شؤون آسيوية – بقلم: المستشار د. أحمد يوسف –
أكثر من عامين مرَّا على حرب الإبادة التي شُنّت على قطاع غزة، ولم تنكسر فيها حماس رغم حجم الدمار غير المسبوق وفداحة الخسائر في الأرواح والمقدرات. خرجت غزة من تحت الركام وهي تنزف، وخرجت حماس، رغم الجراح، أكثر إصراراً على البقاء. فالصمود لم يكن مجرد شعار في بياناتها، بل تحوّل إلى فعل يومي وواقع سياسي يفرض نفسه على المشهد الفلسطيني والإقليمي.
لقد أراد الاحتلال أن يجعل من الحرب نهاية لحماس، فإذا بها تتحول إلى فصل جديد من فصول كفاحها، تُعيد فيه الحركة تعريف نفسها، وتفتح نقاشاً داخلياً غير مسبوق حول مستقبلها السياسي، وكيفية التكيّف مع التحولات الإقليمية والدولية التي تتجه نحو إنهاء مظاهر العنف، وفرض معادلة “السلام مقابل التنمية والإعمار”.
في أروقة الحركة، تتشكل اليوم رؤى جديدة تدعو إلى تحوّلٍ تدريجي من العمل المقاوم إلى العمل السياسي المنظم، على غرار تجارب قوى تحرر أخرى استطاعت أن تدمج البندقية في مشروعٍ وطني جامع. فالحديث لم يعد عن “المقاومة المسلحة” كمحور وحيد للنضال، بل عن مقاومة سياسية وشعبية تسعى لتثبيت الوجود والحفاظ على الثوابت بوسائل أكثر مرونة وذكاءً.
تدرك حماس أن البقاء لم يعد مرهوناً بقدرتها على إطلاق الصواريخ أو الاحتفاظ بالأنفاق، بل بقدرتها على قراءة المتغيرات الدولية وتوظيفها. فالعالم اليوم لا يريد صراعاتٍ مفتوحة، ولا يقبل باستمرار العنف في غزة، وهناك ضغط متزايد لإنهاء الحالة العسكرية وإعادة صياغة الحكم في القطاع ضمن توافقٍ وطني برعاية عربية ودولية.
وأمام هذه المعادلة، يبرز في صفوف حماس تيارٌ مؤمنٌ بضرورة التحول إلى حزبٍ سياسي يمثل المشروع الإسلامي الوطني، ويشارك في الحياة العامة ضمن قواعد جديدة تحفظ الكرامة وتحقق البقاء.
لقد أثبتت الحرب الطويلة أن خيار الإبادة لم يُنهِ حماس، وأن القوة العسكرية مهما بلغت لا يمكنها أن تمحو فكرةً تجذرت في وعي الشعب. لكن الحركة باتت تدرك أيضاً أن استمرار الصراع بالشكل القديم قد يُرهق الناس ويفقدها حاضنتها الاجتماعية، ولذلك يبدو التوجّه إلى العمل السياسي نوعاً من المراجعة العاقلة التي لا تتخلى عن الثوابت، بل تعيد ترتيب الأولويات بما يخدم مشروع التحرر الوطني في مرحلةٍ تتطلب أدواتٍ مختلفة.
إن “استراتيجية البقاء” التي تتبنّاها حماس اليوم تقوم على ثلاثة أعمدة أساسية:
الأول، الحفاظ على الثوابت الوطنية وفي مقدمتها حق المقاومة والتمسك بالأرض وعدم التفريط بالقدس واللاجئين، ولكن عبر قنوات سياسية وقانونية أكثر فاعلية.
الثاني، الانفتاح على البيئة الإقليمية والدولية، وبناء شبكة علاقات جديدة تتيح للحركة أن تكون جزءاً من الحل لا العقبة أمامه، مع السعي لاستثمار التعاطف الدولي الواسع الذي ولدته صور الحرب ومعاناة المدنيين.
أما الثالث، فهو التحول التدريجي نحو العمل الحزبي والمؤسسي، عبر المشاركة في الأطر الوطنية الموحدة وإعادة هيكلة مؤسساتها بما يتناسب مع مرحلة “ما بعد السلاح”.
قد يظن البعض أن مثل هذا التحول يعني نهاية المقاومة، لكن من داخل الحركة ثمة من يرى أن المقاومة ليست دوماً في فوهة البندقية، بل في القدرة على البقاء والمناورة والسيطرة على الميدان السياسي دون التفريط بالثوابت. فكما قاومت حماس في الميدان العسكري لسنوات، يمكنها أن تقاوم اليوم سياسياً من أجل بقاء القضية الفلسطينية حيّة، ومنع تصفيتها عبر مشاريع التسوية الناقصة.
في النهاية، يمكن القول إن حماس، بعد أكثر من عامين من حرب الإبادة، لم تعد كما كانت قبلها. إنها تقف اليوم أمام مفترق تاريخي: إما أن تبقى أسيرة الماضي بكل أوجاعه وسلاحه، أو أن تدخل مرحلة جديدة تُزاوج فيها بين فكرة المقاومة ومقتضيات السياسة. يبدو أن قيادتها تميل إلى الخيار الثاني، حيث البقاء لا يعني فقط النجاة من الفناء، بل التحول إلى فاعلٍ سياسي قادر على توجيه مستقبل غزة وفلسطين نحو أفقٍ أكثر نضجاً وواقعية.

