شؤون آسيوية – بقلم د. ساعود جمال ساعود*/
أولاً: خطوة للخلف: ما البعد العسكري لعملية البيجر؟؟
عملية البيجر جعلتنا نعتقد أن الحروب تودع جيلها الخامس وتستقبل جيلاً جديداً في ظل ما تقوم به “إسرائيل” من تطوير لاستراتيجياتها العسكرية ضد غزة ومسانديها، بدلالة هجومها السيبراني ممثلاً بـ”عملية البيجر” وما خلفته من 39 شهيداً وأكثر من 3000 جريح. خلاصة البحث الإسرائيلي بسبل تسديد ضربة موجعة لحزب الله، كان أمينه العام بقمة الشفاية عندما اعترف بوقعها عليهم .
ضربة البيجر واغتيال القادة هي أعمال استخباراتية بحتة لكنها تمهيدية ذات مفرزات عسكرية وجزء من حرب نفسية ضد حزب الله واللبنانيين ككل. أتفق مع ما نقله موقع اكسيوس الأميركي عن مسؤولين استخباراتيين أميركيين وإسرائيليين أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أرادت تفجير أجهزة البيجر كضربة افتتاحية استباقية في حرب شاملة ضد حزب الله.
ثانياً: تقييم رد حزب الله بعد عملية البيجر:
جاء رد حزب الله بين تثبيت المواقف وإثبات المقدرة باستهداف المستوطنات الوسطى لإسرائيل في أطراف مدينة حيفا وقاعدة راموت ديفيد الجوية ومصانع رافائيل الاستراتيجية، مرسخاً دوره كجبهة إسناد لغزة، ومثبتاً قدرته على التأثير بأمن الشمال والمستوطنيين، ورسم قواعد اشتباك متجددة، مبرزاً قوته العسكرية والتلويح بها كعامل ردع، قالباً الطاولة على الحسابات الاستراتيجية لقادة إسرائيل وداعيمها.
طبعاً الهجمة السيبيرانية الإسرائيلية برزت كرغبة بتوسيع نطاق الحرب وتطوير مستوياتها، وترميم إخفاقات جهاز الموساد، وإدخال حزب الله بحالة إرباك داخلي أمني، عززتها إسرائيل باستهداف اجتماع قيادات حزب الله في الضاحية الجنوبية لتظهره بصورة المخترق والمنكشف أمام الرأي العام العالمي.
وبالنسبة للتوازي بين رد حزب الله وحجم العدوان، فإنه بالنظر لحجم الحزب وتعداده وتسليحه مقارنة مع إسرائيل وتسيلحها وجيشها، ومع حجم الخسائر التي تكبدها حزب الله، فالرد غير متناسب، ولكن ما عساه يفعل غير ذلك؟
المؤشرات توحي أن حزب الله لم يكن يريد حرباً موسعة ولكن يبدو أن إسرائيل تفرضها عليه وتجره إلى هذا المنحى. وأما غاية حزب الله من إظهار صواريخ جديدة وقصف ما بعد حيفا، فهي إضفاء المصداقية على تصريحات قادته ولا سيما في الجانب العسكري، وإثبات مقدرة الحزب على خوض الحرب وتوسيع نطاقها وامتلاكه ما يؤهله للمضي فيها. ولكن ما يجري أن إسرائيل تعمل على إفقاد بيئة المقاومة ثقتها بحزب الله ومقدرته عبر الأحزمة الناريهة التي تستهدف المدنيين ما يشكل عامل ضغط مرعباً نفسياً وعسكرياً على حزب الله.
بالمناسبة هذا تخطيط أميركي ويكفي أن نشير إلى استراتيجية التركيز الدقيق واستراتيجية الردع والتوازن التي ترى فيها إدارة بايدن أن إخضاع حزب الله عسكرياً أو تكبيده أكبر قدر من الخسائر يقوده إلى القبول بالحلول السياسية والتي تجنّبهم مغبة الحرب الإقليمية الموسعة.
ثالثاً: أسباب التصعيد الأخير لإسرائيل اتجاه لبنان
1. التصعيد الإسرائيلي مدروس وممنهج وليس وليد ظرف طارئ، بل يرجع إلى زمن الاجتياح البري لقطاع غزة حين اقترح وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت مخططاً لإجتياح جنوب لبنان وصفه أنذاك بأنه فرصة نادرة لتغيير وجه الجغرافيا في الشمال. وكانت الأهداف الجوية التي ضربت خلال الأسبوعين الأخيرين موضوعة منذ ذاك الحين، لكن دراسة الخسائر المحتمله في صفوف الإسرائيليين، جعلت نتنياهو يتراجع ليحصل التوتر بينه وبين غالانت منذ ذاك الحين.
2. فشل التوصّل إلى تسوية سياسية مع لبنان عبر المبعوث الأميركي أموس هوكستين لأسباب تتعلّق بلبنان وإسرائيل حيث إن المسار الدبلوماسي كان يغضب ايتمار بن غفير وسموتريتش وأركان اليمين، لذا كان نتنياهو حذراً وغير معول على الباب الدبلوماسي.
3. التصعيد الإسرائيلي لا يرتبط بتكثيف حزب الله لهجماته وتوسيع نطاقها فقط، وهذا ثانوي بالنسبة لقادة إسرائيل. هنا نذكر بعد قصف مقر اللواء 769 من قبل حزب الله بصاروخ ثقيل، خرج نتنياهو ليقول: “سنستعيد الامن في الشمال”. لذا فإن التصعيد الإسرائيلي وسيلة وليس نتيجة، وضمن خطة عسكرية ممنهجة موضوعة مسبقاً.
4 . منعكسات ضربات حزب الله على مسار صفقات الأسرى، فحركة حماس بمعزل عن جبهة الإسناد الشمالية هي هدف سهل للإسرائيليين، وإسنادها يخلق مقاومة وقوة سياسية وعسكرية لحماس وثباتاً على خياراتها السياسية والعسكرية بما فيها شروطها بالنسبه لتبادل الأسرى.
5. ما نشهده اليوم من تطبيق “استراتيجية الاستهداف المجنون” يهدف إلى تطويق حزب الله عبر مسارين:
أولاً: ضرب الحاضنة الشعبية أو البيئة المقاومة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت.
ثانياً: تأليب الأحزاب والتحالفات الأخرى في لبنان على حزب الله وتصويره بكونه السبب فيما يواجهه لبنان اليوم من “شبه حرب” على لبنان ككل، وليس فقط على المقاومة لأن هناك من يعارض تصرفات حزب الله ودوره في الحرب.
6. عدم التوصّل لاتفاق بشأن الأسرى مع الإسرائيليين للتفرغ للجانب الأمني الأهم في جبهه الشمال بسبب عاملين:
العامل الأول: تأمين الخاصرة الرخوة الشمالية وشن عملية عسكرية.
العامل الثاني: استثمار النتائج السياسية والميدانية لعملية “إسرائيل” في الشمال، حيث اكتملت توازنات المعادلة من وجهة نظرهم، لأن نزوح الإسرائيليين في من مستوطنات الشمال تواكب مع نزوح اللبنانيين من الجنوب، مما يضطر حزب الله نتيجه “التشابه بالخسائر” إلى الرضوخ للحل السياسي تحت تاثير الضغط الشعبي والقبول بالقرار 1701 والرجوع إلى ما بعد الخط الأزرق ودخول الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل، ما يحقق الأمن لإسرائيل في الشمال بحسب التخطيط العسكري الإسرائيلي، ومن ثم الانقضاض على حماس داخلياً.
ولا اعتقد أنهم سيتراجع الإسرائيليون عن البقاء في محوري نتساريم وفيلاديفيا .. مستحيل .. الهاجس الأمني هو السبب.
7. الهاجس الأساسي لنتنياهو هو سكان الشمال، فإعادتهم ضرورة استراتيجية وأمنية وسياسية، الأمر يتطلّب تغييراً جوهرياً في الوضع الأمني برغم التداعيات الاستراتيجية لهذه الخطوة، ونذكر أن المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر قد منح غالانت ونتنياهو تفويضاً باتخاذ خطوات دفاعية وهجومية ضد حزب الله من أجل تحقيق أهداف الحرب ومنها عودة المستوطنين.
8. خلق الظروف الأمنية المواتية لتأمين الخاصرة الشمالية، والاستفراد بقطاع غزة والضفة الغربية وتخفيف الضغوط الشعبية الداخلية، والإجراءات كثيرة منها نقل الفرقة 98 إلى الحدود الشمالية وإجراء اللواء الاقليمي 769 تدريبات ومناورات واقعية تحاكي الحرب ضد حزب الله.
رابعاً: المشهد الميداني .. هل تتوسع المعركة إلى حرب إقليمية؟
المشهد الميداني، وما يتخلله من توتر وتصعيد مستمر، يعكس استماتة إسرائيل لتأمين وجودها وحماية خاصرتها الشمالية الرخوة لتستعيض عن هجومها البري في الشمال بهجماتها عن بعد جوية وسيبرانية، عملاً باستراتيجية “التركيز الدقيق” لصاحبها وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن بهدف نقل ساحة المعارك الإسرائيلية إلى لبنان. هنا نذكّر بقول نتنياهو: “سنفعل كل ما يلزم من أجل إستعادة الأمن على الحدود مع لبنان وسنعيد سكان الشمال إلى منازلهم”.
تزداد وتتأكد احتمالات ذهاب الأمور إلى حرب مفتوحة بين إسرائيل وحزب الله، والمؤشر على ذلك أن رد حزب الله قابلته إسرائيل ببيان لجيشها أعلنت فيه استمرار التصعيد، لتبدأ بحملة غارات جوية وصلت إلى 500 غارة على مناطق متفرقة في جنوب وشرق لبنان، راح ضحيتها أكثر من نحو 600 شهيد و1835 جريحاً في يوم واحد، وحركات نزوح جماعية، قابلها حزب الله بالرد أيضاً.
خامساً: ما هو موقف باقي دول محور المقاومة؟
كشفت صواريخ فادي 1 وفادي 2 الكثير من الخفايا، فهي سورية الصنع، وسبق لأمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله أن كشف عن أمرين خطيرين هما الدعم العسكري السوري للحزب، وتبريره عدم انخراط سوريا في الصراع بشكل مباشر وعلني نظراً لظروفها الراهنة المعروفة، ولكن ثمة أمراً بغاية الأهمية هو إن سوريا التي عانت خلال السنوات الماضية من “الحرب بالوكالة” ترد اليوم بالمثل وتمارسها بذكاء وسرية، وتكاد تكون سوريا هي المتحكمة بمجريات الأحداث على يد حماس وحزب الله، عبر دعمهما من خلف الستار، وهذه اللعبة الاستراتيجية تبدع بها سوريا.
أما إيران فهي أبدت تراجعاً بتكتيكاتها السياسية والعسكرية فيما يخص الصراع مع إسرائيل، إذ تميل إلى التهدئة عملياً بحيث لا تنزلق الأحداث إلى حرب إقليمية. كما هناك تنويه مهم، فجميع الأحداث التي ظهرت ما بعد استشهاد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي تكشف ملابسات استشهاده ولعهل أهمها “عملية البيجر” هذا الجهاز الذي كان يقتنيه الراحل ابراهيم رئيسي، الذي تفجرت طائرته قرب حدود أذربيجان حيث الموساد الاسرائيلي في قمة نشاطه، والتحقيقات الايرانية صحيحة من جهة نأه لم يُستهدف بصاروخ أو ما شابه ولكنها غير معمقة، فالملابسات حول استهداف الرئيس الإيراني تتزايد.
أما العراق فالحشد الشعبي ميدانياً هو الجهة الفاعلة عسكريا ولكنه يضرب من بعيد وبشكل غير فاعل. لذا لا تعويل عليه مقارنة بحزب الله.
وأما اليمن فكان له تأثير على الملاحة في البحر الأحمر ولكن لا يمكن لأنصار الله لعب دور أوسع، فصاروخهم البالسنتي صاحب ال 15 دقيقة وال 2000 كيلومترا لم يقتل أي جندي أو عسكري إسرائيلي.
هل إسرائيل تمضي في مخططها القائم على إنهاء حركة حماس وضرب المد المقاوم لها في محيطها؟
لو دققنا في رفض إسرائيل الإنسحاب من محوري نتساريم وفلادلفيا لوجدنا أن خطة أضعاف حماس أولاً ومن ثم فإن القضاء عليها عسكرياً هدف حتمي لدى القادة الإسرائيليين. وكما أن خططهم “لليوم التالي” توضح أنهم يسعون لإستئصالها سياسياً من مستقبل فلسطين في القطاع خاصة وفلسطين عامة.
أما تركيز إسرائيل على ساحات الشمال اليوم فهي سياسية مناهضة مضادة لسياسة توحيد الجبهات التي تبنتها حماس والفصائل المساندة لها بما فيها حزب الله، بنية تجفيف منابع الدعم لحماس التي تختل معادلة صمودها بمجرد وقف جبهات الإسناد عنها. ولا مبالغة إذا قلنا إن الفضل في استمرار مقاومة حماس يعود لقوة ودعم وإسناد حزب الله.
بالنسبة لإيران وسوريا فإن استهداف سوريا المتكرر، وآخرها “عملية مصياف” التي يلفها الغموض، تثبت أن محاربة داعمي الفصائل المقاومة هدف قائم للعدو. ولكن تدرك إسرائيل أن حربها مع الدول أشد وقعاً من حربها مع جماعات صغيرة وإن صعبت عليها تكتياتها.
سادساً: حقبة ما بعد اغتيال السيد حسن نصر الله .. التطورات والتداعيات
إن هاجس وجود السيد نصرالله والبحث في سبل التخلص منه هو ما دفع اسرائيل لسن استراتيجيات الاستدارة شمالاً بعد 11 شهراً من الاستنزاف لتركز هجماتها على الجبهة الشمالية؛ جبهة جعلت قادتها يقلبون الأكف، يعملون الفكر، يستجدون الدعم، والهدف حزب الله فكراً – وقادة – وعتاداً، فكان جنوحهم لاستهداف السيد نصر الله، متجاهلين أن للمقاومة أيديولوجيا لها منظومتها القيمية وعقيدتها الراسخة وممارساتها الفاعلة ومقدرتها على رسم المعادلات وفرضها.
يرحل السيد نصر الله مهندس المعادلات الاستراتيجية شهيداً وأميناً عاماً ومخططاً سياسياً بارعاً، لكن عوامل الثبات والاستمرار باقية: فالعقيدة ومصادر التهديد ووحده الهدف وسموه؛ كلها عوامل تكفل استمرار النهج المقاوم لحزب الله. ولعل استمرار العمليات العسكرية عقب إعلان استشهاد السيد نصر الله خير شاهد.
فهذه لحظة محورية فارقة في مصير منظومة حزب الله أرخت بثقلها على هيكليته بعد رحيل أمينه العام وبعض قادة الصف الأول، لذا يجد الحزب نفسه اليوم أمام إعادة بناء هرميته التنظيمية واستعادة معنوياته في أعقاب تخلخل بنيته القيادية، تبدأ بانتخاب أمين عام جديد. تداعياتُ يمكن لآثارها أن تتضاعفَ فيما لو اتبعتها إسرائيل باجتياح بري محدود للأراضي اللبنانية في استغلال للحظة الراهنة.
تقفُ المنطقة برمتها أمام احتمالات مفتوحة. فاغتيال الأمين العام لحزب الله والتصعيد الإسرائيلي ككل يجعل المنطقة أمام مسارات متعددة: فإما أن تذهب إلى توتر إقليمي شامل واتساعٍ لنطاق الصراع يؤدي إلى تعبئة الساحات كافة: إيران، سوريا، اليمن، وزيادة وتيره العمليات ضد إسرائيل. فالحزب صرح باستمرار إسناده لغزة، وإيران تعلن استمرار دعمها للمقاومة. وتسعى إسرائيل إلى استعادة الردع كي تشرع في تهيئة المنطقة لما بعد غزة، وبالتالي فرض واقع جديد على مستوى الصراع. وقد تذهب الأمور باتجاه حرب استنزاف طويلة الأمد في ظل الدعم الأميركي الاوروبي لإسرائيل.
سابعاً: ماذا بعد؟
إن الدخول بدائرة الفعل ورد الفعل بناء على تصريحات ووعود وتحركات عملية وترجمات لها على أرض الواقع، فالمستقبل قادم نو تأجيج الصراع بين حزب الله وإسرائيل، ولكن على الساحتين الفلسطينية المحتلة من قلب اسرائيل من جهة والجغرافيا اللبنانية من جهة أخرى، ويبقى التوسع العسكري خارج نطاق الضاحية وارداً للمزيد من الضغط على حزب الله ، ولطالما أعلن الجيش الاسرائيلي استمرار التصعيد ضد حزب الله بعد قصفه رامات ديفيد ومصانع رفائيل. فالهدف الرئيس المعلن للجيش الإسرائيلي وحكومة اليمين المتطرف، هو تهجير السكان المدنيين وإيقاع عدد كبير من القتلى والجرحى بينهم.
أما الحرب الإقليمية فهي مستبعدة، فإيران تصرّح برفض الإنجرار إليها، وواشنطن تتذرع برفض توسيع الحرب، والوسط العربي صامت، وباب السياسة مازال مفتوحاً، ليضحي الصراع رهناً لمستجدات الواقع الميداني وتطوراته وتداعياته.
*باحث سوري.