خاص شؤون آسيوية – إعداد: رغد خضور –
تتمتع العلاقات الصينية السودانية بتاريخ طويل ومعقد، والذي شهد تحولاً كبيراً على مر السنين، بدءاً من العلاقات الاقتصادية إلى التعاون السياسي والاجتماعي.
وتعتبر مثالاً بارزاً على تعاون الصين مع الدول النامية، حيث شهدت هذه العلاقات تطوراً ملحوظاً في السنوات الأخيرة على خلفية المصالح المشتركة بين البلدين في مجالات عدة.
وعلى الرغم من اختلاف الجغرافيا والظروف الاقتصادية، إلا أن الصين والسودان نجحتا في بناء علاقة استراتيجية ذات طابع شامل.
بناء جسور التقارب..
تعود العلاقات بين الصين والسودان إلى خمسينيات القرن الماضي، عندما بدأ البلدان في بناء علاقات دبلوماسية على الرغم من المسافة الجغرافية، فالصين كانت من أوائل الدول التي اعترفت بالسودان بعد استقلاله عام 1956.
ومع ذلك، لم تبدأ العلاقات في التعمق إلا في التسعينيات من القرن الماضي، وخاصة بعد فرض العقوبات الاقتصادية على السودان من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية
في البداية، كانت العلاقات تركز بشكل رئيسي على الدعم الدبلوماسي في المنظمات الدولية، وعلى الرغم من قلة التبادل التجاري بين البلدين في تلك الفترة، إلا أن الصين قدمت مساعدات دبلوماسية للسودان، الذي كان حديث الاستقلال وقتها.
وخلال فترة السبعينيات والثمانينيات، بدأ التعاون الاقتصادي بين البلدين في النمو تدريجياً، مع اهتمام الصين بتطوير علاقات اقتصادية مع دول إفريقيا، حينها شهدت العلاقات السياسية بين الصين والسودان أيضاً نمواً متزايداً.
دعم متبادل..
كانت الصين داعمة قوية للسودان في المحافل الدولية، خاصة في الأمم المتحدة، فقد استخدمت حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي بمناسبات عديدة لدعم السودان في مواجهة الضغوط الدولية.
وفي الوقت نفسه، كان السودان يدعم الصين في قضاياها الدولية، مثل قضايا حقوق الإنسان وسياسة “صين واحدة” التي تعتبر تايوان جزءاً لا يتجزأ من الصين.
من جانب آخر، كانت الصين تسعى لتوسيع نفوذها في إفريقيا بشكل عام، وكان السودان يعتبر نقطة محورية في هذا الاتجاه، بالنظر إلى موقعه الاستراتيجي وموارده الطبيعية، وخاصة النفط. خلال هذا الوقت، انخرط البلدان في العديد من الاتفاقيات الثنائية لتعزيز التعاون في مختلف المجالات، مثل التعليم والتكنولوجيا والزراعة.
وعليه عززت الصين من علاقاتها مع دول أفريقية أخرى عبر البوابة السودانية، وهو ما يساهم في تحقيق أهدافها في القارة الأفريقية من خلال تعزيز الاستثمارات والتنمية الاقتصادية في المنطقة.
التأثيرات السلبية..
مع بداية الألفية الجديدة، بدأ الوضع في السودان يزداد تعقيداً، حيث شكلت الصراعات الداخلية في دارفور والنزاع في جنوب السودان تحديات كبيرة للعلاقات بين الصين والسودان، وهنا سعت بكين للحفاظ على علاقاتها مع السودان، بينما كانت تتعرض لضغوط دولية كبيرة بسبب دعمها لها.
كانت الصين تواجه انتقادات من المجتمع الدولي بسبب استمرار استثماراتها في السودان على الرغم من النزاعات الداخلية، مع ذلك، تمسكت الصين بموقفها في دعم الحكومة السودانية، معتبرة أن التواجد الاقتصادي في السودان يمثل فرصة لتحسين الاستقرار في البلاد.
تحولات جيوسياسية..
في عام 2011، شهد السودان أكبر تغيير في تاريخه الحديث مع انفصال جنوب السودان، حيث كان لهذه الخطوة آثار كبيرة على العلاقات بين البلدين، بعد أن فقدت السودان نصف مواردها النفطية.
ومع كل ذلك، أبقت الصين على علاقاتها مع السودان، حيث كانت تسعى إلى الحفاظ على مصالحها النفطية في الجنوب، بينما عملت على تعزيز علاقاتها مع الحكومة السودانية في الشمال.
في هذا الوقت، بدأت الصين في توجيه المزيد من اهتمامها إلى الأمن والاستقرار في منطقة القرن الإفريقي، حيث أصبحت تدرك أهمية التعاون مع السودان لتحقيق الاستقرار الإقليمي. وسعت إلى دعم عمليات السلام في المنطقة، خاصة في دارفور وجنوب السودان.
تطور شراكات الدفاع..
في السنوات الأخيرة، تطور التعاون العسكري بين الصين والسودان بشكل تدريجي، حيث استثمرت الصين في بناء القدرات العسكرية السودانية من خلال تقديم التدريب والمعدات العسكرية.
كما شهد التعاون الأمني بين البلدين نمواً ملحوظًا في مجالات مكافحة الإرهاب، وتأمين الحدود، وحماية البنية التحتية النفطية.
ورغم أن العلاقات العسكرية كانت أقل وضوحاً من المجالات الاقتصادية، إلا أن الصين أصبحت أحد الموردين الرئيسيين للأسلحة والمعدات العسكرية إلى السودان، خاصة في فترة الحظر العسكري الذي فرضته بعض الدول الغربية على السودان.
شراكة اقتصادية..
تُعد الصين من أبرز الشركاء الاقتصاديين للسودان في العقود الأخيرة، وهذا التعاون الاستراتيجي يعكس رغبة مشتركة في تحقيق مكاسب اقتصادية متبادلة، تقوم على استغلال الموارد الطبيعية السودانية والتكنولوجيا والخبرة الصينية.
التحول الجذري في العلاقات التجارية كان في التسعينيات من القرن الماضي، عندما ركز الجانبان على التعاون الاقتصادي، وتحديداً في قطاع النفط والبنى التحتية، خاصة بعد انسحاب العديد من الشركات الغربية بسبب العقوبات.
ففي عام 1995، بدأت الصين في استثمار قطاع النفط السوداني، حيث قامت الشركات الصينية بالاستثمار في عمليات التنقيب والاستخراج، وأصبح النفط السوداني من الموارد الرئيسية التي تعتمد عليها الصين في تلبية احتياجاتها من الطاقة.
وكانت شركة شركة البترول الوطنية الصينية (CNPC) في طليعة المستثمرين، حيث ساهمت في تطوير حقول النفط، وبناء مصافي التكرير، وخطوط الأنابيب، وميناء التصدير في بورتسودان.
كما شاركت شركة “سينوبيك” الصينية، في بناء البنية التحتية الخاصة بالنفط، بما في ذلك خطوط الأنابيب والموانئ، كذلك أنشئت الصين مشاريع ضخمة في مجال النقل والبنية التحتية، مثل بناء الطرق والجسور والموانئ، مما ساعد السودان على تعزيز بنيته التحتية.
كانت العلاقات التجارية بين البلدين تُعزز بشكل متسارع، حيث أصبحت الصين واحدة من أكبر شركاء السودان التجاريين، مع تزايد صادرات النفط السوداني إلى الصين، وعلى اعتبار كون الصين من أكبر الدول المستثمرة في السودان، أسهم ذلك في دعم الاقتصاد السوداني، خاصة بعد أن فرضت الدول الغربية عقوبات على السودان بسبب النزاعات الداخلية في البلاد.
مشاريع التعاون الجديدة..
مع بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، دخلت الصين والسودان مرحلة جديدة من التعاون، خاصة في ظل مبادرة “الحزام والطريق” الصينية التي تهدف إلى تعزيز الروابط التجارية بين الصين وبقية العالم، ويمثل السودان جزءاً مهماً من هذه المبادرة، حيث يُنظر إليه كحلقة وصل بين إفريقيا وآسيا.
وتشمل المشاريع بين الصين والسودان العديد من القطاعات، مثل الطاقة المتجددة، والتعليم، والصحة، والاتصالات، وبشكل أكبر البنية التحتية، من بناء الطرق والجسور والسدود، مثل سد مروي، الذي يعتبر من أبرز المشاريع التي ساهمت فيها الشركات الصينية.
بالإضافة إلى ذلك، عزز الجانبان التعاون في مجال الزراعة، حيث تعمل الصين لدعم السودان في تحسين إنتاجه الزراعي من خلال استثمارات في التكنولوجيا الحديثة والممارسات الزراعية المتقدمة، عبر تقديم الدعم التقني والآلات الحديثة، إلى جانب مشاريع الري واستصلاح الأراضي.
الجامعات بوابة التعاون..
أصبح التعاون في مجال التعليم والبحث العلمي بين الصين والسودان نموذجاً لتبادل المعرفة وبناء القدرات البشرية، وتستند هذه العلاقات إلى اتفاقيات ثنائية تشمل منحاً دراسية وتبادلاً أكاديمياً، ومشاريع بحثية مشتركة.
وسنوياً تقدم الصين عدداً كبيراً من المنح للطلاب السودانيين، في تخصصات متنوعة مثل الهندسة، الطب، الزراعة، وتكنولوجيا المعلومات، وهذه المنح لا تقتصر على الدراسة الجامعية فحسب، بل تشمل أيضًا الدراسات العليا والدكتوراه، ما يفتح آفاقاً للبحوث المتقدمة.
وبرزت الجامعات الصينية كمراكز جذب للطلبة السودانيين، مثل جامعة تسينغهوا وجامعة بكين، لما تتمتع به من سمعة أكاديمية عالمية، بينما أصبحت بعض الجامعات السودانية مثل جامعة الخرطوم وجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا شريكة في تنفيذ مشاريع بحثية مشتركة مع نظيراتها الصينية.
هذا التعاون سمح بإنشاء مختبرات بحثية، وتنظيم مؤتمرات علمية مشتركة، بالإضافة إلى إرسال بعثات أكاديمية سودانية إلى الصين للتدريب وتبادل الخبرات، فضلاً عن مساهمة الصين في تطوير البنية التحتية لبعض المؤسسات التعليمية السودانية، عبر تمويل وإنشاء مراكز تقنية ومكتبات رقمية.
التعاون في زمن الكورونا..
خلال جائحة كورونا، قدمت الصين دعماً ملحوظاً في المجال الصحي، الأمر الذي كان له دور كبير في تخفيف تأثيرات الجائحة على السودان وساعد في التعامل معها بشكل أكثر فعالية.
الصين قدمت مساعدات طبية شملت إرسال معدات طبية ضرورية مثل الكمامات، والمعقمات، وأجهزة التنفس الصناعي، بالإضافة إلى إرسال فرق طبية لتقديم الدعم والمشورة.
كذلك قدمت بكين شحنات من اللقاحات ضد الفيروس للسودان، كلقاح “سينوفارم”، الأمر الذي أسهم في دعم جهود السودان لتطعيم مواطنيه، إضافة إلى برامج تدريبية للكوادر الصحية السودانية في مجالات الوقاية والعلاج من فيروس كورونا.
السودان بدوره قدم السودان دعماً سياسياً للصين في محافل دولية بشأن التعامل مع الجائحة، كما أبدى السودان تعاونه في تسهيل إجراءات وصول المساعدات الصينية إلى البلاد، وهذا عزز استراتيجية الصين ودورها الإنساني في إفريقيا.
الحذر والمخاوف..
على الرغم من الفرص الكبيرة، إلا أن العلاقات الصينية السودانية قد تواجه تحديات جديدة في المستقبل. واحدة من هذه التحديات هي التغيرات السياسية الداخلية في السودان، سواء كانت انتقالية أو استقراراً سياسياً دائماً، مما قد يؤثر على استثمارات الصين في البلاد. كما أن المخاوف من الفساد وعدم الشفافية قد تؤثر أيضاً على العلاقات التجارية.
علاوة على ذلك، يتعين على الصين مراعاة التوترات الإقليمية في إفريقيا، خصوصاً تلك المتعلقة بالصراع في جنوب السودان ودارفور، والتي قد تؤثر على استقرار السودان بشكل عام، فضلاً عن علاقة الصين مع القوى الكبرى الأخرى، مثل الولايات المتحدة وأوروبا، التي قد تضع ضغوطاً إضافية على كلا البلدين.
تحديات..
العلاقات الصينية السودانية على الرغم من أنها مرت بتحديات ومراحل صعبة، إلا أنها تظل متينة ومبنية على أساس من التعاون المشترك في مجالات متنوعة.
ومن الواضح أن الصين تعتبر السودان جزءاً مهماً في استراتيجيتها لتعزيز علاقاتها مع إفريقيا، ورغم ذلك، يعتمد نجاح هذه العلاقات في المستقبل على القدرة على تجاوز التحديات السياسية والاقتصادية، مع التأكد من أن كلا الطرفين يحققان مصالحهما بشكل عادل.
وعند النظر إلى المستقبل، هناك فرص كبيرة لتعميق العلاقات بين البلدين، خصوصاً في ظل التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها السودان والصين، وإذا تم التعامل مع هذه التحديات بحذر وحكمة، يمكن أن تُثمر العلاقات الصينية السودانية في تحقيق المزيد من التنمية والاستقرار للبلدين في السنوات القادمة.
العلاقات الصينية السودانية علاقة متبادلة المنفعة، حيث تقدم الصين للسودان الدعم السياسي والتنموي، بينما يتيح السودان للصين فرصة استثمارية هائلة في القارة الأفريقية.
وعلى الرغم من التحديات، إلا أن الأفق يبدو واعداً، خاصة إذا ما استطاع السودان تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي، ما سيعزز من شراكة مستدامة مع الصين في المستقبل.