شؤون آسيوية – تيانجين – إعداد: رغد خضور –
شهدت مدينة تيانجين المينائية بشمالي الصين انعقاد أكبر قمة في تاريخ منظمة شانغهاي للتعاون منذ تأسيسها قبل 24 عاماً، حيث اجتمع قادة أكثر من 20 دولة ورؤساء 10 منظمات دولية في حدث وُصف بالتاريخي، تزامناً مع إحياء الذكرى الـ80 للانتصار في الحرب العالمية ضد الفاشية وتأسيس الأمم المتحدة.
وفي قلب فعاليات القمة، برز خطاب الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي دعا إلى تعميق التعاون داخل المنظمة، وطرح مبادرة الحوكمة العالمية باعتبارها ركيزة جديدة للتعامل مع تحديات العصر.
— شي: نحو حوكمة عالمية أكثر عدلاً وإنصافاً
في كلمته أمام الاجتماع الـ25 لمجلس رؤساء دول المنظمة، أكد الرئيس شي أن العالم دخل مرحلة جديدة من الاضطراب والتحول، حيث لا تزال عقلية الحرب الباردة والهيمنة والحمائية تخيم على العلاقات الدولية، في الوقت الذي تتزايد فيه التهديدات والتحديات العابرة للحدود.
وأشار شي إلى أن الاستقرار العالمي يتطلب إصلاح نظام الحوكمة الدولية ليصبح أكثر عدلاً وإنصافاً، مشدداً على أن جميع الدول – كبيرة كانت أم صغيرة – شركاء متساوون وصناع قرار في هذا النظام.
وحدد الرئيس الصيني خمسة مبادئ رئيسية لمبادرته الجديدة:
1. المساواة في السيادة بين الدول.
2. الالتزام بالقانون الدولي وسيادته.
3. ممارسة التعددية الحقيقية بعيداً عن الأحادية
4. نهج يركز على الشعوب ويعطي الأولوية لرفاهيتها.
5. اتخاذ إجراءات فعلية بدل الاكتفاء بالشعارات.
وقال شي: “يجب ألا تكون هناك معايير مزدوجة، ولا يجوز فرض القواعد المحلية لبعض الدول على الدول الأخرى”، مضيفاً أن الأمم المتحدة يجب أن تبقى الركيزة الأساسية للحوكمة العالمية.
— روح شانغهاي ومبادرة الحزام والطريق
ربط شي بين مبادرته الجديدة ومبادراته السابقة – مبادرة التنمية العالمية، مبادرة الأمن العالمي، ومبادرة الحضارة العالمية – مؤكداً أن هذه الرؤى تتكامل لبناء نظام دولي أكثر شمولية.
وشدد على أهمية مواءمة استراتيجيات التنمية الوطنية مع مبادرة الحزام والطريق، داعياً إلى تحسين تسهيل التجارة والاستثمار والاستفادة من قوة الأسواق الضخمة لدول المنظمة.
وأشار إلى أن استثمارات الصين في الدول الأعضاء تجاوزت 84 مليار دولار، بينما بلغ حجم التجارة الثنائية معها أكثر من 500 مليار دولار سنوياً، ما يعكس حجم الترابط الاقتصادي الذي يمكن البناء عليه.
كما طرح أفكاراً لتعزيز التعاون في الطاقة والبنية التحتية والصناعة الخضراء والاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي، معلناً نية الصين إنشاء بنك تنمية خاص بالمنظمة، وتقديم ملياري يوان كهبات و10 مليارات يوان كقروض للدول الأعضاء خلال الأعوام المقبلة.
— من كتلة إقليمية إلى قوة دولية
استعرض شي تاريخ المنظمة منذ تأسيسها في يونيو 2001 بمدينة شانغهاي بستة أعضاء، إلى أن أصبحت اليوم أكبر منظمة إقليمية في العالم تضم 10 أعضاء، ودولتين بصفة مراقب، و14 شريك حوار، ممتدة عبر آسيا وأوروبا وإفريقيا، بإجمالي ناتج اقتصادي يقترب من 30 تريليون دولار.
وأشار إلى إنجازات تاريخية للمنظمة، من بينها اعتماد أول آلية لبناء الثقة العسكرية في المناطق الحدودية، إطلاق تعاون في إطار الحزام والطريق، إضافة إلى توقيع معاهدة حسن الجوار والصداقة والتعاون، وطرح رؤية للحوكمة العالمية تقوم على التشاور والمشاركة والمنفعة المشتركة.
وأكد شي أن المنظمة باتت أكثر تأثيراً وجاذبية على الساحة الدولية، ودعا إلى التمسك بروح شانغهاي التي تقوم على الثقة المتبادلة، المنفعة المشتركة، المساواة، التشاور، احترام التنوع الثقافي، والسعي إلى التنمية المشتركة.
— وثائق استراتيجية ومراكز أمنية جديدة
اختتمت أعمال القمة بإصدار إعلان تيانجين، واعتماد استراتيجية التنمية 2026–2035، التي ترسم خريطة طريق للمنظمة خلال العقد المقبل.
كما شملت النتائج قبول لاوس شريك حوار جديد، وتسليم الرئاسة الدورية لـقيرغيزستان للفترة 2025–2026، إضافة لإصدار 24 وثيقة ختامية لتعزيز التعاون في الأمن والاقتصاد والتبادلات الشعبية، وتدشين أربعة مراكز جديدة للتصدي للتهديدات الأمنية ومكافحة الجريمة المنظمة وتعزيز أمن المعلومات ومحاربة المخدرات.
وأكدت الدول الأعضاء في بياناتها الختامية ضرورة تعزيز التنسيق الاستراتيجي، ورفض الهيمنة والأحادية، والتمسك بالعدالة والنزاهة في العلاقات الدولية.
— تفاعل دولي مع مبادرة الحوكمة العالمية
أشاد المشاركون بالمبادرة التي قدمها الرئيس شي، واعتبروها “في الوقت المناسب” و*”ملائمة”* للتحديات الراهنة.
قال ظفر الدين محمود، المساعد الخاص السابق لرئيس وزراء باكستان، إن المبادرة تمثل “حاجة ملحة وطموحاً مشتركاً للمجتمع الدولي”، متوقعاً أن تسهم في الاستقرار والتسامح والسلام.
من جانبه، أكد كين فيا، مدير معهد العلاقات الدولية في كمبوديا، أن المنظمة تقدم “بديلاً مقنعاً للعقلية الصفرية”، وأنها تقوم على “الإصغاء بدلاً من الإملاء، والتضامن بدلاً من التفوق، والنمو المشترك بدلاً من المكاسب المعزولة”.
— لقاءات ثنائية على هامش القمة
الصين وأوزبكستان: شراكة استراتيجية شاملة
التقى الرئيس شي نظيره الأوزبكي شوكت ميرضيايف في بكين، حيث أكد دعم الصين لأوزبكستان في حماية سيادتها وأمنها، معلناً الاستعداد لتعزيز التعاون في الطاقة الخضراء، البحث العلمي، الرعاية الصحية، الذكاء الاصطناعي، والحد من الفقر.
كما شدد على التعاون في مشروع السكة الحديدية بين الصين وقرغيزستان وأوزبكستان، وتوسيع التبادلات الثقافية والتعليمية.
من جانبه، قال ميرضيايف إن بلاده تقدر دعم الصين، مؤكداً تأييد أوزبكستان الكامل لمبادرة الحوكمة العالمية التي طرحها شي، واعتبرها رؤية استراتيجية عميقة تتوافق مع احتياجات المجتمع الدولي.
وشهد اللقاء توقيع عدة اتفاقيات تعاون في الاقتصاد الرقمي، تنظيم السوق، الفضاء، الجمارك، وإنشاء مراكز ثقافية متبادلة.
الصين وباكستان: ممر اقتصادي متجدد
استقبل شي رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، مؤكداً أن العلاقة القوية بين البلدين تشكل ركيزة للسلام والتنمية الإقليميين، وداعياً إلى تسريع بناء مجتمع صيني–باكستاني ذي مستقبل مشترك.
وقال شي إن بلاده مستعدة لتطوير الممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني واتفاقية التجارة الحرة، لكنه شدد على ضرورة اتخاذ باكستان إجراءات فعالة لضمان سلامة المشاريع والجالية الصينية هناك.
بدوره، أعرب شريف عن دعمه الكامل لمبادرة الحوكمة العالمية، مؤكداً أن باكستان ستعمل بنشاط على تنفيذها، كما جدد التزام بلاده بمبدأ الصين الواحدة، وتعهد بتأمين جميع المشروعات الصينية.
الصين ومنغوليا: توطيد التعاون الإقليمي
كما التقى شي بالرئيس المنغولي أوخنا خوريلسوخ، حيث ناقش الجانبان سبل تعزيز التعاون الثنائي في مجالات البنية التحتية والطاقة، إلى جانب قضايا إقليمية ضمن إطار منظمة شانغهاي للتعاون.
— الصين في قلب مستقبل المنظمة
أعلن شي خلال القمة أن الصين ستواصل مواءمة تنميتها مع تطلعات شعوب الدول الأعضاء، مشيراً إلى خطط لإنشاء 10 ورش عمل لوبان و10 آلاف فرصة تدريب في الدول الأعضاء خلال السنوات الخمس المقبلة، فضلاً عن تنفيذ 100 مشروع صغير لتحسين سبل العيش.
وأكد أن بلاده ستظل قوة استقرار في عالم مضطرب، وستشارك فرص سوقها الضخم مع الشركاء، مع السعي إلى عولمة اقتصادية شاملة ومفيدة للجميع.
— نحو عالم متعدد الأقطاب
في ختام كلماته وتصريحاته، شدد شي على ضرورة معارضة الهيمنة وسياسات القوة بشكل لا لبس فيه، مؤكداً أن منظمة شانغهاي يجب أن تكون ركيزة أساسية لتعزيز عالم متعدد الأقطاب وديمقراطية أكبر في العلاقات الدولية.
ومع اعتماد إعلان تيانجين، وإطلاق مبادرة الحوكمة العالمية، واتساع التعاون في الاقتصاد والأمن، بدا واضحاً أن القمة شكلت منعطفاً استراتيجياً في مسيرة المنظمة، ورسخت مكانتها كأكبر تكتل إقليمي قادر على صياغة معادلات جديدة في النظام الدولي.