شؤون آسيوية – خاص –
دخلت التطورات في المحافظات الشرقية لليمن، وتحديداً حضرموت والمهرة، مرحلة بالغة الحساسية، بعد تصاعد الخلاف بين الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، مدعومة بتحالف تقوده السعودية، وبين المجلس الانتقالي الجنوبي، أحد أبرز الفاعلين العسكريين والسياسيين في جنوب البلاد.
هذا التصعيد، الذي تخللته تحذيرات رسمية وضغوط سياسية، ثم تطور إلى ضربات جوية نُسبت إلى السعودية، أعاد فتح ملفات شائكة تتعلق بطبيعة التحالفات داخل معسكر “الشرعية”، ومستقبل القضية الجنوبية، وحدود العمل العسكري في مواجهة تحديات أمنية معقدة.
جنوب متشظٍ وتحالفات هشة
منذ اندلاع النزاع اليمني عام 2014، دخلت البلاد في مسار انقسام جغرافي وسياسي عميق. ففي الوقت الذي تسيطر فيه جماعة الحوثيين على العاصمة صنعاء وأجزاء واسعة من الشمال والغرب، تشكل في الجنوب طيف متنوع من القوى المناهضة لهم، بينها الحكومة المعترف بها دوليًا، وقوى قبلية ومحلية، والمجلس الانتقالي الجنوبي الذي يرفع شعار استعادة دولة الجنوب السابقة.
المجلس الانتقالي، الذي أُعلن عن تأسيسه في 2017، بات لاعباً رئيسياً في المعادلة الجنوبية، مدعوماً سياسياً وعسكرياً من دولة الإمارات، وشارك لاحقاً في السلطة بموجب “اتفاق الرياض” الموقع في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، والذي نص على تقاسم السلطة، ودمج التشكيلات العسكرية، وتوحيد الجبهة المناهضة للحوثيين. غير أن التطبيق العملي للاتفاق ظل متعثراً، مع بقاء معظم القوى محتفظة بهياكلها العسكرية المستقلة.
توسع ميداني يفتح باب الأزمة
في مطلع ديسمبر/كانون الأول الجاري، أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي استكمال سيطرة قواته على مناطق واسعة في محافظتي حضرموت والمهرة، بما في ذلك وادي حضرموت، وهي مناطق ذات أهمية استراتيجية وأمنية واقتصادية.
المجلس برر هذه الخطوة بأنها تأتي في إطار مواجهة الجماعات الإرهابية، وقطع خطوط تهريب السلاح التي قال إنها تُستخدم لصالح جماعة الحوثي، إضافة إلى سد فراغ أمني اتهم قوات حكومية بالتسبب فيه.
غير أن هذا التوسع الميداني قوبل برفض واضح من الحكومة اليمنية، التي اعتبرته إجراءً أحادياً تم دون موافقة مجلس القيادة الرئاسي أو تنسيق مع تحالف دعم الشرعية، محذرة من تداعياته على وحدة الصف داخل المعسكر المناهض للحوثيين.
الموقف السعودي.. من التحذير إلى الضغط
السعودية دخلت على خط الأزمة بلهجة متصاعدة. ففي بيانات متتالية صادرة عن وزارة الخارجية وقيادة التحالف، عبّرت الرياض عن قلقها إزاء التحركات العسكرية للمجلس الانتقالي في حضرموت والمهرة، ووصفتها بأنها “تصعيد غير مبرر” أضر بمصالح الشعب اليمني، وبالقضية الجنوبية ذاتها، ونسف جهود خفض التصعيد.
وأكدت المملكة أنها عملت، بالتنسيق مع دولة الإمارات ورئيس مجلس القيادة الرئاسي والحكومة اليمنية، على احتواء الموقف عبر مسار سياسي وأمني، شمل إرسال فريق عسكري مشترك سعودي–إماراتي إلى عدن، لوضع ترتيبات تضمن عودة قوات المجلس الانتقالي إلى مواقعها السابقة خارج المحافظتين، وتسليم المعسكرات لقوات “درع الوطن” والسلطات المحلية.
وزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان، ذهب أبعد من ذلك، داعياً المجلس الانتقالي إلى تغليب صوت العقل والحكمة، والانسحاب السلمي من حضرموت والمهرة، محذراً من أن التصعيد “شق الصف وأعطى فرصة للمتربصين” في إشارة واضحة إلى جماعة الحوثي. وفي الوقت نفسه، شدد على أن القضية الجنوبية ستظل حاضرة في أي حل سياسي شامل، وأن معالجتها لا تكون بالقوة بل بالتوافق وبناء الثقة.
التحالف يلوّح بالتدخل المباشر
بالتوازي مع الضغوط السياسية، أصدر تحالف دعم الشرعية بياناً شديد اللهجة، أعلن فيه أنه سيتعامل “بشكل مباشر” مع أي تحركات عسكرية تخالف جهود خفض التصعيد في حضرموت، بهدف حماية المدنيين. وجاء البيان استجابة لطلب رسمي من رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، عقب مواجهات دامية شهدتها المحافظة بين قوات المجلس الانتقالي ومسلحين قبليين، أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى.
التحالف شدد على ضرورة خروج قوات المجلس الانتقالي من المعسكرات، وتسليمها لقوات درع الوطن، وتمكين السلطة المحلية من ممارسة مسؤولياتها، معتبرًا أن استمرار التحركات العسكرية يشكل تهديدًا مباشرًا للاستقرار، ويقوض الجبهة المشتركة في مواجهة الحوثيين.
غارات جوية.. نقطة التحول الأخطر
بعد ساعات من هذه التحذيرات، أعلنت وسائل إعلام تابعة للمجلس الانتقالي أن طائرات حربية سعودية شنت غارات جوية على مواقع لقوات “النخبة الحضرمية” التابعة له في منطقة وادي نحب بحضرموت. ورغم تداول تسجيلات مصورة، لم يصدر تأكيد رسمي مباشر من الرياض أو الحكومة اليمنية حول تنفيذ هذه الضربات، ما جعل الرواية محل جدل، في ظل اعتمادها على مصادر طرف واحد.
مع ذلك، اعتبر مراقبون أن مجرد حدوث الغارات – في حال تأكدت – يمثل انتقالًا من الضغط السياسي إلى الضغط الميداني، وهو تطور غير مسبوق في العلاقة بين السعودية والمجلس الانتقالي، الذي يُعد شريكًا ضمن معسكر الشرعية، وإن كان ذا أجندة سياسية مختلفة.
المجلس الانتقالي: تمسك بالموقف وانفتاح مشروط
المجلس الانتقالي الجنوبي رد على التطورات بتأكيد أن الغارات الجوية، التي وصفها بـ”المستغربة”، لن تثنيه عن مواصلة ما اعتبره “مسؤولياته الوطنية” في حماية الجنوب واستعادة حقوقه. ورأى أن القصف “لن يخدم أي مسار تفاهم”، لكنه في الوقت ذاته أعلن انفتاحه على أي ترتيبات أمنية تقوم على ضمان أمن ووحدة وسلامة الجنوب، وتراعي المصالح المشتركة مع السعودية.
وأكد المجلس أن عملياته في حضرموت والمهرة جاءت استجابة لدعوات محلية، وبعد فشل قوات حكومية في منع التهريب ومكافحة الإرهاب، معتبراً أن بقاء بعض التشكيلات العسكرية في وادي حضرموت يخالف اتفاق الرياض ومطالب أبناء المحافظة.
تباين الرؤى داخل المعسكر الواحد
الأزمة كشفت بوضوح حجم التباين داخل معسكر القوى المناهضة للحوثيين. فبينما ترى الحكومة اليمنية والتحالف أن أي تحرك عسكري يجب أن يتم تحت مظلة الدولة ومؤسساتها، يعتبر المجلس الانتقالي أن الواقع الأمني في بعض المناطق فرض عليه التدخل المباشر.
محللون يمنيون حذروا من أن هذا التصعيد يمثل أخطر اختبار لوحدة “الشرعية” منذ تشكيل مجلس القيادة الرئاسي. ويرى بعضهم أن الرسائل السعودية تهدف إلى منع فرض وقائع جديدة بالقوة، خاصة في مناطق ذات حساسية إقليمية، فيما يرى آخرون أن تجاهل البعد السياسي للقضية الجنوبية سيبقي الأزمة مفتوحة.
المواقف الإقليمية والدولية
إقليمياً، أعلنت دولة الإمارات دعمها للجهود السعودية الرامية إلى تعزيز الاستقرار في اليمن، مؤكدة التزامها بدعم أي مسار يحقق الأمن والتنمية. كما أبدت دول خليجية أخرى، بينها قطر والكويت، تأييدها لموقف الرياض الداعي إلى الحفاظ على وحدة اليمن ومنع الانزلاق نحو صراعات داخلية جديدة.
دولياً، دعا وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو جميع الأطراف إلى ضبط النفس ومواصلة الجهود الدبلوماسية للتوصل إلى حل دائم، مثمنًا دور السعودية والإمارات في قيادة المسار السياسي، دون انحياز صريح لأي طرف في الخلاف.
حضرموت والمهرة.. أكثر من مجرد ساحة عسكرية
ما يجري في حضرموت والمهرة يتجاوز كونه مواجهة عسكرية محدودة. فالمحافظتان تمثلان عمقاً جغرافياً واستراتيجياً لليمن، وتضمان ثروات طبيعية ومنافذ حدودية وبحرية حساسة. أي اضطراب فيهما ينعكس مباشرة على توازنات الداخل اليمني، وعلى الأمن الإقليمي، خصوصًا في ظل استمرار الحرب مع الحوثيين.
كما أن حضرموت تتمتع بخصوصية اجتماعية وقبلية، ما يجعل أي صدام مسلح فيها محفوفًا بمخاطر تفجير نزاعات محلية يصعب احتواؤها، وهو ما يفسر تشديد التحالف على حماية المدنيين ومنع توسع دائرة العنف.
بين السياسة والسلاح
التطورات الأخيرة وضعت جميع الأطراف أمام مفترق طرق حاسم. فالمضي في التصعيد العسكري يحمل مخاطر تفكك ما تبقى من جبهة موحدة ضد الحوثيين، بينما يتطلب التراجع والعودة إلى طاولة التفاوض تقديم تنازلات متبادلة، والاعتراف بأن القضية الجنوبية لا يمكن حلها أمنيًا فقط، ولا بالقفز على مؤسسات الدولة.
السعودية، من جهتها، تحاول الموازنة بين دعم الحكومة الشرعية، والحفاظ على شراكتها مع الإمارات، ومنع انزلاق الجنوب إلى صراع داخلي مفتوح. أما المجلس الانتقالي، فيسعى لتثبيت موقعه كقوة سياسية وعسكرية لا يمكن تجاوزها، دون خسارة الدعم الإقليمي أو الدخول في مواجهة مباشرة مع التحالف.
أزمة مفتوحة على كل الاحتمالات
حتى اللحظة، لا يبدو أن الأزمة في حضرموت والمهرة قد وصلت إلى نهايتها. فجهود الوساطة لا تزال قائمة، لكن لغة التحذير والضغط الميداني تفرض نفسها بقوة. وبين دعوات ضبط النفس، والتمسك بالمواقف، يبقى المدنيون في قلب المعادلة، عرضة لتداعيات صراع يتقاطع فيه المحلي بالإقليمي، والسياسي بالعسكري.
ما هو مؤكد أن أي حل مستدام لن يكون ممكنًا دون إعادة ترتيب البيت الداخلي لمعسكر الشرعية، ومعالجة جذور الخلاف حول شكل الدولة ومستقبل الجنوب، ضمن إطار سياسي جامع، يُبقي السلاح في خدمة الدولة، لا العكس.

