شؤون آسيوية – الخرطوم – خاص –
تواجه الجهود الدبلوماسية التي تقودها الرباعية الدوليةالمكوّنة من الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر، عقبة جديدة تهدد المبادرة التي أُعلن عنها في سبتمبر 2025 لوقف الحرب الأهلية الدائرة في البلاد.
هذه العقبة برزت بعد رفض قائد القوات المسلحة السودانية الفريق أول عبد الفتاح البرهان للورقة المقترحة من الوسطاء، واصفاً إياها بأنها «أسوأ خطة حتى الآن»، رغم القبول المبدئي الذي أبدته قوات الدعم السريع للخطة ذاتها.
ومع هذا التباين الحاد بين طرفي النزاع، تبدو طريق السلام السوداني مُغلقة أكثر من أي وقت مضى، ما يضع الرباعية أمام اختبار صعب لا يتعلق فقط بقدرتها على التأثير، بل بمدى تماسكها الداخلي وقدرتها على إدارة خلافات الأطراف السودانية دون الانزلاق إلى انقسامات بين مكوّناتها.
جذور المبادرة وخارطة الطريق
المبادرة التي تقودها الدول الأربع لم تكن وليدة لحظة طارئة، بل جاءت بعد أشهر من التفكير ومحاولات متكررة لاحتواء النزاع المتفاقم في السودان، ففي 12 سبتمبر 2025 أعلنت الرباعية عن خارطة طريق تتضمن مرحلة أولى تقوم على هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر لتخفيف الضغط عن المدنيين والسماح بدخول المساعدات، يليها وقف دائم لإطلاق النار، ثم عملية انتقال سياسي مُدارة على مدى تسعة أشهر تمهّد للوصول إلى حكومة مدنية كاملة الصلاحيات.
بيان الرباعية آنذاك حمل لهجة شديدة الوضوح غير معهودة في بعض الملفات الإقليمية، إذ نص على أنه «لا حل عسكري قابل للنجاح» في السودان، محذراً من أن استمرار النزاع بهيئته الحالية يفاقم المعاناة الإنسانية ويهدد الأمن الإقليمي، بما يشمل دول الجوار وممرات التجارة.
كما تضمن البيان شرطاً أوضح ما يكون: رفض أي دور تنظيمي للإخوان المسلمين أو الجماعات الإسلامية المرتبطة بهم في العملية الانتقالية، في إشارة قرأها البعض بوصفها محاولة لضبط المزاج السياسي السوداني بما يضمن استقرار المرحلة المقبلة.
خارطة الطريق تلك بدت، في ظاهرها، محاولة لموازنة الضغوط الدولية بتعقيدات الواقع السوداني، لكنها مع ذلك دخلت منذ البداية منطقة حساسة تتعلق بالشرعية والسلطة، وهما نقطتان لا يتزحزح عنهما أي من طرفي الحرب بسهولة.
البرهان يرفع سقف المواجهة
قائد الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان لم يُظهر تردداً في رفض خطة الرباعية، بيانه العلني الرافض للخطة حمل لهجة حادّة، حيث وصف الورقة بأنها «غير مقبولة» وأنها تمثل وسيطاً «منحازاً»، في إشارة إلى شكوكه القديمة بشأن بعض مواقف المجتمع الدولي.
الشرط الأساسي لدى البرهان كان واضحاً وثابتاً، لا وقف لإطلاق النار قبل انسحاب قوات الدعم السريع من جميع المناطق التي دخلتها بعد اتفاق جدة، مع تجميعها في مواقع يتم تحديدها بالتوافق مع الوسطاء.
هذا الشرط الذي يعتبره الجيش أساسياً لتثبيت أي هدنة، يرى فيه كثير من المراقبين إعادة إنتاج لمطلب الجيش القديم بالعودة إلى خطوط ما قبل الحرب، وهو ما ترفضه قوات الدعم السريع التي تمسك بمواقع استراتيجية في الخرطوم وولايات أخرى.
اتهامات البرهان لم تتوقف عند الورقة؛ فقد وجّه انتقادات علنية لمستشار الشؤون الأفريقية في الإدارة الأمريكية مسعد بولس، معتبراً أن تصريحاته «تنطق بلسان الميليشيا»، ما يعكس غضب الجيش من أي إشارات قد تُفهم كتعاطف دولي مع الدعم السريع.
في المقابل، حرص البرهان على الإشادة بالمبادرة التي طرحها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، واعتبرها «فرصة لتجنيب السودان الدمار والتمزق»، داعياً للعودة إلى خارطة الطريق التي يقترحها الجيش نفسه، والتي يرى أنها أكثر توافقاً مع «مصلحة الدولة السودانية».
الدعم السريع.. قبول مبدئي
في المقابل، أعلنت قوات الدعم السريع في مطلع نوفمبر 2025 قبولها المبدئي لخطة الرباعية، بما فيها الهدنة والعملية السياسية المقترحة.
البيان الرسمي للدعم السريع قال إن الهدف من هذا القبول هو دفع التفاوض نحو ترتيبات توقف القتال وتؤسس لعملية سياسية تعالج «جذور الصراع» الذي طال أمده.
لكن قبول الدعم السريع لا يعني أنها مستعدة لتنفيذ شروط الجيش، فالقوات تعتبر أن الانسحاب الكامل من المناطق المدنية قبل أي تفاوض يمثّل خطوة قد تضعف موقفها السياسي والعسكري.
دعم معلن واتهامات مكتومة
واشنطن لعبت دوراً نشطاً في هندسة خطة الرباعية. وبين الضغط الدبلوماسي والتلويح بعقوبات جديدة، حاولت إدارة بايدن تثبيت وثيقة الهدنة كأرضية مشتركة لا يُسمح بتعديلها جذرياً، إلا أن هذه المقاربة جعلتها عرضة لانتقادات الجيش السوداني الذي يرى أن واشنطن ليست على مسافة واحدة من الطرفين.
أما السعودية فقد جاءت في موقع أكثر حساسية، إذ تحتفظ بعلاقات وثيقة مع الجيش السوداني، في الوقت نفسه الذي تعمل فيه على بناء نفوذ إقليمي يحصّنها من تداعيات التوترات في البحر الأحمر. الرياض تخشى من موجة لجوء كبيرة أو انهيار أمني يطال حدودها البحرية. لهذا مارست ضغوطاً محسوبة لجرّ البرهان إلى قبول الخطة أو تعديلها دون نسفها.
الإمارات تحرص على الحفاظ على دور الوسيط النشط، مع تجنّب الدخول في نزاع علني مع الجيش، لأن ذلك يهدد اتساق مبادرة الرباعية. وفي المقابل، تُظهر أبوظبي التزاماً بمبدأ الحل السياسي، رغم محاولات الجيش السوداني تصوير بعض مواقفها على أنها غير محايدة.
مصر.. وحدة السودان قبل كل شيء
تبدو القاهرة الأكثر تمسكاً بوحدة السودان في خطابها السياسي، إذ تؤكد زيارات وزير الخارجية بدر عبد العاطي للخرطوم وتصريحاته التي تُشدد على وحدة الأراضي السودانية، أنها تنظر إلى الأزمة من منظور الأمن القومي: حدود جنوبية يجب أن تظل مستقرة، ووضع سياسي لا يسمح بفراغ قد يستغله خصوم محتملون أو فاعلون غير دول.
وحدة السودان ليست مجرد مسألة تضامن عربي، بل قضية أمن قومي ترتبط بمستقبل مياه النيل واستقرار الحدود، لذا فإن دعمها لخارطة الطريق الرباعية يتجاوز مجرد التأييد السياسي، إلى ممارسة اتصالات مباشرة مع قيادات الجيش السوداني.
هذه الاتصالات تهدف إلى ضمان مصالح مصر في الجنوب، والتأكد من أن أي مسار سياسي لا يفتح باباً لفوضى أو صراع داخلي طويل، في الوقت نفسه، يبدو أن القاهرة تدرك أن نجاح الوساطة ليس مضموناً، لذلك تعمل على بناء قنوات متعددة لتضمن أن مقاربتها للأزمة لا تعتمد فقط على خطة الرباعية، وإنما على سيناريوهات بديلة تحافظ بها على نفوذها ودورها الإقليمي.
مسار الرباعية.. بين الممكن والمستحيل
على الورق، تبدو خطة الرباعية محاولة مدروسة لفرض تسوية شاملة تستفيد من النفوذ المزدوج على الجيش والدعم السريع، لكن حسابات الطرفين السودانيين لا تُسهّل المهمة؛ الجيش ينظر إلى أي خطة لا تُعيده إلى موقعه قبل الحرب بوصفها محاولة لانتزاع شرعيته، بينما ترى الدعم السريع في بعض البنود محاولة لإقصائها من العملية السياسية.
رفض البرهان يُعيد الأضواء إلى منصة جدة التي سبق أن لعبت دوراً في تقريب الأطراف، وقد تجد الرباعية نفسها مضطرة لتعديل بعض شروط الخطة أو إعادة صياغة بعض بنودها بما لا يجرح كبرياء الجيش، لأن أي ضغط زائد قد يدفع نحو انسحاب كامل من المفاوضات.
في الوقت نفسه، لا يعني الرفض العسكري أن الخطة فقدت قيمتها. هناك من يرى أن الرباعية ما زالت تملك أدوات ضغط فعّالة، لكنها تحتاج إلى إدارة أكثر تماسكاً بين أعضائها. البعض يقترح توسيع دائرة المفاوضات لتشمل أطرافاً غير حكومية أو مبادرات مدنية يمكن أن تضيف زخماً محلياً.
مخاطر واقعية تُهدد أي اتفاق قادم
إذا بقي الجمود على حاله، فهناك مجموعة من المخاطر التي يمكن أن تتفجر في أي لحظة، القتال قد يستأنف بوتيرة أعلى إذا استمر تعنّت المواقف.، فضلاً عن أن دخول مراقبين دوليين، وهو شرط لأي تنفيذ فعلي، قد يصبح مستحيلاً إذا رفض أحد الطرفين فتح الممرات الآمنة، كذلك فإن الاتهامات المتبادلة بين الجيش والإمارات تهدد بانقسام داخل الرباعية قد يضعف إطار الوساطة برمته.
ولعل أخطر ما في المشهد هو فقدان الثقة لدى قطاعات من السودانيين تجاه أي وساطة خارجية. كثيرون ينظرون إلى تدخلات إقليمية سابقة بوصفها جزءاً من المشكلة لا جزءاً من الحل.
هذا الشعور قد يضعف أي اتفاق حتى لو تم توقيعه، لأن شرعيته لن تكون مكتملة داخل المجتمع المدني والقوى السياسية.
السيناريوهات المطروحة أمام الرباعية
مع استمرار الرفض العسكري والقبول النسبي من الدعم السريع، تبدو الرباعية أمام أربعة سيناريوهات رئيسية لا مفر من مواجهتها.
السيناريو الأول يقوم على إعادة التفاوض عبر تعديل بعض البنود، خصوصاً تلك التي تتعلق بانسحاب الدعم السريع من المناطق الحضرية. هذا التعديل قد يكون حلاً وسطاً يسمح للبرهان بالعودة إلى الطاولة دون فقدان ماء الوجه.
السيناريو الثاني هو التصعيد الدبلوماسي عبر العقوبات أو العزلة الدولية، وهو خيار تلوّح به واشنطن لكنه لا يحظى بإجماع عربي كامل.
السيناريو الثالث يركز على توسيع المنبر الإقليمي، سواء عبر إعادة تفعيل منصة جدة أو إشراك دول إضافية لضمان إطار تفاوضي مقبول لدى الأطراف السودانية.
أما السيناريو الرابع فهو السيناريو الكارثي: استمرار الرفض، وفشل الوساطة، والعودة إلى مواجهة عسكرية أعمق تحمل كلفة إنسانية قد تكون الأكبر في تاريخ السودان الحديث.
خلاصة المشهد
الواضح حتى اللحظة أن الرباعية الدولية تواجه اختباراً صعباً في السودان. خطة الهدنة والانتقال السياسي تبدو مشلولة بعد الرفض العلني من البرهان، فيما يبدي الدعم السريع مرونة أكبر لكنها غير كافية لفرض تسوية. الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من وحدة السودان واستقراره، لكن الحسابات الأمنية للجيش تجعل أي طريق نحو تسوية سياسية محفوفة بالعقبات.
المعضلة الكبرى هي إيجاد صيغة تُرضي شرط الجيش المتعلق بالانسحاب، دون أن تُقصي الدعم السريع أو تحوّل الصراع إلى فراغ أمني. من دون معالجة هذه النقطة المركزية، تبقى خارطة الطريق مجرد وثيقة معلّقة بين الرفض والقبول، وتبقى البلاد معرضة لاحتمالات أكثر قسوة، بينما تظل المنطقة بأكملها تراقب، لأن نتائج هذا الصراع لن تقف عند حدود السودان وحده.

