
شؤون آسيوية – خاص –
أعلنت الصين والولايات المتحدة عن عقد جولة جديدة من المحادثات الاقتصادية رفيعة المستوى في العاصمة الماليزية كوالالمبور، خلال الفترة من 24 إلى 27 أكتوبر الجاري، بمشاركة نائب رئيس مجلس الدولة الصيني خه لي فنغ ووزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت، تمهيداً لاجتماع مرتقب بين الرئيسين شي جين بينغ ودونالد ترامب على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (آبيك) في كوريا الجنوبية نهاية الشهر.
وأعلنت بكين رسمياً أن نائب رئيس الوزراء خه لي فنغ سيقود الوفد الصيني إلى ماليزيا لإجراء محادثات مع نظيريه الأميركيين، بيسنت والممثل التجاري جيميسون غرير، في جولة وُصفت بأنها “محطة حاسمة” على طريق التمهيد للقاء القمة بين الزعيمين.
وقالت وزارة الخارجية الصينية في بيان مقتضب، إن الجولة تهدف إلى “تبادل وجهات النظر حول القضايا الاقتصادية والتجارية ذات الاهتمام المشترك، والسعي إلى دفع العلاقات الصينية الأميركية نحو مسار مستقر وبنّاء”.
من جانبه، أكد وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت في تصريحات لشبكة “فوكس بيزنس” أنه سيغادر إلى كوالالمبور خلال ساعات، مضيفاً أن الممثل التجاري جيميسون غرير “في طريقه بالفعل” إلى العاصمة الماليزية.
وأوضح بيسنت أن المفاوضات ستُعقد يومي السبت والأحد، أي في عطلة نهاية الأسبوع، وأن الهدف منها “تسوية عدد من النقاط العالقة لتمهيد الطريق أمام لقاء إيجابي بين الرئيسين ترامب وشي”.
وأشار الوزير الأميركي إلى أن واشنطن “تأمل في تجاوز الخلافات وفتح حوار أكثر بنّاءً مع بكين”، معتبراً أن “إضاعة فرصة اللقاء الأول وجهاً لوجه بين الرئيسين في الولاية الثانية لترامب سيكون أمراً مؤسفاً”. وأضاف أن “الفريقين يدركان حجم المسؤولية السياسية والاقتصادية الملقاة على عاتقهما، وأن فشل المفاوضات ليس خياراً مقبولاً في ظل هشاشة الاقتصاد العالمي الراهن”.
يأتي هذا التحرك الدبلوماسي في ظل تصاعد الخلافات بين البلدين خلال الأسابيع الأخيرة، بعد إعلان الصين في التاسع من أكتوبر عن فرض قيود جديدة على تصدير العناصر الأرضية النادرة — وهي معادن أساسية في صناعة أشباه الموصلات والطائرات والمعدات العسكرية — ما اعتبرته واشنطن “محاولة للهيمنة على سلاسل الإمداد العالمية”. ورد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالتهديد بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على جميع السلع الصينية اعتباراً من الأول من نوفمبر المقبل، قبل أن يتراجع جزئياً، واصفاً هذه النسبة بأنها “غير مستدامة”.
وفي مقابلة بثتها وسائل إعلام أميركية، قال ترامب إن “الرسوم الجمركية المرتفعة لن تستمر للأبد”، مضيفاً أنه يثق في إمكانية التوصل إلى اتفاق شامل مع الصين. وأضاف: “أعتقد أننا سنتوصل إلى اتفاق بشأن كل شيء تقريباً”. وأوضح أن اللقاء المرتقب مع الرئيس شي سيشمل أيضاً “قضايا تتجاوز الاقتصاد، مثل المعادن النادرة وسبل إنهاء الحرب الروسية في أوكرانيا”.
هذا التحول في اللهجة الأميركية ترافق مع جهد واضح من إدارة ترامب لتخفيف حدة التوترات قبل قمة “آبيك”، إذ صرح بيسنت أن “الأمور هدأت مؤخراً”، معبّراً عن أمله بأن “تُظهر الصين القدر نفسه من الاحترام الذي أظهرناه نحن”. كما أعرب عن ثقته بأن العلاقة الشخصية بين ترامب وشي “قد تساعد على إعادة العلاقات الثنائية إلى مسار أكثر إيجابية”.
وتُعد الجولة المرتقبة في كوالالمبور الخامسة من نوعها بين بيسنت وخه لي فنغ، بعد جولات سابقة في مدريد وستوكهولم ولندن وجنيف. وعلى الرغم من أن أياً من تلك اللقاءات لم يسفر عن اختراق حقيقي، فإن الجانبين تمكنا في مطلع العام الجاري من التوصل إلى هدنة مؤقتة، تضمنت تعليق واشنطن رسوماً جمركية بنسبة 145% على السلع الصينية، مقابل استئناف بكين صادرات المغناطيسات المصنوعة من العناصر الأرضية النادرة، وهي هدنة تنتهي في نوفمبر المقبل.
ويبدو أن استضافة ماليزيا للمحادثات تحمل رمزية خاصة، فالدولة الواقعة في قلب جنوب شرق آسيا تسعى إلى لعب دور الوسيط المحايد في واحدة من أعقد المواجهات التجارية في العالم. كما تأتي الجولة بالتزامن مع انعقاد قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) في كوالالمبور الأسبوع المقبل، والتي يُتوقع أن يحضرها عدد من قادة العالم، بمن فيهم الرئيسان الأميركي والصيني.
من الناحية الدبلوماسية، تشير مصادر قريبة من الوفدين إلى أن النقاشات في كوالالمبور ستركز على ثلاثة محاور أساسية: أولاً، مستقبل القيود الصينية على تصدير المعادن النادرة؛ ثانياً، الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة المقترحة؛ وثالثاً، إعادة تفعيل قنوات التواصل الاقتصادية التي جُمّدت خلال فترة التصعيد الأخيرة. ويأمل الجانبان أن تُثمر الجولة عن إعلان مبدئي يتيح للرئيسين توقيع “تفاهم أولي” خلال قمة كوريا الجنوبية.
في المقابل، لا تخلو التحركات الأميركية من بُعد استراتيجي أوسع. فبحسب مسؤولين أوروبيين شاركوا في اجتماعات مجموعة السبع الأخيرة بواشنطن، تعمل الولايات المتحدة على تنسيق ردّ غربي مشترك على الضوابط الصينية الجديدة، في محاولة لتقليل الاعتماد على الصين في توريد المعادن النادرة. وقال مفوض الاقتصاد بالاتحاد الأوروبي فالديس دومبروفسكيس إن وزراء المالية في مجموعة السبع “اتفقوا على تنسيق استجابتهم وتنويع مصادر الإمداد”، مشيراً إلى أن “تنويع تلك السلاسل سيستغرق سنوات”.
اللافت أن هذه الجهود الغربية تأتي في الوقت الذي تحاول فيه الصين استعراض انفتاحها الدبلوماسي. فوسائل الإعلام الرسمية في بكين وصفت المكالمة الهاتفية الأخيرة بين خه لي فنغ وبيسنت بأنها “صريحة وبناءة”، مؤكدة أن الجانبين اتفقا على عقد الجولة الجديدة “في أقرب وقت ممكن”، وهو ما تحقق بإعلان موعدها في الأسبوع الأخير من أكتوبر.
ويبدو أن عودة الحوار المباشر بين واشنطن وبكين تمثل اختباراً دقيقاً لمستقبل العلاقات بين القوتين، خصوصاً بعد أعوام من التوتر المتصاعد والحروب التجارية المتكررة التي عطلت حركة التجارة العالمية وأثرت في سلاسل الإمداد الدولية. ويرى مراقبون أن فشل محادثات كوالالمبور قد يعيد الأزمة إلى نقطة الصفر، فيما يُعد نجاحها خطوة أولى نحو تهدئة أوسع قد تمتد إلى ملفات التكنولوجيا والأمن والسياسة الدولية.
في المحصلة، تحمل الجولة المرتقبة مزيجاً من الواقعية السياسية والحذر الاقتصادي. فلا الصين ولا الولايات المتحدة تملكان رفاهية الانفصال الكامل في عالم مترابط اقتصادياً بهذا الشكل، كما أن كلاً منهما تدرك أن استمرار التصعيد سيضر بمصالحها القومية على المدى الطويل. وبينما يسافر الوفدان إلى كوالالمبور في أجواء من الحذر المشوب بالأمل، يترقب العالم نتائج هذا اللقاء، الذي قد يكون مقدمة لمرحلة جديدة من “الهدوء التجاري” بين واشنطن وبكين، أو ربما حلقة أخرى في سلسلة الصدامات التي لا تنتهي بين عملاقي الاقتصاد العالمي.