شؤون آسيوية – خاص –

شكّلت الزيارة الأخيرة التي قام بها الموفد الأميركي إلى لبنان وسوريا، توماس باراك، ترافقه نائبة المبعوث إلى الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس، محطة بالغة الأهمية في مسار العلاقات اللبنانية–الأميركية، وفي المشهد الإقليمي المرتبط بملف الصراع مع إسرائيل.

الزيارة، الرابعة لباراك منذ يونيو الماضي، جاءت في توقيت دقيق، بعد ساعات من مغادرة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني بيروت، لتكرّس صورة لبنان كساحة تقاطع بين النفوذ الأميركي والإيراني، وتكشف عن ملامح صراع تفاوضي جديد عنوانه العريض “نزع السلاح مقابل التنمية”.

تحوّل في اللغة الأميركية

على خلاف الزيارات السابقة التي تميّزت بالتحذيرات المباشرة والمهل الزمنية والضغط العلني، بدت هذه الجولة الأميركية مختلفة، فقد حاول باراك وأورتاغوس تبنّي خطاب أكثر ليونة، قوامه “التطمين” و”الشراكة”، في مقابل التخلي – ولو مرحلياً – عن لغة العقوبات والتهديدات.

الوفد الأميركي ركّز على فكرة “الخطوة مقابل خطوة”، أي تبادل التنازلات بين لبنان وإسرائيل، بما يتيح تثبيت وقف إطلاق النار المبرم في نوفمبر الماضي، ويفتح الباب أمام مرحلة اقتصادية–تنموية جديدة للبنان.

وفي هذا السياق، شدد باراك على أن موضوع السلاح ليس “معركة ضد الطائفة الشيعية”، بل خيار لبناني وطني يهدف إلى إدماج الجنوب في مشاريع إنمائية، مؤكداً أن أي تسوية ستنعكس إيجاباً على لبنان وإسرائيل و”حزب الله” معاً.

حتى في اللغة الدبلوماسية، حرص باراك على كسر بعض التقاليد، إذ وصف إيران بـ”الجارة”، في إشارة لافتة إلى أن واشنطن لا تريد إقصاء أي لاعب أساسي من المشهد، بل تسعى إلى تسوية إقليمية متوازنة تراعي مصالح جميع الأطراف.

الورقة الأميركية ومندرجاتها

الزيارة جاءت بعد موافقة مجلس الوزراء اللبناني على الأهداف الواردة في “الورقة الأميركية”، التي تتضمن 11 بنداً أبرزها، الانسحاب الإسرائيلي من النقاط الخمس المحتلة في الجنوب، والتنفيذ التدريجي لحصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية، إضافة إلى نشر الجيش اللبناني على الحدود وفي المواقع الداخلية الأساسية مع دعم دولي مباشر، وتسوية قضايا الحدود والأسرى عبر مفاوضات غير مباشرة، إلى جانب تعزيز ولاية “اليونيفيل” وتثبيت اتفاق وقف الأعمال العدائية.

باراك اعتبر أن الحكومة اللبنانية قامت بـ”خطوتها الأولى” عبر هذا القرار، وأن على إسرائيل الآن أن تقدم “خطوة مقابلة”، سواء عبر وقف الخروقات أو بدء مفاوضات حول الانسحاب.

لكنه، في الوقت ذاته، لم يحمل أي ضمانات إسرائيلية واضحة، مكتفياً بالوعود الكلامية حول التزام واشنطن بمبدأ التبادلية.

الداخل اللبناني: انقسام حاد

القرار الحكومي بشأن حصرية السلاح فجّر سجالاً داخلياً واسعاً، إذ رحّبت رئاسة الجمهورية والحكومة بالورقة الأميركية من زاوية تعزيز الدولة والشرعية، حيث رأى رئيس الحكومة نواف سلام أن الورقة تعكس “فرصة تاريخية” لإعادة بناء الدولة، مطالباً بدعم أميركي ودولي للجيش بما يقارب المليار دولار، إضافة إلى عقد مؤتمر دولي لإعادة الإعمار.

فيما أعلن “حزب الله” رفضاً قاطعاً، محذراً من أن الخطوة “تجرد لبنان من سلاحه الدفاعي أثناء العدوان” وتفتح الباب أمام “حرب أهلية”.

الأمين العام للحزب، نعيم قاسم، أكد أن الجماعة “لن تسلّم سلاحها”، وأن الحزب “سيخوض معركة إذا لزم الأمر”، معتبراً أن الحكومة “تنفذ الأوامر الأميركية–الإسرائيلية”.

دور الجيش اللبناني

كان الجيش محورياً في لقاءات باراك، باعتباره الجهة المكلفة عملياً بتنفيذ قرار الحكومة، فالمؤسسة العسكرية بدأت بوضع خطة عملانية وجدول زمني لنزع السلاح، كما تسلّمت بالفعل الدفعة الأولى من أسلحة بعض الفصائل الفلسطينية في مخيم برج البراجنة وضواحي بيروت.

هذه الخطوة الرمزية، التي تمت في أجواء هادئة وبموافقة فلسطينية، اعتُبرت من جانب واشنطن “إنجازاً عظيماً”، وأشاد بها باراك علناً عبر منصة “إكس”.

وبالنسبة للحكومة، مثّل ذلك انطلاقة عملية لتكريس مبدأ “جيش واحد، سلاح واحد”. أما بالنسبة لـ”حزب الله”، فهي مجرد محاولة لتمهيد الطريق أمام استهداف سلاحه مستقبلاً.

الموقف الإسرائيلي والإقليمي

رغم الجهد الأميركي، لم يظهر حتى الآن موقف إسرائيلي واضح إزاء الورقة أو الخطوات اللبنانية، الحكومة في تل أبيب لا تزال تتمتع بضوء أخضر من إدارة ترامب للتحرك بحرية في الجنوب اللبناني، وهو ما يجعل أي رهان على تجاوب سريع أمراً محفوفاً بالشكوك.

في المقابل، تراقب طهران التطورات عن كثب، فإيران، التي جاء مسؤولها الأمني علي لاريجاني إلى بيروت قبل ساعات من وصول باراك، ترى أن أي مقاربة جدية في لبنان لا بد أن تراعي نفوذها وشبكة مصالحها.

وباراك نفسه أقرّ ضمناً بهذا الواقع حين وصف إيران بـ”شريك” في قضية نزع السلاح، ما يعكس إدراك واشنطن لاستحالة تجاوزها.

ردود الفعل والتحليلات

المحللون اللبنانيون انقسموا في تقييمهم للزيارة، فالبعض رأى أنها جس نبض أكثر منها مبادرة متكاملة، وأنها تطرح عناوين عامة من دون ضمانات أو التزامات عملية، خصوصاً لجهة الدعم المالي أو الضغط على إسرائيل.

الكاتب السياسي سيمون أبو فاضل اعتبر أن باراك “لم يحمل أي دعم أميركي فعلي للبنان”، بل مجرد وعود، مشيراً إلى أن نقطة الضعف في المقاربة الأميركية تبقى “الدعم المطلق لإسرائيل”.

في حين وصف آخرون الزيارة بأنها لحظة نادرة قد تسمح للبنان بإعادة التموضع على “الرادار الدولي”، وربط الإصلاح الاقتصادي بالاستقرار الأمني، فالفرصة قائمة، لكن نجاحها يتطلب توافقاً داخلياً لبنانياً، وتجاوباً إسرائيلياً، وانخراطاً إيرانياً في مسار التهدئة.

بين التفاؤل والحذر

عملياً، يمكن تلخيص نتائج الزيارة بثلاث نقاط أساسية، أولاَ تثبيت دعم واشنطن للحكومة اللبنانية، من خلال إشادة باراك بالقرار الحكومي “التاريخي والجريء” لحصر السلاح.

وثانياً، إطلاق مسار “الخطوة مقابل خطوة”، أي ربط أي تقدم لبناني بإجراءات إسرائيلية مقابلة، ولو بقيت الأخيرة غامضة حتى الآن، والنقطة الثالثة تكمن في توسيع دائرة التطبيع الاقتصادي–السياسي: عبر الحديث عن مشاريع إعادة الإعمار والتنمية كحافز للتخلي التدريجي عن السلاح.

غير أن هناك عدة عوامل مثبطة، تتمثل في غياب التزامات مالية أميركية مباشرة، رفض حزب الله المطلق، استمرار الخروقات الإسرائيلية (أكثر من 5000 منذ بداية العام وفق تقارير رسمية)، والانقسام السياسي الداخلي حول جدوى التعاطي مع المبادرة الأميركية.

مفترق طرق

تبدو المرحلة المقبلة بمثابة اختبار للنوايا، لجهة هل ستتمكن الحكومة اللبنانية من ترجمة قراراتها إلى خطوات عملية بمشاركة الجيش؟ وهل ستقبل إسرائيل بالانسحاب ووقف الاعتداءات؟ وهل ستتعامل إيران بمرونة مع الطرح الأميركي أم ستعتبره محاولة لانتزاع أوراق نفوذها؟

الأكيد أن لبنان يقف أمام مفترق طرق حاسم، فإما أن ينخرط في مسار تفاوضي طويل الأمد يربط الأمن بالتنمية، أو يبقى أسير دوامة الانقسامات والتجاذبات الإقليمية.

باراك اختصر الرؤية الأميركية بالقول إن لبنان قادر على أن يصبح “اللؤلؤة اللامعة في المنطقة”، إذا ما التقط الفرصة، لكن التجربة اللبنانية علّمت أن الوعود لا تكفي، وأن أي فرصة سرعان ما تتحول إلى سراب إذا لم يقابلها توافق داخلي وغطاء إقليمي ودولي.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *