شؤون آسيوية – بكين –
تدخل مقاطعة هاينان الجزرية في أقصى جنوب الصين مرحلة مفصلية في مسار تحولها إلى ميناء تجارة حرة رفيع المستوى، مع اقتراب إطلاق العمليات الجمركية الخاصة على مستوى الجزيرة بالكامل، في خطوة تُعد من أكثر الإجراءات جرأة ضمن استراتيجية الصين لتعميق الانفتاح الاقتصادي وتعزيز الاندماج في الاقتصاد العالمي. هذه الخطوة، التي يبدأ تنفيذها رسميًا، لا تمثل مجرد تعديل تقني في السياسات الجمركية، بل تعكس إعادة صياغة شاملة للإطار المؤسسي والتنظيمي الذي يحكم حركة التجارة والاستثمار والخدمات ورأس المال والأفراد.
وفي هذا السياق، أكد وانغ فنغ لي، نائب مدير مكتب لجنة عمل ميناء التجارة الحرة التابعة للجنة الحزب الشيوعي الصيني في مقاطعة هاينان، أن الميناء يعمل على وضع إطار سياسي ومؤسسي متكامل يتماشى تدريجيًا مع متطلبات موانئ التجارة الحرة المتقدمة عالميًا. وجاءت تصريحات وانغ خلال مشاركته في الحلقة الأخيرة من برنامج “المائدة المستديرة الاقتصادية الصينية”، وهو برنامج حواري شامل متعدد الوسائط تقدمه وكالة أنباء شينخوا، ويُعنى بمناقشة القضايا الاقتصادية الاستراتيجية في الصين.
وأوضح وانغ أن إطلاق العمليات الجمركية الخاصة سيُسرّع وتيرة الانفتاح في الجزيرة، عبر بناء نظام إشراف جمركي أكثر مرونة وكفاءة، يوازن بين تسهيل التدفق الحر للبضائع وضمان الأمن الاقتصادي. ويُعد هذا التوازن أحد التحديات الجوهرية لأي ميناء تجارة حرة، إذ لا يكفي فتح الأبواب، بل يجب ضبط الإيقاع حتى لا تتحول المرونة إلى ثغرات.
في قطاع تجارة السلع، أشار المسؤول إلى أن هاينان ستعمل على توسيع نطاق السلع المعفاة من الرسوم الجمركية، بما يعزز من جاذبية الجزيرة كمركز تجاري ولوجستي إقليمي. هذه الخطوة من شأنها خفض تكاليف الاستيراد والتصدير، وتحفيز الشركات على استخدام هاينان كنقطة عبور أو مركز توزيع للأسواق الآسيوية والدولية. وبمنطق الاقتصاد البسيط: كلما انخفضت العوائق، زادت الحركة، وكلما زادت الحركة، ارتفع وزن الجزيرة في سلاسل التوريد العالمية.
أما على صعيد تجارة الخدمات، فتسعى هاينان إلى تسريع وتيرة الانفتاح في قطاعات رئيسية مثل السياحة والتعليم والرعاية الصحية. ويأتي هذا التوجه استجابة مباشرة لمتطلبات تطوير تجارة الخدمات، التي باتت تشكل ركيزة أساسية في الاقتصاد العالمي الحديث. فالجزيرة، بما تملكه من مقومات طبيعية وسياحية، تسعى إلى التحول من مجرد وجهة ترفيهية إلى منصة متكاملة للخدمات عالية القيمة، سواء من خلال استقطاب مؤسسات تعليمية دولية، أو تطوير خدمات طبية موجهة للأجانب، أو توسيع أنماط السياحة العلاجية والثقافية.
وفي ملف الاستثمار، شدد وانغ على أن ميناء هاينان للتجارة الحرة يستهدف خلق بيئة أعمال موجهة نحو السوق، وقائمة على سيادة القانون، وذات طابع دولي، مع تعزيز مستويات الشفافية. وأوضح أن القيود المفروضة على دخول الاستثمارات الأجنبية ستُخفف بشكل أكبر، بالتوازي مع تنفيذ إصلاحات لتبسيط إجراءات الموافقة وتقليص البيروقراطية. الرسالة هنا واضحة: رأس المال مرحب به، طالما يعمل ضمن قواعد واضحة وعادلة.
ويُنظر إلى هذه الإصلاحات على أنها جزء من مسعى أوسع لتحويل هاينان إلى “مختبر” للإصلاح والانفتاح، تُختبر فيه سياسات جديدة قبل تعميمها على نطاق وطني. فبدل تعميم المخاطرة، تُدار التجربة في مساحة جغرافية محددة، مع مراقبة دقيقة للنتائج.
القطاع المالي بدوره حاضر بقوة في خطة الانفتاح. وأكد وانغ أن فتح هذا القطاع سيتم بشكل مطرد ومحسوب، مع بذل جهود لتطوير إدارة الأصول عبر الحدود، وتوسيع نطاق الأعمال الخارجية باليوان. ويعكس هذا التوجه رغبة الصين في تعزيز استخدام عملتها الوطنية في المعاملات الدولية، دون القفز فوق اعتبارات الاستقرار المالي. الانفتاح هنا ليس اندفاعًا، بل خطوة محسوبة على رقعة شطرنج اقتصادية معقدة.
ولأن الاقتصاد لا يتحرك بالسلع ورأس المال فقط، بل بالبشر أيضًا، أشار المسؤول إلى أن هاينان ستعمل على تخفيف القيود المفروضة على حرية تنقل الأشخاص. ويشمل ذلك تيسير سياسات الدخول والخروج، بهدف جذب المواهب الدولية ورجال الأعمال والزوار. فالمنافسة اليوم ليست فقط على الاستثمارات، بل على العقول والخبرات، ومن ينجح في جذبها يكسب ميزة يصعب تعويضها.
وفي مجال الشحن والنقل، تسعى الجزيرة إلى تبني بيئة أكثر انفتاحًا، عبر تحسين سياسات فحص السفن، ورفع كفاءة الإجراءات المرتبطة بالموانئ. كما أشار وانغ إلى العمل على إنشاء آلية فعالة وآمنة لنقل البيانات عبر الحدود، وهو ملف لا يقل أهمية عن حركة البضائع نفسها، في عصر تُدار فيه التجارة بالبيانات بقدر ما تُدار بالحاويات.
مجمل هذه الإجراءات يعكس رؤية شاملة لتحويل هاينان إلى منصة انفتاح متكاملة، لا تقتصر على الإعفاءات الجمركية أو الحوافز الضريبية، بل تمتد إلى إعادة تصميم العلاقة بين الدولة والسوق، وبين الداخل والخارج. وبالنسبة للصين، تمثل هاينان واجهة اختبار لقدرتها على المضي قدمًا في الانفتاح، دون التفريط في الاستقرار أو السيطرة التنظيمية.
في المحصلة، لا يتعلق الأمر بجزيرة جميلة تريد جذب مزيد من السياح، بل بمشروع اقتصادي وسياسي متكامل، يسعى إلى إعادة تعريف دور هاينان في الخريطة الاقتصادية الإقليمية والدولية. ومع إطلاق العمليات الجمركية الخاصة، تدخل التجربة مرحلة التنفيذ الفعلي، حيث ستُختبر الوعود على أرض الواقع، وستُقاس السياسات بالأرقام لا بالتصريحات. الزمن وحده سيحكم على النجاح، لكن المؤكد أن هاينان باتت في قلب الرهان الصيني على انفتاح أعمق وأكثر دقة.

