
شؤون آسيوية – دمشق – خاص –
تشهد العاصمة السورية دمشق حراكاً سياسياً ودبلوماسياً لافتاً، يتمحور حول ملف شديد الحساسية: العلاقة المستقبلية بين الحكومة السورية الانتقالية والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد).
وعلى الرغم من تعدد اللقاءات التي جرت على مستويات رفيعة في الأيام الأخيرة، لا تزال مؤشرات الحذر تطغى على المشهد، في ظل حضور دولي لافت من الولايات المتحدة وفرنسا، ودفع أمريكي نحو تسريع تنفيذ اتفاق سابق يهدف لدمج قسد ضمن مؤسسات الدولة السورية.
اجتماعات متزامنة ومواقف متباينة
شهد الأسبوع الجاري عقد اجتماعين سياسيين منفصلين في دمشق، أولهما جرى في قصر تشرين، جمع وفداً من الإدارة الذاتية الكردية وقسد، برئاسة مظلوم عبدي، والرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية إلهام أحمد، إلى جانب فوزة يوسف وشخصيات تفاوضية أخرى.
الاجتماع عُقد بحضور ممثلين عن الحكومة السورية، دون أن يشهد لقاء مباشراً بين عبدي والرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، في دلالة واضحة على استمرار الحساسيات الرمزية.
الاجتماع الثاني جرى في قصر الشعب، حيث التقى الشرع بالمبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، توماس براك، وبحضور وفد دبلوماسي فرنسي. ونوقش خلاله تطورات الملف الكردي، والتحديات المرافقة لتنفيذ اتفاق 10 مارس، الموقع بين قسد والحكومة السورية الانتقالية، إضافة إلى مستقبل قوات قسد كقوة عسكرية ضمن هيكلية الجيش السوري.
خارطة طريق على الورق
الاتفاق الموقع في مارس الماضي شكّل نقطة تحول نظري في العلاقة بين دمشق وقسد، إذ تضمّن بنوداً جوهرية، أبرزها وقف شامل لإطلاق النار، وضمان تمثيل كل المكونات السورية في مؤسسات الدولة، ودمج الهياكل المدنية والعسكرية للإدارة الذاتية ضمن مؤسسات الدولة المركزية، بما في ذلك المعابر، حقول النفط والغاز، وسجون تنظيم “داعش”.
إلا أن تطبيق الاتفاق بدا متعثراً، وسط اتهامات متبادلة بالمماطلة. الحكومة السورية رأت أن “مؤتمر روج آفا” الأخير الذي عقدته الإدارة الذاتية، يشكل انقلاباً على روح الاتفاق. في المقابل، ترى الإدارة الذاتية أن الحكومة لم تلتزم بمبدأ التشاركية في صياغة الإعلان الدستوري الجديد، وذهبت نحو مركزية القرار من دون اعتبار للتنوع السوري، وهو ما دفعها للمطالبة بدولة ديمقراطية لا مركزية، وفق ما ورد في تصريحات بعض مسؤوليها.
دور أمريكي متغير
المبعوث الأمريكي توماس براك، الذي قاد الوساطة، قدّم خلال لقاءاته مع الطرفين خطاباً أكثر قرباً للموقف السوري الرسمي. حيث أكد أن “سوريا واحدة بجيش واحد”، في تصريح يعكس تراجعاً واضحاً عن الطرح الفيدرالي أو اللامركزي الذي دعمته واشنطن سابقاً في السنوات الأولى من الحرب. وأضاف أن الحل يمر عبر دمشق، داعياً قسد إلى تقديم تنازلات سياسية.
ويُفهم من هذه التصريحات أن الإدارة الأمريكية باتت أقرب إلى فكرة “الدمج الكامل” لقسد في بنية الدولة السورية، وهو ما تؤيده فرنسا بحسب تقارير دبلوماسية.
مصادر كردية أشارت إلى أن براك أبدى “انزعاجاً واضحاً من بطء قسد في الاستجابة للمفاوضات”، مؤكداً أن “الفرصة الحالية قد لا تتكرر”.
وتزامن هذا التوجه مع قرار للبنتاغون بتخصيص 130 مليون دولار لدعم “قسد” وقوات مرتبطة بها، لكن ضمن إطار مكافحة الإرهاب فقط، ما يعزز فرضية أن الدعم الأميركي بات مقيداً بشروط تتعلق بالتنسيق مع دمشق لا الاستقلال عنها.
قسد بين الحسابات الداخلية والضغوط الإقليمية
قوات سوريا الديمقراطية تبدو اليوم في موقف صعب. فبين الرغبة في الحفاظ على استقلاليتها العسكرية والإدارية من جهة، والضغوط الأمريكية والروسية والتركية من جهة أخرى، تجد نفسها مطالبة باتخاذ خيارات استراتيجية معقدة.
فدمشق تصر على دمج قسد ضمن مؤسسة الجيش السوري، وتوزيع مقاتليها على الأفرع الرسمية، بينما تسعى قسد للاحتفاظ بكيان موحد داخل الجيش، أشبه بالحرس الوطني. كذلك، لا تزال قضايا شائكة مثل إدارة الموارد النفطية والمعابر الحدودية تعرقل الوصول إلى اتفاق نهائي.
ويرى محللون أن التقدم في هذه الملفات يعتمد على عامل الزمن والضغوط الدولية. الباحث عباس شريفة أشار إلى أن دمشق لن تقبل بأي صيغة تعكس واقع “فيدرالي مقنّع”، معتبراً أن مظلوم عبدي لا يُعتبر “نداً للرئاسة السورية”، ما يفسّر غياب اللقاء المباشر مع الشرع.
مطلب الاعتراف
القضية الكردية في سوريا تتجاوز “قسد” كمجموعة مسلحة، إذ تتعلق بجذور قومية وهوية وطنية، بحسب ما أكد الباحث التركي جيان عمر، الذي أشار إلى أن عدداً من الأكراد لا يعترفون بالتسمية الرسمية للدولة “الجمهورية العربية السورية”، ويطالبون باعتراف دستوري يكرّس وجودهم كمكون أصيل.
كما انتقد غياب رؤية تنموية شاملة من قبل دمشق، وتركّز الخدمات حول العاصمة، ما يفاقم الشعور بالتهميش لدى مناطق الشمال الشرقي. وأشار إلى ضرورة معالجة الملف في إطار وطني أوسع، يشمل أيضاً المعارضة العربية الليبرالية، والمجتمع المدني، عبر حكومة انتقالية تمثل جميع الأطراف.
قلق تركي من التسوية
على الضفة الأخرى، تنظر تركيا بقلق إلى هذا التقارب، لا سيما مع احتمال بقاء قسد كقوة شبه مستقلة داخل الجيش السوري.
أنقرة لا تزال تعتبر قسد امتداداً لحزب العمال الكردستاني (PKK)، وتشدد على أن أي تسوية لا تتضمن حلّ هذه القوة أو نزع سلاحها تمثل تهديداً لأمنها القومي. ما يعني أن أي تقدم سياسي قد يصطدم برفض تركي، ما لم تتضمن التسوية ضمانات أمنية واضحة.
آراء دولية
في السياق، أشارت تحليلات عدد من المراكز البحثية والخبراء في السياسات الدولية إلى تحديات متعددة تواجه الاتفاق الأخير، إذ يرى معهد الشرق الأوسط أن نصوص الاتفاق غير كافية، وأن عملية الدمج ستستغرق وقتًا طويلًا، كما أن غياب مشاركة المجتمع المدني وافتقار الاتفاق إلى جدول زمني واضح للتنفيذ يزيدان من تعقيد الوضع.
أما مجلس الأطلسي فيعتبر أن الاتفاق يمثل فرصة لتعزيز الأهداف التركية، لكنه يحذر من أن الغموض المحيط بآلية الدمج العسكري قد يدفع أنقرة إلى التدخل في حال لم تلتزم “قسد” بالقواعد المتفق عليها.
من جهته، يؤكد معهد واشنطن أن دعم الأطراف الدولية، لا سيما واشنطن وباريس وبرلين، ضروري لإنضاج عمل اللجان التطبيقية، مشيراً إلى أن هذا الدعم قد يتضمن استخدام أدوات مثل العقوبات أو الحوافز الاقتصادية، في حين أن أي انسحاب أمريكي متسرع من المنطقة قد يؤدي إلى تآكل الأمن المحلي.
كذلك تبين شبكة الدراسات الجيو-استراتيجية أن دمشق تسعى لإعادة بسط سيطرتها على الموارد النفطية والتصدي للنفوذين الأمريكي والتركي، بينما اضطرت “قسد” لتقليص طموحاتها في اللامركزية مقابل الحصول على مظلة حماية سياسية، خصوصًا في مواجهة التهديدات التركية.
لا اتفاق نهائي
بين بطء التنفيذ وغياب الثقة، تستمر المفاوضات بين دمشق وقسد في مسار غير مستقر، رغم الدعم الأميركي والفرنسي. وتبدو كل الأطراف مدركة أن اتفاق مارس لم يعد كافياً بذاته، وأن المشهد السوري بحاجة إلى تسوية أوسع، تشمل ترتيبات للتمثيل السياسي، والهوية الوطنية، ومستقبل الموارد.
الوقت ليس في صالح الأطراف المتفاوضة. فعودة داعش، وتنامي الغضب الشعبي من الفوضى الإدارية، والضغوط التركية، تقود كلها نحو حتمية حسم هذا الملف، قبل أن يتحول إلى صراع مزمن جديد في سوريا ما بعد الحرب.
وفي ظل غياب جدول زمني واضح للتنفيذ، وتضارب الأجندات الدولية، يبقى السؤال الأهم: هل نحن أمام بداية نهاية أزمة الشمال الشرقي، أم مجرد جولة أخرى في مسار سياسي طويل وشائك؟