شؤون آسيوية – ديما دعبول –
العلاقات بين الصين والصومال تعتبر مثالاً حياً على كيف يمكن لدولتين تختلفان في الجغرافيا والتاريخ أن تبنيا جسور تعاون عبر المصالح الاقتصادية والسياسية.
فالصومال، الدولة الواقعة في القرن الإفريقي ذات الموقع الاستراتيجي على ملتقى طرق التجارة العالمية في البحر الأحمر وخليج عدن، تشكل نقطة جذب استراتيجية للصين التي تنتهج سياسة توسع دبلوماسي واقتصادي في إفريقيا منذ أوائل الألفية الجديدة.
هذه العلاقة ليست مجرد تلاقي مصالح اقتصادية، بل هي شراكة تتضمن أبعاداً سياسية وأمنية وثقافية تلعب أدواراً مهمة في المشهدين الإقليمي والدولي.
الخلفية التاريخية للعلاقات بين الصين والصومال
بدايات التعاون في فترة الحرب الباردة
في فترة الخمسينيات والستينيات، عندما حصلت العديد من الدول الإفريقية على استقلالها، كانت الصين تسعى لتعزيز نفوذها العالمي عبر دعم الحركات التحررية ومناهضة الاستعمار، وهو ما جعل الصومال في وقتها حليفاً مهماً في إفريقيا.
كان للصين رغبة في كسر الحصار الذي فرضه الغرب على قوتها الاقتصادية والسياسية، واستثمار علاقاتها مع دول الجنوب للدفاع عن توجهها الاشتراكي في ذلك الوقت.
في هذه المرحلة، دعمت الصين الصومال مادياً وسياسياً، في إطار تحالفات استراتيجية داخل صراعات النفوذ مع الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، على خلفية النزاع الإيديولوجي بين الشرق والغرب.
فترة التراجع وإعادة البناء بعد سنوات الأزمة
مع اندلاع النزاع الأهلي في الصومال في بداية التسعينيات، وتدهور الوضع السياسي هناك، شهدت العلاقات الثنائية تراجعاً نسبياً بسبب انعدام الاستقرار، ما حد من قدرة الصين على الاستثمار أو تقديم مساعدات منظمة.
عادت الصين بشكل أقوى بعد تشكيل الحكومة الفيدرالية للصومال عام 2012، حيث وجدت فرصاً جديدة لتعزيز علاقاتها مع الدولة التي بدأت تستعيد عافيتها تدريجياً.
التعاون السياسي والدبلوماسي
دعم الصين لوحدة الأراضي الصومالية
الصين لطالما تبنت موقفاً داعماً لوحدة الأراضي الصومالية، مما جعلها لاعباً محورياً في دعم حكومة مقديشو المركزية ضد محاولات الانفصال في مناطق مثل بونتلاند وجنوب غرب الصومال.
تدعم بكين الصومال في استعادة سيادتها على كامل أراضيها ضمن إطار احترام المبادئ الدولية لعدم التدخل.
التفاعل في المحافل الدولية
على المستوى الدولي، تدعم الصين الصومال في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وفي مؤسسات الاتحاد الإفريقي، مساندة للدور الصومالي في مكافحة الإرهاب والاستقرار الإقليمي.
كما تشارك الصين مع الصومال في مبادرات دولية تهدف لتطوير دول القرن الإفريقي وتعزيز السلام في المنطقة.
التعاون الاقتصادي والتجاري
الاستثمارات الكبرى ومشاريع البنية التحتية
تعتبر الاستثمارات الصينية في الصومال جزءاً من مبادرة “الحزام والطريق” التي تهدف لربط آسيا بإفريقيا وأوروبا عبر شبكة واسعة من الموانئ والطرق.
تعمل شركات صينية على تطوير ميناء بربرة الاستراتيجي الواقع في إقليم صوماليلاند، حيث يسعى المستثمرون الصينيون إلى تحويله إلى مركز لوجستي حيوي، قادر على استيعاب حركة التجارة العالمية.
في مقديشو، تعمل الصين على تحديث المطار والميناء البحري، وتشارك في مشاريع بناء المدارس والمستشفيات، مما يعزز البنية التحتية الاجتماعية ويخلق فرص عمل محلية.
هذه المشاريع غالباً ما تنفذ بأسلوب “البناء والتشغيل” الذي يتيح للصين نقل التكنولوجيا والتقنيات الحديثة إلى الصومال.
التجارة المتبادلة وتنوعها
تشمل التجارة بين البلدين عدة مجالات: الصين تستورد السمك البحري عالي الجودة من المياه الصومالية، حيث تعد الصيد مورداً اقتصادياً رئيسياً، بالإضافة إلى منتجات زراعية مثل اللبان والصمغ العربي.
في المقابل، تزود الصين السوق الصومالية بالمنتجات الصناعية، الالكترونيات، والأجهزة المنزلية، والتي تلبي الطلب المتزايد في السوق الصومالية الناشئة.
التعاون الأمني والعسكري
مكافحة الإرهاب ودعم الاستقرار
نظراً للتهديد الإرهابي الذي تمثله حركة الشباب المجاهدين، التي تصنفها الأمم المتحدة كمنظمة إرهابية، تلعب الصين دوراً داعماً في مجال الأمن عبر تدريب القوات الصومالية على مكافحة الإرهاب، وتوفير معدات أمنية، ونقل خبرات في مجال مكافحة التطرف.
التعاون في مجال الأمن البحري
مع تزايد عمليات القرصنة في خليج عدن والمحيط الهندي، تبرز أهمية التعاون الأمني البحري بين الصين والصومال.
تقدم الصين دعماً تقنياً لقوات الأمن الصومالية لتأمين المياه الإقليمية وحماية خطوط الملاحة البحرية الحيوية، مما يضمن استمرار التجارة الدولية بسلاسة.
التعاون في مجالات الصحة والتعليم والثقافة
الدعم الصحي
في مجال الصحة، قامت الصين بإرسال بعثات طبية إلى الصومال، وساهمت في إنشاء مراكز علاجية ومحاربة الأوبئة، خصوصاً خلال تفشي الكوليرا والأمراض المعدية، كما أرسلت الصين لقاحات ودعماً تقنياً في مواجهة جائحة كوفيد-19.
التعليم والتبادل الثقافي
تقدم الصين منحاً دراسية لطلاب صوماليين للدراسة في جامعاتها، خاصة في التخصصات الهندسية والطبية، ما يسهم في بناء كوادر مؤهلة تعود إلى بلادها لتعزيز التنمية.
كما تعمل الصين أيضاً على تعزيز التبادل الثقافي من خلال إقامة الفعاليات التي تروج للثقافة الصينية، وفتح مراكز اللغة الصينية في الصومال.
التحديات التي تواجه العلاقات الصينية الصومالية
التحديات الأمنية والاقتصادية
تواجه العلاقات عدة عقبات أبرزها استمرار الاضطرابات الأمنية في الصومال، وهو ما يؤثر على استقرار المشاريع الاقتصادية ويزيد من مخاطر الاستثمار.
إضافة إلى ضعف المؤسسات الحكومية والفوضى الأمنية وهو ما يجعل بعض الخطط التنموية عرضة للتأجيل أو الفشل.
التحديات السياسية والدبلوماسية
الصراعات الإقليمية بين الأقاليم المختلفة في الصومال تؤثر على استقرار العلاقات، كما أن التنافس الإقليمي بين القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والدول الأوروبية يجعل من الصعب على الصين توسيع نفوذها دون موازنة دبلوماسية دقيقة.
آفاق مستقبلية
استمرارية التعاون وتعزيزه
مع تحسن الأوضاع الأمنية نسبياً، من المتوقع أن تتوسع الاستثمارات الصينية في الصومال لتشمل قطاعات جديدة مثل الطاقة والتعدين، حيث تبدي الصين اهتماماً متزايداً بموارد الصومال الطبيعية.
دور الصين في دعم بناء الدولة
تسعى الصين لأن تكون شريكاً رئيسياً في إعادة بناء الدولة الصومالية، من خلال دعم برامج التنمية المستدامة، وتحسين البنية التحتية، وتعزيز القدرات الحكومية.
هذا يعكس رغبة بكين في ضمان استقرار طويل الأمد في القرن الإفريقي، بما يتماشى مع مصالحها الاستراتيجية.
خاتمة:
تُعد العلاقات الصينية الصومالية نموذجاً متطوراً للشراكة بين الدول النامية التي تواجه تحديات كبيرة، حيث يجمعها تعاون متعدد الأبعاد قائم على مصالح استراتيجية وسياسية مشتركة.
يمثل هذا التعاون فرصة للصومال للخروج من حالة الفوضى إلى مسار التنمية، وللصين لزيادة نفوذها في منطقة حيوية على خريطة التجارة الدولية.
إذا ما تمكن الطرفان من تجاوز التحديات الأمنية والسياسية، فإن العلاقة ستصبح نموذجاً رائداً في التعاون الدولي القائم على الاحترام المتبادل والمنفعة المشتركة، وتعزيز الاستقرار الإقليمي.
*صحافية سورية
**ينشر بالتعاون مع مركز الدراسات الآسيوية والصينية في لبنان