من أي دولة أخرى.
وشدد شكارجي على أن طهران لا تسعى إلى بدء حرب، لكنها في الوقت نفسه تعزز قدراتها العسكرية بشكل مستمر، مع التركيز على البعد الدفاعي والحفاظ على الروح المعنوية للشعب. هذا الخطاب يعكس استراتيجية إيرانية تقوم على الردع المسبق، وإظهار الجهوزية دون الانزلاق إلى إعلان نوايا هجومية صريحة.
لا تفاوض على البرنامج الصاروخي
في السياق ذاته، أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي أن البرنامج الصاروخي الإيراني “غير قابل للتفاوض”، وأنه يهدف حصريًا إلى الدفاع عن السيادة الوطنية. جاءت هذه التصريحات ردًا على تقارير إسرائيلية وأميركية تحدثت عن تهديدات عسكرية محتملة مرتبطة بهذا البرنامج.
إصرار طهران على هذه النقطة يعكس إدراكها أن ملف الصواريخ بات في صلب أي نقاش أمني أو سياسي يتعلق بإيران. كما يعكس قناعة إيرانية بأن التنازل في هذا الملف قد يفتح الباب أمام ضغوط أكبر، ويقوض معادلة الردع التي بنتها على مدى سنوات.
الاستعداد كوسيلة لمنع الحرب
في تصريحات أذيعت مؤخرا، قال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إن إيران باتت “أكثر استعدادًا” لأي حرب محتملة مقارنة بفترة الحرب التي استمرت 12 يومًا مع إسرائيل في يونيو 2025. وأكد أن الجهوزية العسكرية تمثل – من وجهة نظر طهران – المفتاح الأساسي لمنع الحرب، وليس إشعالها.
عراقجي أشار إلى أن إيران لا تستبعد هجومًا إسرائيليًا جديدًا، لكنها تعتبر نفسها في حالة جاهزية دفاعية كاملة. هذا الطرح يعكس رؤية إيرانية تعتبر أن رفع مستوى الاستعداد هو أفضل وسيلة لردع الخصم، حتى وإن أدى ذلك إلى زيادة حدة التوتر.
اعتقال نحو 2000 شخص
من أبرز التطورات التي أعادت إلى الواجهة حجم الحرب الاستخباراتية، إعلان إيران اعتقال نحو 2000 شخص متهمين بالارتباط بشبكات استخباراتية للعدو خلال الحرب السابقة. ووفق تصريحات العميد أبو الفضل شكارجي، فإن هذه الشبكات جرى بناؤها على مدى سنوات، مع استثمارات كبيرة في التدريب والتنظيم.
وأوضح شكارجي أن عمليات الاعتقال بدأت قبل أشهر من اندلاع الحرب واستمرت حتى نهايتها، مؤكدًا أن إعادة بناء مثل هذه الشبكات “ليست بالأمر السهل” وتتطلب وقتًا وجهدًا وتكاليف ضخمة.
هذا الملف يعكس عمق الاختراقات التي تخشى طهران منها، كما يكشف حجم الجهد الذي تبذله لتعزيز أمنها الداخلي بعد تجربة الحرب الأخيرة. كما أنه يضيف بعدًا جديدًا للصراع، يتمثل في استهداف البنية الداخلية للطرفين، وليس فقط قدراتهما العسكرية التقليدية.
تصعيد مضبوط أم انزلاق خطير؟
في المحصلة، يظهر المشهد العسكري بين إيران وإسرائيل في حالة تصعيد محسوب، حيث يرفع كل طرف من مستوى الجهوزية والرسائل التحذيرية، دون أن يتجاوز – حتى الآن – عتبة المواجهة المفتوحة. لكن كثافة التطورات، وتزامنها، وتعدد ساحاتها، تجعل من أي خطأ في الحسابات شرارة محتملة لانفجار أوسع.
الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة في تحديد اتجاه هذا الصراع: هل ينجح الطرفان، بدعم أو ضغط دولي، في إبقاء التوتر تحت السيطرة؟ أم أن تراكم الرسائل العسكرية والاستخباراتية سيقود في النهاية إلى مواجهة جديدة، قد تكون أكثر شمولًا وتعقيدًا من حرب يونيو 2025؟
المشهد مفتوح على كل الاحتمالات، لكن المؤكد أن الشرق الأوسط يقف مرة أخرى على حافة اختبار أمني بالغ الخطورة.ش

