(251001) -- BEIJING, Oct. 1, 2025 (Xinhua) -- Pigeons are released after a flag-raising ceremony marking the 76th anniversary of the founding of the People's Republic of China at Tian'anmen Square in Beijing, capital of China, Oct. 1, 2025. (Xinhua/Xing Guangli)
شؤون آسيوية – خاص –
تعيش الصين هذه الأيام لحظة سياسية واقتصادية بالغة الأهمية وهي تستعد لتنفيذ الخطة الخمسية الخامسة عشرة (2026 – 2030)، التي تمثل مرحلة جديدة في مسار تحديث الدولة، وترسيخ موقعها كقوة عالمية تسعى لتحقيق تنمية عالية الجودة وتحقيق ما تسميه “النهضة الصينية العظيمة”.
تأتي هذه التحضيرات بعد انعقاد الجلسة العامة الثامنة للجنة المركزية العشرين للحزب الشيوعي الصيني، التي وصفت بأنها “محطة مفصلية” في طريق الصين نحو تحقيق أهداف القرن الثاني، أي استكمال بناء دولة اشتراكية حديثة قوية بحلول منتصف هذا القرن.
قبل انعقاد الجلسة، حرصت القيادة الصينية على صياغة رؤية متكاملة تأخذ في الاعتبار التطورات الداخلية والتحديات الخارجية، بما في ذلك تباطؤ الاقتصاد العالمي، والتوترات الجيوسياسية، وتحولات التكنولوجيا الخضراء.
وفي هذا السياق، شدد الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني والرئيس شي جين بينغ على ضرورة أن تكون الخطة الخمسية الجديدة “موجهة نحو الجودة لا الكمية”، وأن تستند إلى الابتكار كقوة دافعة رئيسية.
قبل الجلسة.. مرحلة تقييم واستشراف
شهدت الفترة التي سبقت الجلسة العامة الثامنة نشاطاً مكثفاً في الأوساط الحكومية والاقتصادية الصينية، فالمؤسسات البحثية والوزارات المعنية بدأت إعداد تقارير تقييم شاملة للخطة السابقة (2021 – 2025)، التي ركزت على الابتكار الصناعي وتعزيز الأمن الغذائي والطاقة وتوسيع الطبقة الوسطى.
وقد أظهرت هذه التقييمات أن الصين تمكنت رغم التحديات العالمية من تحقيق نمو اقتصادي مستقر تجاوز 5% في معظم فترات السنوات الماضية، وهو معدل يعتبر مرتفعاً في ظل التقلبات الدولية الحادة.
في الوقت نفسه، برزت نقاشات داخلية حول ضرورة توجيه الموارد نحو الابتكار العلمي والذكاء الاصطناعي، وتخفيف الاعتماد على الأسواق الخارجية في بعض القطاعات الحساسة، خصوصًا أشباه الموصلات والطاقة الجديدة.
في هذا الإطار، دعا الرئيس الصيني إلى تعزيز الثقة الذاتية العلمية والتكنولوجية، مؤكداً أن “من يملك ناصية الابتكار يملك المستقبل”. كما ركزت تصريحات القيادة على أن التحديث الصيني يجب أن يكون “خاصاً بالصين”، أي أن يستند إلى ظروفها الوطنية وأن لا يكرر نماذج الغرب في التنمية، بل يقدم طريقاً بديلاً يجمع بين الكفاءة الاقتصادية والاستقرار السياسي.
الخطة الخمسية الـ15.. خريطة طريق نحو التحديث الكامل
تُعد الخطة الخمسية الـ15 وثيقة توجيهية تحدد أولويات الصين للسنوات الخمس المقبلة، وقد جرى إعداد مسودتها على مدى شهور طويلة من المشاورات بين الحكومة والحزب والمؤسسات البحثية.
وتركز الخطة على ستة محاور أساسية: الابتكار العلمي، التحديث الصناعي، التنمية الخضراء، الأمن الغذائي والطاقي، الانفتاح عالي المستوى، وتحسين مستوى معيشة المواطنين.
ويحتل الابتكار مركز الصدارة، إذ تتطلع الصين إلى أن تصبح قوة رائدة في الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمّية والعلوم البيولوجية، مع إطلاق مشروعات وطنية كبرى لتعزيز قدراتها الذاتية في التكنولوجيا المتقدمة.
أما في المجال الصناعي، فتسعى الحكومة إلى رفع كفاءة الإنتاج، والتحول من “مصنع العالم” إلى “مركز الابتكار العالمي”، عبر تطوير سلاسل القيمة والصناعات ذات التقنية العالية.
وفي الجانب البيئي، تتبنى الخطة توجهاً واضحاً نحو تحقيق الحياد الكربوني، وتوسيع الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، وتخفيض الانبعاثات الصناعية، حيث ترى الصين في هذا التحول الأخضر ليس مجرد التزام بيئي، بل فرصة اقتصادية لإعادة تشكيل بنيتها الصناعية وتصدر أسواق الطاقة النظيفة.
كما تؤكد الخطة على ضمان الأمن الغذائي والطاقي، عبر بناء نظام احتياطي استراتيجي وتطوير التكنولوجيا الزراعية، وهو ما يعكس إدراك الصين لحساسية الأمن الاقتصادي في عالم مضطرب سياسيًا.
ما بعد الجلسة العامة الثامنة.. التنفيذ والتعبئة
بعد انتهاء الجلسة العامة، بدأت الصين مرحلة جديدة قوامها التنفيذ والتعبئة السياسية والإدارية لتحقيق أهداف الخطة الجديدة، حيث خرجت الجلسة بتوصيات تؤكد على أن السنوات الخمس المقبلة ستكون “مرحلة الحسم” في بناء الدولة الاشتراكية الحديثة، وعلى ضرورة استمرار قيادة الحزب الشيوعي للعمل الاقتصادي والاجتماعي.
التصريحات الرسمية بعد الجلسة أوضحت أن البلاد ستواصل سياسة “الانفتاح عالي المستوى”، وأنها ستدفع نحو تحقيق “الازدهار المشترك” من خلال توزيع أكثر عدالة للثروة بين المناطق الحضرية والريفية، كما أكدت على تعزيز بيئة الأعمال وتشجيع القطاع الخاص بوصفه شريكًا مهمًا في التنمية، مع الحفاظ على الدور القيادي للمؤسسات المملوكة للدولة في القطاعات الإستراتيجية.
الرئيس الصيني شدد في خطاب ما بعد الجلسة على أن “التنمية لا تنفصل عن الأمن، والأمن هو شرط التنمية”. وهو ما فُسِّر بأنه تأكيد على استمرار نهج التوازن بين الانفتاح الاقتصادي والحفاظ على السيادة الوطنية في وجه الضغوط الدولية.
الصين والعالم.. رسائل اقتصادية وسياسية
تحمل الخطة الخمسية الـ15 رسائل خارجية بقدر ما تحمل أهدافاً داخلية، فالصين تؤكد من خلالها التزامها بالعولمة العادلة، لكنها في الوقت نفسه تدفع باتجاه نظام اقتصادي عالمي أكثر توازنًا.
وفي هذا السياق، تشير الخطط الصينية إلى مواصلة تنفيذ مبادرة “الحزام والطريق” بمقاربة أكثر دقة واستدامة، والتركيز على المشاريع النوعية ذات الجدوى الاقتصادية، وليس التوسع العددي فحسب.
كما تسعى الصين إلى تعزيز دور اليوان في التجارة الدولية، وتطوير الأسواق المالية لزيادة جاذبيتها أمام الاستثمارات الأجنبية، خصوصاً من الدول النامية، ويرى مراقبون أن هذه الخطوات تندرج ضمن استراتيجية بعيدة المدى تهدف إلى تقليص هيمنة الدولار، وتعزيز مكانة الصين في النظام المالي العالمي.
الموقف العربي.. قراءة في التوجه الصيني
من الجانب العربي، لاقت التحولات الصينية اهتماماً واسعاً وقراءة إيجابية في مجملها، وفي هذا السياق، يرى الباحث المصري أبوبكر الديب أن الخطة الخمسية الـ15 تمثل “خارطة طريق شاملة” لنموذج تنموي جديد في الصين، يوازن بين التطور الاقتصادي والاستقرار السياسي، وهو ما تحتاجه دول كثيرة في الجنوب العالمي، مشيراً إلى أن تعزيز التعاون العربي الصيني يمكن أن يكون أحد أبرز مخرجات هذه المرحلة، خصوصًا في مجالات التكنولوجيا والطاقة النظيفة والبنية التحتية.
أما المحلل التونسي حسين مقداد حسين فيعتبر أن تركيز الصين على الابتكار والتكنولوجيا “يتقاطع مع التحولات التي تشهدها المنطقة العربية في مسار التحول الرقمي”، مضيفاً أن التجربة الصينية توفر “نموذجًا تنموياً بديلاً عن الوصفات الغربية التقليدية”.
ويذهب الأكاديمي السوداني عمر الشعباني إلى أن الصين، من خلال هذه الخطة، “ترسم ملامح نظام عالمي جديد يقوم على التعددية والتعاون لا الهيمنة”، وأن العالم العربي يمتلك فرصة تاريخية لتعزيز شراكاته مع بكين في سياق التغيرات الجيوسياسية الراهنة.
هذه المواقف تعكس قناعة متزايدة في الأوساط العربية بأن الصين لا تتحرك بمعزل عن مصالح الشركاء، بل تقدم نموذجاً يعتمد على مبدأ “الربح المشترك”، وهي فلسفة تتماشى مع تطلعات كثير من الدول النامية.
نحو مرحلة جديدة من التحديث الشامل
مع انطلاق تنفيذ الخطة الخمسية الـ15، تدخل الصين مرحلة جديدة من التحديث تقوم على العلم، والابتكار، والانفتاح المتوازن، والتخطيط طويل الأمد.
التحولات الجارية تؤكد أن بكين لم تعد تنظر إلى التنمية كمجرد نمو اقتصادي، بل كمشروع وطني شامل يسعى إلى تحقيق التوازن بين الرفاه الاجتماعي والقوة الصناعية والاستقلال التكنولوجي.
الجلسة العامة الثامنة للحزب الشيوعي لم تكن حدثًا سياسياً عابراً، بل لحظة إعادة صياغة للرؤية الوطنية الصينية في عالم يتغير بسرعة.
ومع الزخم الذي أطلقته هذه الجلسة، يبدو أن السنوات الخمس المقبلة ستكون الأكثر حسماً في مسيرة الصين نحو تحقيق حلمها القديم: “النهضة الصينية العظيمة”.

