شؤون آسيوية – مدريد – خاص –

شهدت العاصمة الإسبانية مدريد خلال الأيام الماضية محادثات رفيعة المستوى بين وفدين من الولايات المتحدة الأمريكية والصين، تناولت ملفات التجارة الثنائية والأمن الاقتصادي، وفي مقدمتها أزمة تطبيق “تيك توك” التي باتت تمثل عنواناً بارزاً في العلاقات الاقتصادية المتوترة بين القوتين الأكبر في العالم.

المحادثات التي استمرت يومين، وأسفرت عن اتفاق مبدئي بشأن مستقبل المنصة، عكست رغبة الطرفين في تجنب مواجهة مباشرة تهدد الاستقرار الاقتصادي العالمي، لكنها في الوقت ذاته كشفت حجم الهوة العميقة بينهما بشأن قضايا أخرى، من الرسوم الجمركية إلى العقوبات والدور الصيني في الأزمة الأوكرانية.

مدريد ساحة التفاوض

انطلقت جولة المحادثات الأحد الماضي في قصر سانتا كروز، المقر الرسمي لوزارة الخارجية الإسبانية، بمشاركة وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت، ونائب رئيس الوزراء الصيني هي ليفنغ، إلى جانب وفود اقتصادية وتجارية من الجانبين.

ووفقاً لما أعلنته الحكومة الإسبانية ووكالة أنباء الصين الجديدة “شينخوا”، فإن المباحثات شملت مجموعة واسعة من القضايا الاقتصادية، إلا أن التركيز الأكبر انصب على ملف “تيك توك”، الذي يواجه تهديداً بالحظر في الولايات المتحدة إذا لم تنتقل ملكيته إلى طرف غير صيني قبل السابع عشر من سبتمبر الجاري.

الحوار في مدريد جاء في توقيت حساس للغاية، فمن ناحية، تقترب نهاية الهدنة الجمركية التي اتفق عليها البلدان لمدة 90 يوماً وتنتهي مطلع نوفمبر المقبل، والتي حالت مؤقتاً دون اندلاع حرب تجارية جديدة، ومن ناحية أخرى، تزايدت التوترات مع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استعداده لفرض رسوم جمركية إضافية على الصين بسبب دعمها لروسيا، وهو ما أثار قلقاً واسعاً بشأن مستقبل العلاقات الثنائية.

الاحترام المتبادل أساس الحل

على الجانب الصيني، ركّز المسؤولون على ضرورة أن تقوم أي تسوية على أساس الاحترام المتبادل والتشاور على قدم المساواة.

فقد أكد لي تشنغ قانغ، ممثل التجارة الدولية ونائب وزير التجارة الصيني، أن استقرار العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة ليس مهماً للبلدين فقط، بل يؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد العالمي برمته.

وأوضح أن وجود نظامين اقتصاديين مختلفين ومستويات تنمية متباينة يجعل من الطبيعي أن تظهر خلافات، لكن “المفتاح هو احترام المصالح الأساسية والشواغل الرئيسية لبعضنا البعض، وإيجاد حلول عبر الحوار”.

وبشأن “تيك توك”، شدد لي على رفض بكين القاطع لتسييس التكنولوجيا أو استخدامها كسلاح اقتصادي، مؤكداً أن الصين “لن توافق أبداً على أي اتفاق يضر بالمبادئ أو مصالح الشركات الصينية أو قواعد العدالة الدولية”.

 كما بين أن الحكومة الصينية ستحمي بقوة المصالح الوطنية والحقوق المشروعة لشركاتها، لكنها في الوقت ذاته “تحترم إرادة الشركات وتدعمها في الدخول في مفاوضات تجارية متكافئة”.

أما وانغ جينغ تاو، نائب مدير إدارة الفضاء السيبراني، فقد كشف أن النقاشات أفضت إلى توافق أساسي يقوم على احترام إرادة شركة “بايت دانس” المالكة للتطبيق، مع البحث في حلول تقنية مثل تشغيل بيانات المستخدمين الأمريكيين عبر إدارة موكلة محلية، وتحديد ضوابط لاستخدام الخوارزميات وحقوق الملكية الفكرية. وأضاف أن الحكومة الصينية ستدرس أي ترتيبات تتعلق بتصدير التكنولوجيا وفق القوانين الوطنية.

صفقة تلوح في الأفق

من الجانب الأمريكي، أعلن وزير الخزانة سكوت بيسنت أن المفاوضات أحرزت “تقدماً كبيراً” في ملف “تيك توك”، مؤكداً التوصل إلى “إطار لاتفاق” يقضي بانتقال ملكية المنصة إلى طرف أمريكي، على أن يتم استكمال التفاصيل خلال مكالمة مرتقبة بين الرئيسين دونالد ترامب وشي جين بينغ يوم الجمعة المقبل.

وأشار بيسنت إلى أن “الشروط التجارية الخاصة بالصفقة تم الاتفاق عليها بالفعل”، لكنه امتنع عن الكشف عن تفاصيل إضافية، مؤكداً أن الجانب الصيني طرح مطالب “عدوانية للغاية” ستخضع للدراسة.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه لم يتردد في الإعلان عن “نجاح المحادثات”، حيث كتب عبر منصته “تروث سوشال” أن الشباب الأمريكي “أرادوا بشدة إنقاذ التطبيق”، وأنهم سيكونون “سعداء جداً” بالاتفاق الذي تم التوصل إليه، وأكد أن لقائه الهاتفي مع نظيره الصيني سيضع “اللمسات الأخيرة” على الصفقة.

غير أن تصريحات ترامب لم تخلُ من نبرة التهديد. ففي لقاءات مع مسؤولين أوروبيين، لوّح بفرض رسوم جمركية إضافية على الصين تتراوح بين 50% و100%، مشترطاً مشاركة أوروبا في هذه الخطوة، كما ربط هذه الإجراءات بمسألة دعم الصين لروسيا، معتبراً أن الضغط الاقتصادي قد يسهم في دفع موسكو إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا.

الرد الصيني على العقوبات

في المقابل، لم تخف بكين استياءها من استمرار واشنطن في توسيع العقوبات ضد الشركات الصينية، فقد وصف لي تشنغ قانغ الإجراءات الأمريكية بأنها “تنمر أحادي الجانب” يتعارض مع القانون الدولي والأعراف الحاكمة للعلاقات الدولية.

وأضاف أن “الولايات المتحدة لا يمكنها من جهة مطالبة الصين بالاستجابة لمخاوفها، ومن جهة أخرى الاستمرار في قمع شركاتنا”، داعياً واشنطن إلى رفع القيود “في أسرع وقت ممكن” للحفاظ على الإنجازات التي تحققت بشق الأنفس في المشاورات الثنائية.

كما أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية لين جيان أن التعاون مع روسيا في مجال الطاقة “مشروع ولا يستحق الانتقاد”، محذراً من أن أي رسوم أو ضغوط إضافية على بكين بسبب استيراد النفط الروسي ستقابل برد “حاسم وحازم”.

تيك توك كورقة تفاوض

قضية “تيك توك” تحولت خلال العامين الماضيين من مجرد نقاش حول الأمن السيبراني إلى إحدى أكثر القضايا رمزية في المواجهة الاقتصادية بين بكين وواشنطن، فالولايات المتحدة ترى في المنصة، التي تضم أكثر من 170 مليون مستخدم أمريكي، تهديداً محتملاً للأمن القومي عبر إمكانية وصول الحكومة الصينية إلى بيانات المستخدمين أو التأثير على الرأي العام، وقد دفع ذلك الكونغرس العام الماضي إلى إقرار قانون يلزم “بايت دانس” ببيع التطبيق أو مواجهة الحظر.

الصين من جهتها تعتبر أن إجبار شركة خاصة على بيع أصولها تحت التهديد يتعارض مع مبادئ السوق الحرة، وترى في ذلك محاولة لتقويض نجاح شركاتها التكنولوجية، ومن هنا جاء موقفها المتشدد في مدريد الرافض لأي تنازل يضر بحقوق الملكية الفكرية أو الخوارزميات التي شكلت سر نجاح التطبيق.

قمة مرتقبة وتحديات باقية

ورغم الأجواء الإيجابية النسبية التي صاحبت إعلان التوصل إلى “اتفاق مبدئي”، فإن التحديات أمام العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة لا تزال هائلة.

فالتفاهم بشأن “تيك توك” لم يُترجم بعد إلى اتفاق نهائي، وسط غموض يحيط بمصير الخوارزميات وحقوق الملكية الفكرية، كما أن ملف الرسوم الجمركية يظل قنبلة موقوتة مع اقتراب انتهاء الهدنة في نوفمبر.

هذا بالإضافة إلى إن الخلافات الأوسع حول دور الصين في الأزمة الأوكرانية، والتحقيقات الصينية ضد شركات أمريكية كبرى مثل “إنفيديا”، والتوتر المستمر في قطاع أشباه الموصلات، كلها ملفات مرشحة لتأجيج المواجهة مجدداً.

ومع ذلك، فإن الإعلان عن مكالمة مرتقبة بين الرئيسين شي جين بينغ ودونالد ترامب يوم الجمعة المقبل يفتح الباب أمام إمكانية بلورة تسوية مؤقتة على الأقل، تعكس إدراك الطرفين أن الصدام الكامل ليس في مصلحة أي منهما، ولا في مصلحة الاقتصاد العالمي.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *