شؤون آسيوية – الخرطوم –
في عمق المجلد بولاية غرب كردفان، حيث تتداخل المراعي مع تخوم دارفور، يقف عبد الخالق سعيد، رجل تجاوز الخمسين، يتأمل ما تبقّى من قطيعه: نحو 200 رأس من الأغنام وعدد قليل من الإبل.
رغم بريق عينيه، يختبئ خلفهما عبء سنواتٍ أنهكتها الحرب، لكنها أيضًا تكشف صلابة رجل لم ينحنِ أمام العاصفة.
يسترجع ذكرياته وهو يشدّ عمامته تحت شمس الظهيرة “كنت أملك حوالي 800 رأس قبل الحرب، كل شيء تغيّر، المسلحون نهبوا أكثر من نصف القطيع، وأخرى نفقت من الجوع والمرض، وحتى المخازن التي حفظنا فيها الأعلاف التهمتها النيران”.
ويتابع وهو يتطلع إلى الأفق الممتد “هربتُ بما تبقّى لي، كنا نسير ليلاً عبر الصحراء، نبحث عن موضع آمن ليوم أو يومين، الليل كان حليفنا الوحيد”.
لكن رحلة الهرب لم تكن إلا بداية معركة أطول، فعبد الخالق يخوض يوميًا حربًا جديدة الا وهى “حرب البقاء”.
يقول بينما يربّت على ظهر إحدى الماشية المرهقة “الحرب شلّت الأسواق، وأصبح العلف نادرًا وغاليًا، أحيانًا أبيع رأسًا لأُطعم بقية القطيع، وأحيانًا أقطع يومًا كاملًا بحثًا عن الذرة أو النخالة”.
ويضيف بصوت تختلط فيه العزيمة بالتعب “أخشى الأمراض أكثر من الرصاص، كل أسبوعين أذهب إلى مركز بيطري بعيد للحصول على اللقاحات، أعود أحيانًا بلا شيء بسبب انقطاع الإمدادات، لكني لا أتوقف، ما تبقى لديّ لا يمكن أن أخسره”.
ثم يبتسم ابتسامة قصيرة، تحمل روح البادية وصلابتها “الماشية ليست تجارة فحسب، إنها حياتنا، طالما أستطيع المشي، سأحميها”.
بهذه الروح، يشبه عبد الخالق آلاف الرعاة في كردفان ودارفور الذين يقفون على خط النار بين الحياة والانهيار، متشبثين بثروتهم التي تمثل مصدر رزقهم وهويتهم في آن واحد.
وفي المجلد، التي كانت تُعرف يومًا بـ”جنة الرعي”، حوّلت الحرب المراعي الخصبة إلى منطقة مثقلة بالمخاطر، ومع ذلك، واصل سعيد طريقه، فتعاون مع جمعيات رعوية لتقاسم المراعي، واستفاد من حملات التطعيم التي نظمتها وزارة الثروة الحيوانية بالشراكة مع منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، ما ساعده على إنقاذ ما تبقّى من قطيعه.
ويقول “اليوم، أبيع جزءًا من الإنتاج في الأسواق المحلية، وأعتمد على الدعم الحكومي للأعلاف، الحرب سرقت الكثير، لكننا تعلمنا كيف نصمد بالقليل”.
— الضرر العميق: قطاع ينزف
يُعد قطاع الثروة الحيوانية، المقدر بحوالي 140 مليون رأس، من أكثر القطاعات تضررًا منذ اندلاع الحرب.
ففي كردفان ودارفور، حيث تتركز 60 % من الثروة الحيوانية، خلّفت المعارك خسائر كبيرة: نهب، وحرق للمراعي، وتدمير للبنى التحتية البيطرية.
وتشير تقارير دولية إلى أن السودان خسر أكثر من مليار دولار من صادرات الماشية خلال النصف الأول من العام 2025 وحده، بفعل توقف الطرق المؤدية إلى الموانئ وارتفاع تكاليف الوقود بنسبة 300 %.
كما أدّى النزوح الواسع إلى تأثر نحو سبعة ملايين شخص في المناطق الرعوية، خاصة النساء اللاتي يشكلن جزءًا أصيلًا من نشاط الرعي.
وفي غرب كردفان، تراجع عدد القطعان بنسبة 40 %، بحسب دراسة لمركز النزاعات البيئية، نتيجة الجفاف والحرب معًا.
وفي السياق ذاته، يقول فضل الله مكين، مربي ماشية من الفولة “المسلحون يتعاملون مع الماشية كغنيمة، في ليلة واحدة فقدتُ 300 رأس”.
ويضيف “النقص الحاد في المياه والمراعي يهدد ما تبقى، وأحيانًا نستأجر سيارات لنقل الماء من المدن، بينما الأعلاف شبه معدومة”.
— تدخلات حكومية تحدّ من النزيف
وبرغم حجم الدمار، يشهد القطاع بعض مظاهر الصمود، فقد نجح السودان، في سبتمبر 2025، في تصدير أربعة ملايين رأس ماشية، بزيادة 10 % عن العام السابق، بدعم من الطلب المتزايد في السعودية ومصر.
ويوضح وكيل وزارة الثروة الحيوانية عمار الشيخ إدريس، أن هذا التقدم جاء نتيجة جهود مشتركة “دعمنا الجمعيات المحلية في مناطق الإنتاج، خاصة في كردفان، حيث يتقاسم الرعاة الأعلاف والمراعي، وهذا خفّف الخسائر، كما نفذنا حملات تطعيم مجتمعية غطت 70 % من القطعان في المناطق الآمنة بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو)”.
ويؤكد أن الوزارة ماضية في تنفيذ الاستراتيجية الخمسية للنهوض بالقطاع، والتي تشمل إنشاء “مدن للإنتاج الحيوانى” وتأسيس مصانع للأعلاف، وتوطين صناعة اللقاحات، وتحسين البيئة الرعوية.
— أفق لم يكتمل .. لكن الأمل قائم
ويرى مختصون أن صمود قطاع الثروة الحيوانية مرتبط بوقف النهب وتأهيل طرق النقل، لكن الخطوات الأولى، كالاستراتيجية الخمسية والشراكات الدولية، تمنح بارقة أمل في أن يستعيد السودان موقعه كأحد أكبر مصدري الماشية في أفريقيا.
وفي هذا الصدد، يقول عضو شعبة مصدري المواشي، هشام صالح “القطاع دفع ثمن الحرب، فقدنا مسالخ ومحاجر ومراكز بحوث، ونفقت أعداد كبيرة من الماشية، لكن رغم ذلك، أثبت الرعاة والحكومة قدرة لافتة على الصمود”.
وبحسب وزارة المالية، بلغت صادرات الماشية الحية قبل الحرب 4.72 مليون رأس، وصادرات اللحوم 5.89 مليون طن، وصادرات الجلود 1.75 مليون طن بقيمة 552.46 مليون دولار.
إلا أن الحرب خفضت هذه الأرقام إلى أقل من النصف.
وما يزال السودان، رغم الظروف، يحتفظ بمرتبته الأولى عربيًا وأفريقيًا، والسادسة عالميًا في حجم الثروة الحيوانية، التي تسهم بأكثر من 20 % من الناتج المحلي، و40 % من الإنتاج الزراعي، و25 % من العائدات.
المصدر: شينخوا

