شؤون آسيوية – خاص –

منذ اندلاع الحرب المفتوحة بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) في 15 أبريل 2023، يعيش السودان واحدة من أعنف مراحله التاريخية وأكثرها دموية.

فالحرب التي بدأت كصراع على النفوذ بين جناحي المؤسسة العسكرية تحولت سريعاً إلى مأساة إنسانية كبرى، خلّفت حتى الآن أكثر من 20 ألف قتيل وفق إحصاءات أممية، بينما تفيد دراسات مستقلة أن العدد يتجاوز 130 ألف قتيل.

أما النازحون واللاجئون فقد تجاوزوا 15 مليون شخص، وهو ما يجعلها أكبر أزمة نزوح في العالم اليوم.

معارك طاحنة في دارفور وكردفان

تركزت المعارك في الأسابيع الأخيرة على جبهتي دارفور وكردفان، حيث يسعى كل طرف لتثبيت سيطرته على المناطق الاستراتيجية.

الجيش السوداني أعلن إحباط أربع هجمات متزامنة لقوات الدعم السريع على مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور، مستخدماً الطائرات المسيّرة التي ألحقت خسائر كبيرة بالمهاجمين، في المقابل، أكدت مصادر طبية مقتل 13 مدنياً بينهم نساء وأطفال في قصف نُسب إلى قوات الدعم السريع على منطقة خزان قولو قرب الفاشر.

الفاشر تحديداً تحولت إلى مركز الثقل العسكري والسياسي للصراع، فالمدينة محاصرة منذ أكثر من عامين من قبل الدعم السريع، الذي يرى في السيطرة عليها مفتاحاً لبسط نفوذه على كامل إقليم دارفور، بما يوفر له عمقاً إستراتيجياً وممراً حيوياً لإمداداته من شرق ليبيا.

وخلال الأيام العشرة الماضية فقط، أعلنت الأمم المتحدة مقتل 89 مدنياً في هجمات وصفتها بـ”الوحشية” على الفاشر ومخيم أبو شوك للنازحين، بينهم 16 أعدموا ميدانياً على خلفية انتمائهم لقبيلة الزغاوة ذات الأصول الإفريقية.

أما في إقليم كردفان المجاور، فتتوزع السيطرة بين الطرفين: إذ يسيطر الدعم السريع على معظم محليات شمال كردفان وغربها، بينما يحتفظ الجيش بمدن أساسية مثل كادوقلي في جنوب كردفان.

طبيعة المعارك هناك باتت أشبه بـ”حرب عصابات”، حيث تستخدم القوات المتحاربة سيارات “تويوتا لاند كروزر” الشهيرة في هجمات خاطفة، تصل أحياناً إلى حد الاشتباك المباشر وجهاً لوجه، بل والاصطدام المتعمد بين المركبات.

روايات متناقضة

على المستوى السياسي، يظهر تباين في خطاب قادة الدولة، ففي حين شدد الفريق البرهان على أن “التمرد لن تقوم له قائمة بعد اليوم”، مؤكداً أن قوات الدعم السريع “دمرت السودان ولا مجال للتعايش معها مستقبلاً”، بدا نائبه مالك عقار أكثر ميلاً للخطاب التصالحي، إذ وصف الحرب بأنها “هزة نفسية عنيفة” ودعا إلى تجاوز الماضي والبحث عن مصالحات وطنية.

هذا التناقض يعكس صعوبة التوفيق بين النهج العسكري الحاسم والرؤية السياسية التي تسعى لإيجاد مخرج تفاوضي، خاصة مع استمرار الدعم السريع في التمدد واستخدامه لمصادر إمداد خارجية.

التدخلات الأجنبية والمرتزقة

تكشف تقارير ميدانية عن تورط مقاتلين وخبراء أجانب في دعم قوات الدعم السريع، بينهم عناصر من جنوب السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى وليبيا، إضافة إلى مدربين من كولومبيا متخصصين في تشغيل الطائرات المسيّرة وأنظمة التشويش الإلكتروني.

شهود عيان أكدوا أن هؤلاء المقاتلين يتمركزون في مدينة نيالا بجنوب دارفور، ويشرفون على معسكرات تدريب جديدة، بعضها في مواقع سابقة لبعثة “اليوناميد” الأممية.

هذه المعطيات تزيد المخاوف من تحول السودان إلى ساحة صراع إقليمي ودولي بالوكالة.

صمت وانتقادات

رغم فداحة المأساة، يواجه السودان تجاهلاً نسبياً من المجتمع الدولي مقارنة بأزمات أخرى مثل أوكرانيا أو غزة، فقد أعرب المتحدث باسم مفوضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة عن “صدمة” إزاء الجرائم الأخيرة، لكنه اكتفى بالدعوة إلى وقفها فوراً دون إجراءات ملموسة. المحلل الأميركي كاميرون هدسون انتقد هذا التفاوت، مشدداً على أن ما يحدث في السودان لا يحظى بنفس الاهتمام الدولي رغم أن مستويات المجاعة والنزوح تفوق كثيراً مناطق أخرى.

وفي هذا السياق، تستعد برلين لعقد مؤتمر دولي في 18 سبتمبر المقبل تحت شعار “التفكير في السلام والحماية الإنسانية من منظور مدني”. ويرتقب أن يشكل المؤتمر منصة لعرض رؤى المجتمع المدني السوداني أمام صناع القرار الأوروبيين، في محاولة لدفع الملف السوداني إلى صدارة الأجندة الإنسانية.

دعوات للجمعية العامة

على المستوى الدبلوماسي، فشل مجلس الأمن الدولي في اتخاذ قرارات حاسمة بشأن السودان بسبب الانقسامات بين القوى الكبرى واستخدام الفيتو. هذا الجمود دفع محللين إلى اقتراح اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة كخيار بديل، باعتبارها غير خاضعة لحق النقض وتمتلك وزناً سياسياً وأخلاقياً كبيراً. يمكن للسودان – بحسب المقترح – حشد دعم كتل كبرى مثل الاتحاد الأفريقي، منظمة التعاون الإسلامي، وحركة عدم الانحياز لطرح ملفه أمام الجمعية العامة.

مثل هذه الخطوة قد تعيد تسليط الضوء على الأزمة، وتفرض سردية وطنية بديلة عن تلك التي تقدمها القوى الخارجية.

لقاء زيورخ

في سياق آخر، كانت مدينة زيورخ السويسرية قد شهدت في منتصف أغسطس 2025 اجتماعاً مهماً بين رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، ومستشار الرئيس الأميركي للشؤون الأفريقية مسعد بولس، بدعوة من واشنطن، حيث امتد اللقاء ثلاث ساعات، وحضره مسؤولون أمنيون ودبلوماسيون من الطرفين، وتمحور حول الحرب في السودان ومستقبل العلاقات الثنائية.

البرهان طرح خلال اللقاء رؤية تعتبر الحرب “عدواناً إقليمياً” تقوده عدة عواصم بهدف تقسيم السودان والسيطرة على موارده، وشدد على وحدة مؤسسات الدولة والقوات المسلحة والقوى الوطنية في مواجهة هذا المخطط، وأكد رفض وجود مليشيا الدعم السريع، داعياً إلى تفكيكها، تسريح عناصرها، ومحاكمة قادتها، مع المطالبة بتصنيفها تنظيماً إرهابياً. كما طالب بوقف الدعم الإقليمي الذي يسهّل دخول السلاح والمرتزقة إليها.

من جانبها، أعربت واشنطن عن رغبتها في استعادة التعاون الأمني التقليدي مع الخرطوم، خاصة في مجالات مكافحة الإرهاب والاتجار بالبشر والهجرة غير النظامية، حيث أكد الوفد الأميركي أهمية السودان لاستقرار القرن الأفريقي والبحر الأحمر، وطرح بولس حزمة مطالب تمثلت في دفع مسار التحول الديمقراطي بقيادة مدنية، إطلاق عملية سياسية شاملة تضم مختلف الأطراف المدنية، ضمان فتح ممرات إنسانية آمنة، حماية النازحين والمتضررين من الحرب.

حرب وجودية لا سياسية

يرى مراقبون أن هذه الحرب تجاوزت كونها صراعاً سياسياً على السلطة، لتصبح حرب وجودية في نظر قطاعات واسعة من السودانيين.

فالكثير من الشباب الذين يقاتلون إلى جانب الجيش ينتمون إلى الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام 2020، أو إلى أسر ثكلى فقدت أبناءها في مجازر سابقة نفذتها قوات الدعم السريع، بما في ذلك جريمة فض اعتصام الخرطوم في 2019.

لذا فإن دافعهم للقتال يتجاوز الحسابات العسكرية التقليدية، ليصبح ثأراً شخصياً ووجودياً.

أزمة مركبة وحلول مؤجلة

بين الحرب المفتوحة في دارفور وكردفان، والأزمة الإنسانية الممتدة من الكوليرا إلى المجاعة، مروراً بالفيضانات، يجد السودان نفسه أمام كارثة مركبة تهدد كيانه ووحدته. بينما يصر البرهان على الحسم العسكري، يدعو عقار إلى المصالحات، وتواصل قوات الدعم السريع محاولاتها للسيطرة على الفاشر بدعم أجنبي متزايد. وفي الخارج، تكتفي الأمم المتحدة بالتحذيرات، وتستعد أوروبا لمؤتمر قد يضيف زخماً إنسانياً دون ضمان نتائج سياسية.

يبقى السؤال الأكبر: هل يستطيع السودان كسر دائرة العنف عبر مبادرات دبلوماسية بديلة، مثل اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، أم أن الميدان سيظل سيد الموقف حتى يحسم أحد الطرفين الصراع؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *