شؤون آسيوية – أنقرة – خاص –
في أكتوبر الماضي، أعلن حزب العمال الكردستاني عن سحب مقاتليه من الأراضي التركية باتجاه مناطق شمال العراق، تنفيذاً لقرارات مؤتمره الثاني عشر وبناءً على رسالة جديدة من مؤسس الحزب وزعيمه المعتقل عبد الله أوجلان.
وترافقت هذه الخطوة مع إعلان الحزب حلّ بنيته العسكرية وإلقاء السلاح، ووصفها مسؤولون أتراك بأنها بداية مرحلة “تركيا خالية من الإرهاب”، بينما أثارت هذه التطورات أسئلة معقدة حول مستقبل الامتداد السوري للحزب المتمثل في قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ومآلات الصراع الممتد منذ أكثر من أربعين عاماً بين الأكراد والدولة التركية، والذي ارتبط بملفات إقليمية شديدة التشابك في كل من سوريا والعراق.
جاء هذا الإعلان خلال مؤتمر صحافي عقد في جبال قنديل شمال العراق، حيث تلا قادة الحزب بياناً كشف عن بدء عملية سحب المقاتلين من الداخل التركي “تفادياً لأي اشتباكات غير مرغوبة”، مؤكدين أن ذلك يتزامن مع تنفيذ قرار حلّ الحزب وإلقاء سلاحه.
وانتشرت صور لمجموعة من مقاتلي الحزب، بينهم نساء، خلال مراسم الانسحاب، فيما ظهرت خلفهم صورة كبيرة لأوجلان. وأوضح البيان أن البنية العسكرية للحزب ستُحل، وأن الانسحاب يأتي ضمن “مرحلة انتقال نحو النضال الديمقراطي والسياسي” داخل تركيا.
التحول الأخير بدأ بعد سلسلة اتصالات ومؤشرات سياسية داخل تركيا، حين دعا دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية وشريك الرئيس رجب طيب أردوغان في الحكم، إلى فتح صفحة جديدة مع الأكراد عبر حوار مع أوجلان، وقد التقطت المؤسسة السياسية هذه الإشارة بوصفها مخرجاً محتملاً للصراع الذي أودى بحياة نحو خمسين ألف شخص منذ ثمانينيات القرن الماضي.
وجاءت رسالة أوجلان المؤثرة في فبراير الماضي، والتي دعا فيها إلى “مجتمع سلمي وديمقراطي”، لتكرّس هذا المسار وتفعّله.
إلا أن إعلان حلّ الحزب وسحب مقاتليه من تركيا لم يُستقبل محلياً بوصفه نهاية كاملة للصراع، بل بوصفه بداية مرحلة جديدة يختبر فيها الطرفان –الدولة والحزب– قدرتهما على التنفيذ الفعلي للتفاهمات. ففي الجانب التركي، يرى محللون في الأمن والسياسة أن المسار الحالي لا يزال في بدايته، وأن مجرد الانسحاب لا يعني انتهاء التهديد الأمني أو التخلي الكامل عن السلاح. كما تشير تقديرات تركية رسمية وأكاديمية إلى أن نحو نصف المجتمع التركي لا يزال متحفظاً، نتيجة الخسائر الكبيرة التي تحملتها البلاد خلال أربعة عقود من المواجهات.
من جهة أخرى، تتحدث مصادر كردية محسوبة على الحزب عن أن ما جرى ليس انسحاباً تكتيكياً بل التزام استراتيجي بإنهاء الكفاح المسلح، استجابة لتوجيهات أوجلان، وأن هدف الحزب هو الانخراط في العملية السياسية الديمقراطية داخل تركيا. ودعا قياديون في الحزب البرلمان التركي إلى اللقاء العاجل بأوجلان في سجنه من أجل وضع إطار قانوني يضمن مشاركته السياسية، ويؤسس لعفو شامل عن عناصر الحزب ودمجهم في المجتمع التركي، مع تأكيدهم أن قرار الانتقال إلى “النضال الديمقراطي” لا رجعة عنه إذا التزمت الدولة بتوفير الضمانات القانونية اللازمة.
وفي الوقت الذي تتعامل فيه أنقرة مع الخطوة بوصفها “نتيجة ملموسة لجهود الحكومة في محاربة الإرهاب”، فإن مصادر في المعارضة التركية ودوائر أكاديمية تشدد على أن مجرد نقل عناصر الحزب إلى شمال العراق لا يكفي لمعالجة القضية الكردية، بل يفتح الباب لمخاوف تتعلق بتموضع هذه القوات في بيئة إقليمية قابلة للتوظيف من أطراف ذات مصالح متناقضة. ويشير مختصون إلى أن وجود الحزب في شمال العراق تاريخي ومتجذر، وأن نقل المقاتلين إلى المنطقة سيجدد الخلافات بين بغداد وأربيل حول السيطرة الأمنية والسيادة.
الأكثر حساسية في المعادلة هو الامتداد السوري لحزب العمال، والمتمثل في قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تشكل وحدات حماية الشعب (YPG) نواتها العسكرية الرئيسة، والمرتبط تنظيمياً وإيديولوجياً بحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، الفرع السوري للحزب الأم. فمنذ عام 2012، وفي ظل الفوضى التي رافقت الحرب السورية، استطاع الحزب أن ينقل كوادره إلى شمال وشمال شرق سوريا ويؤسس بنية عسكرية وسياسية مستقلة تحت اسم “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”. وبفضل الدعم العسكري واللوجستي من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، تحولت “قسد” إلى قوة الأمر الواقع في مناطق واسعة في الجزيرة السورية، وباتت لاعباً محورياً في ملفات الأمن، والنفط، والحدود.
الولايات المتحدة بدورها، وفق تقارير لمعهد واشنطن، تعاملت مع “الاتحاد الديمقراطي” و“قسد” باعتبارهما شريكاً عسكرياً فعالاً في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، لكنها حافظت على مسافة سياسية بسبب الصلة الوثيقة بين القيادة في سوريا والقيادة في قنديل، وهو ما جعل العلاقة بين واشنطن وأنقرة متوترة. وفي المقابل، تحاول قسد على مستوى الخطاب أن تُظهر استقلالها عن حزب العمال، إلا أن معظم التحليلات تقول إنه ارتباط عملي وفكري يصعب فصله، خصوصاً في ظل استمرار تبادل الكوادر والقيادات بين الساحتين التركية والسورية.
المشكلة الأكبر للخطوة الجديدة تكمن في سؤال المستقبل: هل يؤدي حلّ حزب العمال الكردستاني في تركيا إلى تفكيك قسد في سوريا؟ أم أن قسد ستبقى القوة الفعلية التي يدير من خلالها الحزب نفوذه الإقليمي؟ هنا تتباين التقديرات بحدة. فبينما يعتقد محللون مثل أسامة شيخ علي، من “مركز عمران”، أن نفوذ الحزب داخل قسد سيظل ورقة ضغط قوية في إدارة التفاوض مع أنقرة، يرى آخرون أن الحزب قد يكون مضطراً للتخفيف من حضوره التنظيمي في سوريا إذا أراد نجاح مسار السلام. لكن محللين آخرين، مثل حسن النيفي، يرون العكس تماماً، ويعتبرون أن الحزب سيستمر في إدارة قسد من خلف الستار، وأن الانسحاب من تركيا لن يغيّر شيئاً من شكله العملياتي في سوريا.
وفي السياق ذاته، يرى الباحث قتيبة فرحات من جامعة كارتكن أن تأثير حلّ الحزب على قسد سيكون محدوداً، لأن قسد لا تتكون من كيان واحد متجانس بل من ثلاث دوائر نفوذ: قسد “الفلول”، وقسد إيران، وقسد قنديل، وأنها بنية متعددة المرجعيات. ويشير إلى أن بعض عناصر قسد يحاولون الاندماج في مؤسسات الدولة السورية، لكن ذلك لا يبدد مخاوف دمشق، التي تنظر إلى انتقال مقاتلي الحزب من تركيا إلى سوريا بوصفه تهديداً مباشراً.
بالنسبة لدمشق، فإن التحفظ على المسار التركي–الكردي لا يأتي من زاوية الاعتراض على وقف الحرب، بل من مخاوف أن يؤدي خروج مقاتلي الحزب من تركيا إلى إعادة تمركزهم في مناطق قسد، مما يعني مضاعفة نفوذهم العسكري على الأرض السورية بطريقة قد تُربك المفاوضات بين الإدارة الذاتية والحكومة السورية، التي تجري برعاية روسية وبدعم أميركي متذبذب. ويرى الباحث السوري عباس شريفة أن دمشق كانت تفضّل حل الحزب داخل تركيا لا ترحيله إلى الشرق السوري، لأن خروج مقاتليه يعني تحويل سوريا إلى ساحة بديلة للصراع.
وفي ظل هذه التداخلات، يبرز اتفاق 10 آذار/مارس بين رئيس الحكومة السورية الانتقالية أحمد الشرع وقائد قسد مظلوم عبدي، الذي ينص على دمج قوات قسد ضمن الجيش السوري على شكل فرق عسكرية، ومنح الأكراد حقوقاً دستورية في إطار لامركزي. غير أن الاتفاق تعطل بسبب عدم تقدم مسار المحادثات بين دمشق وقسد، وسط اتهامات من الطرفين. وتعتقد تركيا أن قسد تماطل، وأن سيطرة قيادات قنديلية على قرارها يمنع أي تقدم. في حين ترى قسد أن دمشق تتراجع في كل مرحلة وتغيّر شروطها بناءً على الضغوط الروسية والإيرانية.
أما السؤال الأكثر حساسية، فهو: هل ستحقق تركيا مكاسب سياسية داخلية وخارجية من إنهاء الحرب مع حزب العمال؟
الحكومة التركية تعتبر ما حدث “انتصاراً استراتيجياً” يمكّن أنقرة من الدخول في مرحلة جديدة من التفاوض مع الولايات المتحدة بخصوص مصير قسد، بعيداً عن ضغوط السلاح. وفي هذا السياق، يربط محللون بين عملية السلام الحالية وبين الانتخابات التركية المقبلة، ويرون أنها قد تمنح الرئيس أردوغان فرصة لكسب شريحة أكبر من الناخبين الأكراد. لكن في المقابل، يرى آخرون أن هذا المسار يواجه عقبتين كبيرتين: الأولى قانونية مرتبطة بإمكانية إصدار عفو شامل عن مقاتلي الحزب، والثانية اجتماعية مرتبطة بعائلات الضحايا الذين سقطوا خلال الحرب.
إقليم كردستان العراق بات جزءاً أساسياً من المعادلة، فقد استقبل المقاتلين المنسحبين، وهو المستفيد الأول من تخفيف التوتر بين تركيا والحزب، خصوصاً بعد أن رفعت أنقرة الحظر الجوي عن مطار السليمانية. وفي الوقت ذاته، تخشى بغداد من أن يؤدي انتقال عناصر الحزب إلى شمال العراق إلى تعقيد المشهد الأمني. فالعراق لا يريد صراعات إضافية على أراضيه، ولا يرغب في أن يتحول شماله إلى ساحة تصفية حسابات بين تركيا والحزب المنسحب.
على المستوى الإقليمي، تظهر أطراف أخرى لا تقل تأثيراً، بينها إيران وإسرائيل. فإيران تحاول استثمار أي ضعف في العلاقة بين الأكراد وتركيا لصالح توسيع نفوذها، بينما تنظر إسرائيل إلى الأكراد بوصفهم ورقة ضغط مهمة لإعادة تشكيل توازن القوى في المنطقة. أما على المستوى الدولي، فإن الولايات المتحدة هي اللاعب الأكثر تأثيراً، لأنها الجهة التي تحدد مصير الدعم العسكري لقسد، وتملك القدرة على تعطيل أي عمل عسكري تركي شمال سوريا.
وفي مقابل ذلك، تتحدث تحليلات عن أن حلّ الحزب داخل تركيا قد يفتح الباب أمام حلّ القضية الكردية في سوريا وإيران أيضاً، خصوصاً إذا حصل الأكراد على حقوق دستورية في تركيا. فتركيا القوية اقتصادياً وعسكرياً، والقادرة على منح الأكراد حقوقاً سياسية، قد تصبح نموذجاً يُحتذى في المنطقة، وهذا ما أشار إليه نواف خليل، مدير “المركز الكردي للدراسات”، حين قال إن نجاح المسار التركي سيمهد الطريق لحلول كردية مستدامة في سوريا وإيران على المدى البعيد.
إلا أن تركيا لا تزال متشددة تجاه قسد، وتواصل التلويح بعمل عسكري إذا لم تُسلّم “الحزب القنديلي” داخلها، وترى أن قسد ليست أكثر من امتداد لحزب العمال، وأنها “ميليشيا مسلحة” تستغل الدعم الأميركي للبقاء. ويؤكد محللون أتراك أن موقف أنقرة من قسد لن يتغيّر ما لم تُنهِ قسد وجودها العسكري، وتندمج في بنية الجيش السوري.
في المحصلة، يبدو أن انسحاب حزب العمال من تركيا خطوة كبيرة، لكنها ليست نهاية الطريق. فهي بداية اختبار صعب بين أطراف محلية وإقليمية ودولية، كل منها يحمل حساباته واشتراطاته. نجاح المسار يتوقف على قدرة أنقرة على تقديم ضمانات دستورية وسياسية للأكراد، وقدرة الحزب على فرض التزام كامل على كوادره في سوريا والعراق، واستعداد الولايات المتحدة لإعادة صياغة علاقتها بقسد ضمن إطار جديد يراعي حساسية الأمن القومي التركي.
ما يجري اليوم ليس مجرد تفكيك حزب مسلح، بل إعادة تشكيل للمعادلة السياسية الكردية–التركية–السورية، بامتدادات إلى العراق وإيران، وتداعيات محتملة على مستقبل الحدود، والغاز، والتحالفات العسكرية في الشرق الأوسط. وفي منطقة لا تنسى حروبها بسهولة، يبدو أن السلام نفسه يحتاج إلى مفاوضات طويلة، وربما مؤلمة، لكي يتحول إلى واقع دائم لا مجرد بيان سياسي.

