شؤون آسيوية – غزة –
مع دخول أول منخفض جوي هذا الموسم على قطاع غزة، وجد عشرات آلاف النازحين أنفسهم في مواجهة قاسية جديدة تُضاف إلى سلسلة المعاناة المتواصلة منذ سنوات الحرب والحصار. أمطار غزيرة هطلت منذ ساعات الفجر الأولى، فأغرقت الخيام المتهالكة، وأغرقت معها ما تبقى من قدرة الناس على الاحتمال. وفي ظل واقع إنساني هشّ، تحركت الأمم المتحدة عبر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) لمحاولة استدراك تداعيات الطقس القاسي، لكن المساعدات نفسها تواجه عراقيل تمنع وصولها إلى القطاع، فيما يستمر تدهور الأوضاع على الأرض.
معاناة تتجدّد مع أول منخفض جوي
في صباح الجمعة، كانت مشاهد الغرق تعيد رسم المأساة من جديد. المياه تجمعت داخل ساحات مراكز الإيواء، وتجاوزت في بعضها العشرة سنتيمترات، ما أدى إلى غرق الأغطية والفراش والملابس داخل الخيام. حدث ذلك رغم أن هذه الخيام في الأصل تالفة بنسبة تصل إلى 93 في المائة، وفق جهاز الدفاع المدني في غزة.
سكان القطاع، خصوصاً في مدينة غزة، استيقظوا على واقع أشبه بكابوس جديد. محمود بصل، الناطق باسم جهاز الدفاع المدني، وصف المشهد بأنه “حزين جداً”، مشيراً إلى أن مئات الإشارات وردت إلى الجهاز طلباً للمساعدة بسبب غرق الخيام، لكن نقص الإمكانيات حال دون الاستجابة المطلوبة. ومع استمرار الحصار الإسرائيلي الذي يقيّد دخول المعدات والمساعدات الحيوية، يجد الدفاع المدني نفسه عاجزاً عن توفير ما يلزم لمواجهة أول منخفض جوي، فكيف بالعواصف القادمة في عمق فصل الشتاء.
يقول بصل إن السكان يعيشون واقعاً “مأساوياً” بسبب انعدام مقومات الحياة. لا خيام سليمة، ولا مراكز إيواء كافية، ولا بنية تحتية يمكن الاعتماد عليها بعد عامين من القصف. كثيرون يفكرون في مغادرة خيامهم إلى أماكن أكثر أماناً، لكن “الناس لا يعرفون أين يذهبون”، كما يصف. بعض المساكن المتضررة تشكّل أيضاً خطراً على أصحابها بسبب احتمالات الانهيار مع تساقط الأمطار.
ومع غرق الخيام، شهد القطاع موجة نزوح داخلية جديدة، بحثاً عن مأوى يقي البرد والمطر. المشهد يتكرر: عائلات تحزم ما يمكن حمله، وتنتقل إلى أقارب أو بيوت خالية أو حتى خيام جديدة نُصبت على عجل في الشوارع والطرقات، حيث تنتشر المياه والطين.
الوجوه التي تُجسّد المأساة
بين أصوات المطر وصرخات الاستغاثة، تبرز قصص شخصية تلخص المشهد الكبير.
إسماعيل عبده، الأربعيني، وقف داخل خيمته في منطقة “أنصار” غرب غزة وهو يشاهد مياه الأمطار وقد غمرت فراشه وما تبقى من حاجياته البسيطة. بصوت جهوري يختلط بنبرة الانكسار، قال إن المطر أيقظهم من النوم، وإن العائلة باتت “من دون شيء يقيها من المطر والبرد”. ثلاثة من أطفاله وقفوا إلى جانبه، أحدهم يرتجف من البرد، بينما يحاول الأب إخراج المياه بوسائل بدائية لا تكاد تقدم فرقاً.
إلى جواره، كان أبو شريف جندية، الرجل الستيني، يسدّ الفجوات بالرمال كي يمنع مزيداً من المياه من دخول الخيمة. دعا المؤسسات الدولية والمحلية إلى التدخل العاجل لتوفير خيام جديدة ومواد حماية قبل أن يشتد الشتاء.
وعلى الطريق ذاته، خرجت الفلسطينية دلال شلبية من خيمتها التي غمرتها المياه، تصرخ بأعلى صوتها: “أين العرب؟ أطفالنا يموتون من البرد، لا بيوت ولا خيم”. كلماتها حملت غضباً ويأساً ومرارة، اختلطت كلها مع قطرات المطر التي تتساقط فوق خيمتها الممزقة.
الطريق مسدود
بعد هذه الأمطار، أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أن العاملين الإنسانيين نشروا فرق استجابة سريعة لتقديم الدعم في المأوى. لكن المكتب أوضح أن الاستجابة تعاني من مشكلة جوهرية: المواد اللازمة لتقوية الخيام أو استبدالها، إلى جانب الأدوات الخاصة بتصريف المياه وإزالة النفايات والركام… غير متوفرة داخل غزة.
ليست المشكلة في التمويل، بل في العرقلة. ملايين من مواد المأوى العالقة في الأردن ومصر وإسرائيل تنتظر الموافقات اللازمة للدخول. ووفق أوتشا، رفضت السلطات الإسرائيلية منذ وقف إطلاق النار في 10 أكتوبر **23 طلباً** من **9 شركاء إنسانيين** لإدخال نحو **4 آلاف منصة نقالة** من الإمدادات الأساسية، تشمل الخيام ومواد العزل والفراش وأدوات المطبخ والبطانيات.
السبب الرسمي للرفض؟ 21 من هذه الطلبات قوبلت بالرفض لأن المنظمات التي قدمتها “غير مسجلة” وفق القواعد التقييدية المفروضة على المنظمات الإنسانية الراغبة في العمل داخل غزة. هذه القواعد باتت تشكّل العائق الأكبر أمام إدخال المواد العاجلة المطلوبة لحماية عشرات آلاف النازحين من البرد والمطر.
مع ذلك، تمكن الشركاء الإنسانيون من توزيع نحو ألف خيمة في دير البلح وخان يونس، كما وزعوا آلاف البطانيات والقطع المشمعة والملابس الشتوية خلال الأيام الأخيرة. لكن حجم الاحتياج أكبر بكثير مما تسمح به قنوات الدخول الحالية.
المخاطر تتجاوز الطقس
في ظل الظروف المعيشية المتردية، تتزايد أيضاً مخاطر المواد المتفجرة غير المنفجرة المنتشرة في عدد من المناطق. أوتشا حذّر من أن الأطفال تحديداً يتعرضون لخطر كبير بسبب لعبهم قرب مناطق غير آمنة، إضافة إلى أن بعض السكان يصابون أثناء جمع الحطب أو نصب الخيام في مناطق يُشتبه بوجود مخلفات فيها، لغياب أي خيارات أخرى.
منذ وقف إطلاق النار، سجّل الشركاء العاملون في مكافحة الألغام أكثر من 10 إصابات مرتبطة بالمخاطر المتفجرة. ورغم تنفيذ أكثر من 70 طلباً لتقييم المخاطر، ودعم 32 بعثة مشتركة بين الوكالات، وتنفيذ دورات توعية لأكثر من 49 ألف شخص، يؤكد العاملون أنهم قادرون على بذل المزيد بمجرد السماح بإدخال المعدات اللازمة للكشف والتعامل مع هذه المواد.
تقييمات ميدانية واحتياجات عاجلة
مكتب أوتشا أوضح أنه يقود سلسلة من عمليات التقييم في المناطق التي يعيش فيها السكان أو ينتقلون إليها، بما في ذلك المناطق القريبة من “الخط الأصفر” التي لا تزال القوات البرية الإسرائيلية موجودة فيها. هذه التقييمات تهدف إلى تحديد الاحتياجات الأكثر إلحاحاً، والتي تتصدرها المياه والغذاء والمأوى والرعاية الصحية.
ومع دخول فصل الشتاء فعلياً، تؤكد الأمم المتحدة أن المساعدات الأخيرة التي شملت قماشاً مشمعاً وبطانيات ومراتب وملابس وزعت على الفئات الأكثر ضعفاً، لكنها ليست كافية لتعويض النقص الكبير أو مواجهة الأمطار المقبلة.
وفي مجال الصحة، أُعيد فتح أو إنشاء 27 نقطة خدمة صحية منذ بدء سريان وقف إطلاق النار، وهو تقدم مهم، لكنه يظل محدوداً أمام حجم الاحتياج. لا تزال عقبات متعددة تقيد قدرة المنظمات الإنسانية على توسيع الاستجابة بسرعة وكفاءة، بما في ذلك القيود المفروضة على الحركة والمعابر.
مطالبات أممية بفتح المعابر
تطالب الأمم المتحدة بفتح معابر إضافية إلى غزة، وحل الاختناقات اللوجستية، وتسهيل عمل الوكالات الإنسانية بشكل كامل، إضافة إلى ضمانات سلامة لقوافل الإغاثة.
وفي سياق متصل، كشف أوتشا أن المعدات الخاصة بقطاعي المياه والصرف الصحي لا تزال محظورة من الدخول، ما يشكل خطراً حقيقياً على الصحة العامة. يشمل ذلك الآليات اللازمة للتعامل مع النفايات الطبية، التي تحتاج إلى معالجة فورية لمنع انتشار الأمراض. يحذّر المكتب من أن استمرار منع هذه المعدات سيعني تفاقم الوضع الصحي المتدهور أصلاً في القطاع.
تصاعد العنف في الضفة الغربية:
وفي الضفة الغربية، شهدت قرية دير استيا اعتداءً جديداً من قبل مستوطنين إسرائيليين استهدف مسجداً في القرية. الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أدان الهجوم “بأقوى العبارات”، مؤكداً أن “مثل هذه الأعمال غير مقبولة”، وأن المواقع الدينية يجب أن تُحترم وتُحمى في جميع الأوقات.
وأشار المتحدث باسمه إلى أن هذه الاعتداءات باتت تشكل نمطاً متزايداً من العنف المتطرف، وأن إسرائيل بصفتها القوة القائمة بالاحتلال ملزمة بحماية المدنيين الفلسطينيين وضمان محاسبة المسؤولين عن هذه الهجمات.
من جهتها، قالت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان إن المستوطنين أشعلوا النار في أجزاء من المسجد وكتبوا شعارات معادية للإسلام على جدرانه. وزارة الأوقاف الفلسطينية اعتبرت الهجوم انتهاكاً للقانون الدولي، ودعت إلى تحرك عربي وإسلامي عاجل.
بين الحصار والمطر
رغم دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، تقول مؤسسات حقوقية فلسطينية إن إسرائيل تواصل فرض قيود مشددة على دخول شاحنات المساعدات، بما يخالف البروتوكول الإنساني للاتفاق. هذا الواقع يفاقم معاناة السكان الذين يعيشون “مرحلة كارثية لا تختلف عن القتل والموت”، كما قال الناطق باسم حركة حماس، حازم قاسم.
ومع استمرار الأمطار، تتعالى أصوات الغزيين من داخل الخيام المغمورة. أصوات تطالب بخيام جديدة، بمراكز إيواء صالحة، بمياه نظيفة، بكهرباء، برعاية طبية، وحتى بمساحة آمنة توضع فيها القدم دون خوف من انفجار جسم مشبوه.
شتاء بلا استعدادات
المنخفض الجوي الأول كان اختباراً قاسياً، لكنه كشف ما هو أعمق: النظام الإنساني في غزة يعمل بأقصى ما يستطيع، لكنه يصطدم بجدار الحصار والقيود وتعطيل دخول المعدات. ومع حلول الشتاء، ستزداد التحديات. كل خيمة مبللة تُنذر بكارثة، وكل معدات محظورة على المعابر تُضيف طبقة من المخاطر، وكل يوم تأخير في الاستجابة يُراكم معاناة الناس تحت المطر.
الشتاء يبدأ… والمشهد الإنساني في غزة يزداد تعقيداً. وما لم يتم فتح المعابر وتسهيل عمل الوكالات الإنسانية، فإن الأمطار القادمة لن تجد سوى خيام مثقوبة تنتظر غرقاً آخر.

