شؤون آسيوية – بقلم: د. أحمد يوسف –
** نص الورقة التي قدمها لمؤتمر “مستقبل غزة بعد الحرب”، الذي انعقد في كلية (Chu Hal) الصينية بمدينة هونغ كونغ في السادس من نوفمبر الحالي.
أتحدث إليكم اليوم لا كسياسي ولا كأكاديمي، بل كإنسان عاش مأساة إنسانية صُممت عمدًا لجعل الحياة في غزة غير صالحة للعيش، بحيث لا يبقى أمام شعبها خيار إلا الرحيل. الدمار والترحيل القسري المستمر لم يكونا نتيجة ثانوية للحرب، بل جزءًا من رؤية سياسية معلنة.
بنيامين نتنياهو دعا لسنوات إلى دفع الفلسطينيين نحو الهجرة، وفي حكومته الحالية عبّر قادة اليمين المتطرف بوضوح أكبر. بتسلئيل سموتريتش دعا إلى إنشاء “إدارة للهجرة”، وخطته “الحسم” عام 2017 دعت إلى فرض السيطرة الإسرائيلية الكاملة على غزة والضفة. أما إيتمار بن غفير فيدعو علنًا إلى تهجير الفلسطينيين وإحلال المستوطنين مكانهم.
سلوك “جيش الدفاع” الإسرائيلي يعكس هذه السياسات بوضوح. فقد وثقت لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة، ومنظمات العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، وبتسيلم، استخدام الغذاء كأداة حرب، وممارسة التعذيب والإهانة المتعمدة والعنف الجنسي، إضافة إلى الإعدامات الميدانية للفلسطينيين، ضمن نمط منظم من الانتهاكات.
هذه التصريحات والسياسات والعمليات العسكرية تشكل استراتيجية تهدف إلى جعل الحياة الفلسطينية على الأرض غير ممكنة.
لقد عشت هذه السياسات بنفسي، وواجهت الجوع والمرض مع أهلي، ولاحقتني فكرة أن كل فجر قد يكون الأخير. رأيت الخوف في عيون الأطفال، والألم في أجساد الجرحى. دفنت أهلي وأصدقائي وجيراني، ومع ذلك كنا نعمل كل يوم لنحافظ على حياة الآخرين بما توفر لنا.
أتحدث اليوم شاهدًا على فظائع الحرب وعلى أقسى ما يمكن أن يفعله البشر. أتحدث باسم من ماتوا تحت الركام، وباسم من قُتلوا وهم يبحثون عن الطعام، وباسم من ما زالوا أحياء بالكاد.
لا شك فيما حدث في غزة. فقد وصفت منظمات حقوقية دولية كبرى — منها العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، وبتسيلم، وأطباء بلا حدود، ومؤسسة الحق — ما جرى بأنه أفعال ترقى إلى الإبادة الجماعية. التجويع استُخدم كسلاح، ولم “تفشل” المساعدات في الوصول، بل مُنعت عمدًا. الهدف كان واضحًا: إرغام المدنيين على الرحيل مع الادعاء لاحقًا أن ذلك كان طوعًا.
ما الذي عشناه..
نفذت إسرائيل تدميرًا منهجيًا لبنية الحياة في غزة. أُلقي ما يقارب 200 ألف طن من المتفجرات على شعب محاصر. 95% من السكان أصبحوا نازحين، و92% من المنازل دُمّرت أو تضررت. 97% من الأشجار المثمرة والغطاء النباتي دُمّر، وأكثر من 80% من المحاصيل ذهبت. كما تضررت أو دُمّرت 90% من المدارس، فيما عملت المستشفيات من دون وقود أو أدوية أو معدات. الماء لم يعد صالحًا، والأمراض انتشرت.
المنظمات الإنسانية استُهدفت عمدًا. الأونروا واصلت تقديم خدماتها رغم قصف منشآتها وقتل موظفيها وسحب تمويلها. قُتل موظفو منظمة *World Central Kitchen* بغارات جوية، وتوقفت شاحنات اليونيسف وبرنامج الغذاء العالمي ومنظمة الصحة العالمية لأيام عند معبر رفح حتى تلفت المواد الغذائية. لم تكن تلك “مشكلات لوجستية”، بل تحكمًا وسيطرة.
كما حاولت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والهلال الأحمر القطري، والهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية العمل، لكن القيود الإسرائيلية حدت من قدرتها. وفوق ذلك، دعمت إسرائيل مجموعات مسلحة نهبت المساعدات وباعتها بأسعار فاحشة.
عمليات الإسقاط الجوي بدت إنسانية أمام الكاميرات، لكنها كانت أفخاخًا للموت في الداخل. فقد أُطلق النار على شبان أثناء محاولتهم الحصول على الطعام، واستهدفت وحدات إسرائيلية ومتعاقدون أجانب المدنيين قرب نقاط التوزيع. وأكدت منظمة أطباء بلا حدود أن “مؤسسة المساعدات الأمريكية الإسرائيلية لغزة” ليست إلا آلية قاتلة للسيطرة ويجب تفكيكها.
كيف نجونا..
رفض الناس في غزة الاستسلام. في حي تل السلطان، بدأت المبادرات حين فتحت العائلات أبوابها للنازحين، ثم بُنيت خيام في حديقة عامة، وأُنشئت مراحيض بسيطة ودُش مؤقت، وأُقيم مطبخ مجتمعي “تكية”. تلقينا دعمًا من IHH التركية، ومؤسسة الفارس الشهم الإماراتية، والهلال الأحمر القطري، والهيئة الخيرية الأردنية، والصليب الأحمر.
أنشأنا عيادة صغيرة ومدرسة من خيمتين. أرسل أهلنا في الخارج تبرعات صغيرة لشراء الحليب والدواء. وبعد سبعة أشهر، أجبرتنا أوامر الجيش الإسرائيلي على النزوح مجددًا إلى المواصي، حيث بدأنا من الصفر مرة أخرى.
تحولت الجيرة إلى حكومة شعبية. عرفنا من جاع ومن مرض ومن بلا مأوى. المبادرات المجتمعية أنقذت الأرواح أسرع من أي هيكل رسمي، وإن كانت غير كافية أمام حجم الكارثة.
ما كشفته هذه المأساة..
أمور كثيرة أصبحت واضحة:
المجتمع المحلي هو خط الدفاع الأول. المنظمات الدولية مهمة، ولكن المبادرة المحلية أسرع وأقرب للناس.
حين يصبح التجويع سياسة، تتحول الإغاثة إلى واجب أخلاقي، والصمت تواطؤ.
المؤسسات الإنسانية ضرورة للبقاء المدني. في النكبة الأولى، ساعدت الأونروا في الحفاظ على الهوية والكرامة، أما اليوم فاستُهدفت لإسكات الشهود.
المحاسبة ليست خيارًا. التهجير والتجويع ومنع المساعدات جرائم حرب، وعدم معاقبة إسرائيل يشجع تكرارها.
تستخدم إسرائيل الجوع والإهانة كسلاح، وتجاهل ذلك خيانة للعدالة.
ما الذي تحتاجه غزة..
التعافي الحقيقي يحتاج فعلًا ومسؤولية:
تمويل إعادة الإعمار ممن موّلوا التدمير.
أكثر من 30 مليار دولار من الدعم العسكري الغربي ساهمت في تدمير غزة. وتقدر الأمم المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي كلفة إعادة الإعمار بنحو 70 مليار دولار. من دعم الحرب يجب أن يتحمل مسؤولية إعادة البناء، لا أن يُترك العبء للعرب وحدهم.
حماية دولية للعمل الإنساني.
يجب إلزام حماية العاملين والمنشآت الإنسانية وتطبيق القانون الدولي الإنساني بلا انتقائية. أي جهة تمنع المساعدات أو تستهدف فرق الإغاثة يجب أن تواجه عقوبات دولية.
فتح الاقتصاد بقيادة الفلسطينيين.
يجب فتح المعابر أمام حركة التجارة والعمل، وتمويل البنى التحتية والزراعة والصيد والصناعة، مع تولي المؤسسات الفلسطينية المهنية التخطيط والتنفيذ. يجب التحول من “سلال غذائية” إلى دعم الإنتاج المحلي وفرص العمل.
القيادة الفلسطينية وحق تقرير المصير.
لا يمكن أن تُدار غزة من الخارج. يجب تفعيل منظمة التحرير وإدارة مدنية شفافة، تشارك فيها البلديات والمجتمع المدني والنقابات والقطاع الخاص. القيادة يختارها الشعب، لا تُفرض عليه.
آليات دولية لوقف الحصار والتهجير.
يجب أن يلتزم مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية والدول الكبرى بضمان منع الحصار والتهجير ومنع عرقلة المساعدات. لا يستقيم النظام الدولي إذا طُبق القانون على الضعفاء فقط.
يسأل كثيرون: هل لغزة مستقبل؟
نعم، لأننا اخترنا الصمود عندما غاب العالم. تقاسمنا القليل وتمسكنا بإنسانيتنا حين حاول الاحتلال انتزاعها.
أهل غزة لا يطلبون الشفقة، بل العدالة. إذا سُمح بالتجويع والتهجير هنا بلا محاسبة، فسيتكرر في أماكن أخرى، ونراه اليوم في السودان.
لتكن غزة المكان الذي يثبت فيه العالم أن للإنسانية معيارًا واحدًا، لا معيارين.
واختتم بكلمة للزعيم نلسون مانديلا:
“إنَّ الإنسانية لا تقاس بالمال الذي نملكه، بل بما نمنحه للآخرين وقت الحاجة”.

