شؤون آسيوية – خاص –

منذ اندلاع الأزمة المالية والنقدية في خريف 2019، يعيش لبنان واحدة من أعنف الانهيارات الاقتصادية في التاريخ الحديث، بحسب توصيف البنك الدولي.

خمس سنوات مرّت، حملت في طياتها انهيار العملة، وتبخّر مدّخرات المودعين، تفاقم معدلات الفقر والبطالة، وانكشاف الدولة على عجز مالي غير مسبوق.

وإذا كان عام 2022 قد شهد بعض بوادر الاستقرار، فإن الحرب الأخيرة مع إسرائيل أعادت الاقتصاد إلى مربع الانكماش، مع تقدير للخسائر والأضرار بنحو 11 مليار دولار وفق تقرير تقييم الأضرار السريع (RDNA 2025).

واليوم، تطرح أسئلة كبرى: هل يستطيع لبنان اغتنام لحظة سياسية جديدة لإطلاق إصلاحات تعيد بناء الثقة؟ أم أن الاستقرار الحالي مجرد “هدنة هشة” سرعان ما تنهار؟

تحولات سياسية ومؤسسية

في 9 يناير 2025، انتُخب قائد الجيش العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية بعد فراغ رئاسي دام أكثر من عام، هذا الاستحقاق اعتُبر محطة مفصلية لاستعادة انتظام المؤسسات، غير أن التحدي الأهم يبقى في تشكيل حكومة فاعلة قادرة على تنفيذ إصلاحات مالية ونقدية.

وبعد أقل من شهر، تولّى الخبير الاقتصادي اللبناني-الدولي عامر بساط وزارة الاقتصاد والتجارة، والذي أعلن نية الوزارة تكثيف التفتيش على الأسعار وتفعيل قانون المنافسة والمجلس الوطني لسياسة الأسعار، بما يعكس محاولة لفرض قواعد أكثر شفافية على الأسواق الداخلية.

لكن المراقبين يحذرون من أن أي جهود تنظيمية ستظل محدودة التأثير إذا لم تُرفَق بإصلاح مالي شامل، يعالج العجز المزمن ويفتح الباب أمام عودة التمويل الخارجي.

توازن هش

انكمش الناتج المحلي الإجمالي في 2024 بنسبة تراوحت بين -7.1% و-5.7% وفق البنك الدولي، الأمر الذي بدّد آمال العودة إلى مسار إيجابي، ومع ذلك، يتوقع البنك نمو الاقتصاد بنسبة 4.7% خلال 2025، شرط استمرار الاستقرار الأمني والسياسي وتقدّم الإصلاحات.

وبالنسبة للتضخم، فقد بلغ مستويات مفرطة بين 2019 و2023، حيث تباطأ إلى نحو 15% في يونيو 2025، وهذا الانخفاض النسبي يُعزى إلى تراجع الطلب الداخلي بعد سنوات من الانكماش، إضافة إلى استقرار نسبي في سعر الصرف، غير أن مستويات الأسعار تبقى مرتفعة للغاية مقارنة بما قبل الأزمة، إذ تآكلت القدرة الشرائية لمعظم اللبنانيين بشكل حاد.

ومنذ أغسطس 2023، سجّل سعر الصرف استقراراً نسبياً، لكن البنك الدولي وصف هذا الاستقرار بأنه “هش وغير مستدام”، لأنه يعتمد على ضبط مالي وقيود على الإنفاق أكثر من كونه نابعاً من إطار نقدي متماسك، وبعبارة أخرى، أي هزّة سياسية أو أمنية كفيلة بإعادة الانفلات إلى السوق.

ويضاف إلى ذلك أن لبنان لا يزال في وضع التخلف عن السداد منذ 2020، إذ لم تُنجز بعد عملية إعادة هيكلة شاملة للدين، وهو ما يبقي التصنيف الائتماني عند أدنى مستوياته أي (C لدى موديز)، وتشدد المؤسسات الدولية على أن أي تمويل خارجي مشروط بإصلاحات جذرية، تشمل إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتعزيز الحوكمة.

هذا ويعيش أكثر من 44% من السكان تحت خط الفقر الوطني بحسب تقديرات البنك الدولي (2024)، فيما تذهب تقديرات منظمات محلية ودولية غير رسمية إلى أرقام أعلى تصل إلى 80%. البطالة بدورها ما تزال عند مستويات مرتفعة، وسط سوق عمل هش يفتقر إلى فرص كافية للشباب والنساء.

محركات نمو متعثرة

لطالما شكّلت السياحة أحد أعمدة الاقتصاد اللبناني، لكن عام 2024 شهد تراجعاً في أعداد الوافدين بنسبة 32% مقارنة بعام 2023 بسبب الحرب، فيما سجل عام 2025 تحسناً موسمياً، حيث دخل نحو 300 ألف مسافر عبر مطار بيروت في مايو، إلا أن هذه الأرقام تبقى دون مستويات ما قبل 2019، حين كان لبنان يستقطب أكثر من مليوني سائح سنوياً.

بالمقابل، أظهر قطاع البناء مفارقة لافتة، ففي حين تراجع عدد الرخص الممنوحة في 2024، ارتفعت المساحات المرخّصة بنسبة 18% في النصف الأول من 2025. هذا يعكس اتجاهاً نحو مشاريع أكبر حجماً، ربما بفضل مستثمرين من المغتربين أو رساميل خاصة تبحث عن ملاذ في العقار باعتباره مخزناً للقيمة.

وتبقى الكهرباء “عنق الزجاجة” أمام أي انتعاش اقتصادي، فمؤسسة كهرباء لبنان ما زالت عاجزة عن تأمين التيار بشكل مستقر، ما يدفع المواطنين إلى الاعتماد على المولدات الخاصة بأسعار باهظة، حيث تشير تقارير حقوقية إلى أن فواتير المولدات استنزفت أكثر من ثلث دخل بعض الأسر، ما أدى إلى ضغوط اجتماعية خانقة. إصلاح قطاع الكهرباء يعد شرطاً أساسياً في أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي والمانحين.

وفي قطاع الزراعة، الحرب أثّرت بشدة على الجنوب اللبناني، حيث تضررت المحاصيل الزراعية وأغلقت مصانع صغيرة ومتوسطة، وبلغت الخسائر الزراعية نحو 1.1 مليار دولار ضمن حصيلة وطنية أوسع للأضرار بلغت 11 مليار دولار، ما انعكس على الأمن الغذائي، وزاد من اعتماد البلاد على الاستيراد.

الهيكلية المصرفية

التحويلات من المغتربين تبقى شرياناً رئيسياً يضخ مليارات الدولارات سنوياً، ويساهم في استهلاك الأسر، لكن غياب إعادة هيكلة المصارف، وتجميد الودائع منذ 2019، يظل حجر عثرة أمام استعادة الثقة. المستثمرون المحليون والأجانب ينتظرون رؤية واضحة حول مستقبل القطاع قبل ضخ أي رساميل جديدة.

توقعات النمو الطفيفة تحولت إلى انكماش قاس، مع اندلاع الحرب مع إسرائيل، حيث بلغت (-6.6%)، فيما أشار تقرير دولي إلى أن لبنان يحتاج إلى نحو 11 مليار دولار لإعادة إعمار البنية التحتية المتضررة من منازل وطرق ومرافق عامة.

وزاد النزوح الداخلي الواسع الضغوط على المدن الكبرى، فيما تراجعت حركة الاستهلاك والاستثمار في الجنوب والمناطق المتاخمة للحدود.

الأسواق المالية

بعد إعلان التخلف عن السداد في مارس 2020، هوت أسعار سندات اليوروبوندز اللبنانية إلى مستويات متدنية جداً، وجرى تداولها عند 6 سنتات للدولار.

وبحلول أواخر 2024، ارتفعت الأسعار قليلاً إلى نحو 9 سنتات، مدفوعة بتوقعات سياسية حول إمكان التسوية، حيث تحدث بعض المحللين عن احتمال بلوغ 20 سنتاً في حال إبرام اتفاق شامل مع صندوق النقد وتنفيذ إصلاحات جديّة، لكن هذا يبقى تقديراً افتراضياً بعيداً عن الواقع الحالي.

المسار الإصلاحي

لا بد من شروط لا مفر منها لانتعاش الاقتصاد اللبناني، تبدأ من إعادة هيكلة الدين والمصارف والتي من دونها لن يعود التمويل الخارجي ولن تستعاد الثقة بالنظام المالي، إضافة إلى إصلاح المالية العامة عبر تحسين الجباية، ضبط الإنفاق، مع حماية الإنفاق الاجتماعي والاستثماري الضروري.

ويضاف إلى ذلك ملف الطاقة وإصلاح مؤسسة كهرباء لبنان وتفعيل مشاريع الغاز الإقليمي، وكذلك تفعيل قانون المنافسة، تعزيز استقلال القضاء، ومكافحة الفساد.

كذلك الاهتمام بقطاعات واعدة كالسياحة، إذا توفّر الأمن، وتكنولوجيا المعلومات، والصناعات الغذائية، والاقتصاد الاغترابي.

بين التحويلات والصمود

على الأرض، الصورة قاتمة، في الجنوب، المصانع متوقفة والمحاصيل مدمّرة، مع نزوح داخلي واسع، بينما في المدن الكبرى، النشاط الاقتصادي يتأرجح بين مواسم صيفية نشطة وفترات ركود طويلة.

الأسر اللبنانية تعيش تحت ضغط فواتير المولدات وتآكل المداخيل، ويعتمد كثيرون على تحويلات المغتربين أو المساعدات الدولية لتأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة.

يقف لبنان اليوم أمام خيارين، إما انتعاش مشروط، يعتمد على استغلال لحظة الاستقرار السياسي النسبي لإطلاق إصلاحات شجاعة في الدين والمصارف والطاقة والحوكمة، أو ركود تقشفي دائم، يبقي البلاد رهينة العجز والفقر، ويكرّس اعتمادها على التحويلات والمساعدات الطارئة.

المجتمع الدولي يراقب، والمانحون يربطون أي دعم بخطوات ملموسة، واللبنانيون من جهتهم ينتظرون أن تتحول الوعود إلى أفعال، لأن الاستقرار وحده لا يُطعم خبزاً، ولا يُعيد مدّخرات تبخّرت، ولا يُنقذ جيلاً يهاجر بحثاً عن أمل.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *