بقلم ليؤون هدار – باحث إسرائيلي –
- هل تطورت إسرائيل من دولة قومية مستقلة إلى شيء يشبه مقاطعة داخل إمبراطورية أميركية غير رسمية؟ هذا السؤال غير مريح لكل من النخب الأميركية والإسرائيلية على حد سواء، لكنه يتطلب معالجة جدية، والإجابة أكثر تعقيداً مما يمكن للمدافعين عن “العلاقة الخاصة”، أو أشد منتقديها، أن يعترفوا به. لكن الأدلة تشير إلى علاقة باتت تشبه أكثر فأكثر علاقة تبعية إمبريالية مما هي شراكة استراتيجية.
- تتلقى إسرائيل نحو 3.8 مليارات دولار كمساعدة عسكرية سنوية من الولايات المتحدة، وهو من الأعلى في العالم، وهذه المساعدة تترافق مع شروط لا تنحصر في المطالبة بشراء أنظمة أسلحة أميركية، بل أيضاً تتعلق باندماج أعمق للصناعة العسكرية-الأمنية الإسرائيلية مع شركات الدفاع الأميركية، فقرارات المشتريات الأمنية الإسرائيلية لا تُتخذ فقط في القدس، بل أيضاً، وبصورة متزايدة، بالتشاور مع – أو وفقاً لتوجيهات – واشنطن.
- يوجد أيضاً حالة تبعية أساسية أبعد من البعد الاقتصادي فقط، فالعزلة الدبلوماسية لإسرائيل في المنتديات الدولية تُجابَه تقريباً بالدفاع الأميركي فقط؛ ففي مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وفي المحكمة الجنائية الدولية، وفي عدة مؤسسات متعددة الأطراف، تعتمد إسرائيل على الفيتو والضغط والغطاء الدبلوماسي الأميركي لحمايتها من الإدانة والعقوبات الدولية، ولولا هذا الدفاع، لكانت إسرائيل ستواجه مستوى من العزلة كان سيقيد حرية عملها بصورة جوهرية.
- وهذه العلاقة استنزفت بالتدريج استقلالية إسرائيل الاستراتيجية بطرق تعكس علاقات إمبريالية كلاسيكية؛ إذ تتطلب العمليات العسكرية الإسرائيلية على الأقل موافقة أميركية ضمنية؛ فمبادرات السياسة الخارجية المهمة -بدءاً من ضربات محتملة على منشآت نووية إيرانية، وحتى اتفاقيات التطبيع مع دول عربية – تنسَّق مع واشنطن، وغالباً تُوقَّت من جانبها. وعندما حاولت إسرائيل العمل باستقلالية، كما في جهود توسيع مستوطنات معينة، على سبيل المثال، أو في مبيعات أسلحة مقترحة للصين، أثبت الضغط الأميركي أنه حاسم في تغيير المسار.
- وهذا يمثل انحرافاً واضحاً عن فترات مبكرة في التاريخ الإسرائيلي؛ إذ فهم دافيد بن غوريون أن إسرائيل تحتاج إلى دعم قوة عظمى، لكن الحكومات الأولى احتفظت أيضاً بعلاقات مع قوى متعددة، وحافظت على استقلالية كبيرة في اتخاذ القرار، أمّا اليوم، فإسرائيل أصبحت أحادية في علاقاتها مع القوى أكثر فأكثر، واضعة كل البيض في السلة الأميركية، تماماً في اللحظة التي تواجه فيها الهيمنة الأميركية تحديات غير مسبوقة.
- ويصر المدافعون عن الترتيبات الحالية على توصيف العلاقة كشراكة بين متساويَين، أو حتى كعلاقة تقدم فيها إسرائيل إلى الولايات المتحدة قيمة أكبر مما تتلقاه، وهذا السرد يحجب الهرمية الأساسية الفاعلة؛ فالشركاء يتفاوضون، بينما المقاطعات تتقدم بطلبات، كما أن الشركاء يمكنهم الاختلاف من دون عواقب وجودية، أمّا الدول التابعة، فتخاطر بالتخلي عنها.
- كذلك، فإن اللغة نفسها تكشف الطبيعة الحقيقية للعلاقة؛ فهناك مسؤولون إسرائيليون يتحدثون عن “الصداقة” و”الدعم” الأميركي، ليس كإحدى العلاقات الدبلوماسية العديدة، إنما كعلاقة أساسية لبقاء قومي، وهذه ليست لغة شراكة، إنما لغة تبعية.
- هذه العلاقة شبه الإمبريالية تفرض أثماناً غير حاضرة بما يكفي في النقاش العام، وتقيد المرونة الدبلوماسية لإسرائيل في وقت يتشتت فيه النظام الدولي إلى مراكز قوة متعددة، وكلما تضاءلت قوة أميركا النسبية أمام قوى صاعدة كالصين، والهند، ولاعبين إقليميين، تجد إسرائيل نفسها مقيدة بتطوير علاقات مع مراكز نفوذ ناشئة. وتبرهن المخاوف الأميركية بشأن نقل التكنولوجيا الإسرائيلية إلى الصين، أو حياد إسرائيل تجاه روسيا، كيف أن وضع المقاطعة يقيد السياسة الخارجية المستقلة.
- ثانياً، فإن الدعم الأميركي غير المشروط أضعف، كما يبدو، الدبلوماسية الإسرائيلية؛ فعندما تعلم دولة زبونة أنها ستُحمى من عواقب أفعالها، تفقد الانضباط الذي يأتي من الحاجة إلى المناورة في علاقات دولية من دون شبكة أمان. ومشروع الاستيطان، والعمليات العسكرية ذات الإصابات المدنية الكبيرة، ورفض مبادرات دبلوماسية، كلها أمور تحدث في سياق يُفترض في خضمه بالحماية الأميركية أن تكون معطاة لا مكتسَبة.
- ثالثاً، تنشئ العلاقة خطراً أخلاقياً على السياسة الخارجية الأميركية؛ إذ تجد الولايات المتحدة نفوذها الدبلوماسي في الشرق الأوسط متضرراً بسبب دعمها غير المشروط للمواقف الإسرائيلية، فهناك دول عربية، ودول ذات أغلبية مسلمة، لا ترى واشنطن وسيطاً نزيهاً، إنما تراها محامياً عن إسرائيل، وهذه النظرة تضر بالمصالح الأميركية، وتقلص التأثير الأميركي تماماً حين تكون الدبلوماسية المعقدة ضرورية في منطقة تمر بتغيُّر عميق.
- والمقلق أكثر هو ما يحدث عندما تدخل الإمبراطورية مرحلة خطِرة، فالتراجع النسبي لأميركا لم يعد افتراضاً، إنما صار واقعاً قابلاً للملاحظة؛ فالإرهاق العسكري في العراق وأفغانستان، والأزمة المالية، وصعود الصين كمنافس مساوٍ، والتدهور السياسي المتزايد في واشنطن، كل ذلك يشير إلى أميركا ذات قدرة متناقصة على الحفاظ على التزامات بعيدة المدى.
- وما الذي يحدث للمقاطعات عندما تنسحب الإمبراطورية؟ التاريخ يقول إن الدول الزبونة غالباً تجد نفسها متروكة، أو أسوأ، عالقة في نيران المنافسة بين القوى الكبرى. تبدو علاقة إسرائيل الأحادية بالقوة الأميركية أكثر خطورة في عالم لم يعد من الممكن التعامل فيه مع الهيمنة الأميركية على أنها مفهومة ضمناً بعد الآن.
- والبديل ليس معاداة أميركا أو قطع العلاقات مع واشنطن، إنما يتوجب على إسرائيل، بدلاً من ذلك، تطوير نوع من الاستقلالية الاستراتيجية التي ميزت الدبلوماسية الصهيونية المبكرة، وهذا يعني تنويع العلاقات مع مراكز قوة متعددة، وتقليل التبعية للمساعدة العسكرية الأميركية (التي تقيد بقدر ما تُمَكِّنُ)، وتطوير قدرات دبلوماسية مستقلة.
- لقد أثبتت اتفاقيات أبراهام أن إسرائيل يمكن أن تحقق اختراقات دبلوماسية عبر انخراط إقليمي بدلاً من الاعتماد الحصري على الوساطة الأميركية، وتشير العلاقة المتنامية مع الهند، والحفاظ على علاقات معقدة مع روسيا، وحتى الإدارة الحذرة للعلاقات الاقتصادية مع الصين، إلى وجود سياسة خارجية أكثر نضجاً ومتعددة الأبعاد.
- وقد فهم مؤسسو إسرائيل أن البقاء يتطلّب قدرات ملاحة ماهرة في سياسة القوى الكبرى من دون الارتهان لراعٍ واحد، فوازن بن غوريون بين الدعم البريطاني والأميركي وحتى السوفياتي في فترة إسرائيل الأولى، لكنّ هذا التقليد من المرونة الاستراتيجية تآكل مع استقرار إسرائيل في الدور المريح، لكنه في النهاية مقيد، وحوّلها إلى دولة رعاية أميركية.
- فهل أصبحت إسرائيل مقاطعة في الإمبراطورية الأميركية؟ تُظهر العلاقة العديد من سمات التبعية الإمبريالية: اعتماد مالي، وحماية دبلوماسية، وفقدان استقلالية استراتيجية، ولغة تبعية وجودية، ومع ذلك، تختلف عن علاقات إمبريالية كلاسيكية بطرق مهمة، بحيث لا يوجد حكم أميركي مباشر، وإسرائيل تحتفظ باستقلالية محلية كبيرة.
- ربما يكون الوصف الأدق أن إسرائيل تقع في مكان ما بين تحالف رسمي وإمبراطورية غير رسمية، أي دولة زبونة، وربما مميّزة بامتيازات فريدة، لكنها مع ذلك تبقى دولة زبونة. بالنسبة إلى إسرائيليين وأميركيين، فإنهم يقدّرون شراكة حقيقية واستقلالية إسرائيلية، وهذا سبب للقلق وإعادة التفكير.
- والسؤال الحقيقي ليس ما إذا صارت إسرائيل مقاطعة، إنما إن كانت قادرة على العودة إلى الاستقلالية الاستراتيجية الحقيقية قبل أن يتركها الانسحاب الحتمي للإمبراطورية الأميركية مكشوفة بصورة خطِرة. كلما بقيت إسرائيل في علاقة شبه مقاطعية لمدة أطول، صار الانتقال أكثر ألماً وصعوبة. ويُظهِر التاريخ أن المقاطعات نادراً ما تختار الاستقلال قبل أن تغادر الإمبراطورية، وعندها تكون الخيارات أكثر محدودية وأكثر تكلفة.
- إن الوقت مناسب لإسرائيل لإعادة تعزيز استقلاليتها الاستراتيجية الآن، بينما القوة الأميركية لا تزال كبيرة بما يكفي لجعل الانتقال قابلاً للإدارة، وليس صادماً. لكن هذا يتطلب محادثات غير مريحة في كل من القدس وواشنطن، لكن تبقى أفضل من اليقظة القاسية التي تأتي حتماً عندما تتراجع الإمبراطوريات وتُترك المقاطعات لتتدبر أمرها وحدها.
المصدر: صحيفة هآرتس الإسرائيلية – عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية

