شؤون آسيوية – خاص –
بعد انهيار وقف إطلاق النار الذي رعته الولايات المتحدة قبل أشهر قليلة، تحوّلت خطوط التماس بين تايلاند وكمبوديا إلى مسرح لاشتباكات متقطعة، ومنذ مطلع الأسبوع، دخلت المنطقة الحدودية في دوامة جديدة من العنف، إذ تكشف بيانات وزارات الدفاع في البلدين حصيلة ثقيلة، تسعة جنود تايلانديين قُتلوا في الأيام الأخيرة، وأكثر من 120 جندياً أُصيبوا بجروح متفاوتة، إلى جانب قتلى كمبوديين معظمهم مدنيون، وبينهم أطفال.
السلطات الكمبودية تقول إنه سقط ما لا يقل عن أحد عشر مدنياً في جولة سابقة من الاشتباكات، ثم ارتفع العدد لاحقاً إلى سبعة قتلى إضافيين في موجة القتال الجديدة، فيما تتحدث بانكوك عن أربعة جنود قضوا وأكثر من ستين جريحاً في أحدث الاشتباكات.
ولا يبدو أن أياً من الحكومتين مستعد للتراجع، الخطاب الرسمي في بانكوك يشدد على «الدفاع عن السيادة»، بينما تتهم بنوم بنه الجيش التايلاندي باستخدام «أسلحة ثقيلة وضربات جوية عشوائية» طالت مدارس ومعابد. وفي المقابل، تنفي تايلاند استهداف المدنيين وتقول إن جميع ضرباتها «موجهة بدقة نحو مواقع عسكرية على طول خط المواجهة». وبين هذين الاتهامين، تستمر أصوات الانفجارات ويستمر النزوح.
المواجهة الراهنة ليست حدثاً معزولاً. ففي يوليو الماضي، اندلعت موجة قتال سريعة أسفرت عن مقتل 43 شخصاً خلال خمسة أيام فقط، قبل أن يتدخل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حينها، بوساطات مكثفة شملت اتصالات وتهديدات بتجميد محادثات تجارية، ما دفع الطرفين إلى توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار في كوالالمبور في 26 أكتوبر.
الاتفاق، الذي وصفه ترامب بأنه «تاريخي»، تضمن سحب الأسلحة الثقيلة من المنطقة المتنازع عليها وتشكيل فريق مراقبة مؤقت، وكان من المفترض أن تتبعه خطوات إضافية تشمل إطلاق سراح أسرى وفتح مسارات عسكرية لخفض التصعيد.
لكن الاتفاق لم يصمد، حيث أسفر انفجار لغم أرضي في نوفمبر عن إصابة جنود تايلانديين، فقررت بانكوك تعليق العمل به، موجهة أصابع الاتهام إلى كمبوديا بزراعة ألغام جديدة، في حين ترد بنوم بنه بأن الألغام «من مخلفات حروب قديمة»، هذا التعليق أعاد كل شيء إلى نقطة البداية، وأحيا الخلاف الحدودي الطويل الممتد على أكثر من 800 كيلومتر من الخطوط الملتبسة، حيث تتداخل الخرائط القديمة وتتقاطع المطامع الحديثة.
القضية الأكثر حساسية في هذا النزاع هي ملف المعابد القديمة، وعلى رأسها معبد برياه فيهير المدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو، والذي تصاعد الخلاف حوله منذ 2008، عندما سعت كمبوديا لتسجيله باعتباره معلماً خاصاً بها، بينما تقول تايلاند إن المعبد يقع داخل منطقة لم يُحسم ترسيمها.
الاشتباكات الحالية أعادت إحياء ذاكرة قديمة لمنطقة لم تعرف استقراراً كاملاً منذ عقود. الحدود بين البلدين لم تُرسم بشكل دقيق بعد خروج الفرنسيين من كمبوديا، وظلت خطوطاً غامضة على خرائط متداخلة. كل حكومة تفسر الخرائط بطريقة مختلفة، وتبني عليها مطالبها. وعندما دخلت المواقع الأثرية في قلب الخلاف، اكتسب الملف حساسية سياسية وطنية دفعت بكثير من الأصوات القومية في البلدين إلى تبني خطاب متشدد، ما جعل أي تنازل يبدو وكأنه «خيانة» وطنية.
في اشتباكات الأيام الأخيرة، تحدثت وزارة الثقافة الكمبودية عن «أضرار» لحقت بموقع تاريخي آخر هو معبد تا كرابي، واتهمت القوات التايلاندية باستهدافه، فيما حذرت اليونسكو، من جانبها، من مخاطر جسيمة على التراث الإنساني وتؤكد أنها زوّدت الطرفين بإحداثيات المواقع الأثرية لتجنب إصابتها.
بالمقابل، يزيد المشهد العسكري تعقيد الأزمة، فالجيشان يستخدمان المدفعية الثقيلة، وقاذفات الصواريخ، والطائرات المسيّرة التي تحمل قنابل وأخرى تنفجر ذاتياً، وتتحدث تقارير محلية عن استخدام تايلاند مقاتلات إف-16 لقصف مواقع داخل كمبوديا، بينما تقول بانكوك إن كمبوديا أطلقت صواريخ على مقاطعات تايلاندية حدودية، وفي الوقت نفسه، يدور نزاع معلوماتي كل طرف يصرّ على أنه لم يبدأ الهجوم، وأنه فقط «يرد على اعتداء» من الجهة الأخرى.
سياسياً، القضية باتت جزءاً من سباق النفوذ الدولي في المنطقة، واشنطن، عبر الرئيس ترامب ووزير الخارجية ماركو روبيو، تضغط لعودة الطرفين إلى اتفاق السلام، مع تشديد على «حماية المدنيين ووقف العمليات العسكرية»، في حين تلعب ماليزيا، التي ترأس آسيان، دور الوسيط وتدعو إلى «أقصى درجات ضبط النفس»، أما الصين فتراقب بدقة، وتُفهم كمبوديا على أنها لن تسمح بانهيار الاستقرار في منطقة لها فيها مصالح استراتيجية، وبين هؤلاء، تشعر تايلاند وكمبوديا أن ما يُطلب منهما أكبر من قدرتهما على الالتزام في ظل نزاع حدودي متجذّر ومشهد داخلي متوتر لدى الطرفين.
موقف القيادة التايلاندية يحمل قدراً من الحذر، حيث صرح رئيس الوزراء أنوتين شارنفيراكول بأن مجرد مكالمة هاتفية من ترامب «لا تكفي لمعالجة الأسباب الحقيقية للتصعيد»، وإنه يريد «اجتماعاً يبحث تفاصيل محددة»، هذا الفتور يعكس انزعاجاً في بانكوك من الضغوط الخارجية، كما يشير إلى رغبة في إدارة النزاع بطريقة تمنح الجيش مساحة مناورة.
على الجانب الآخر، يبرز صوت هون سين، رئيس الوزراء الكمبودي السابق والرجل الأكثر تأثيراً في السياسة الكمبودية، الذي يقول إن بلاده «تريد السلام ولكنها مضطرة للقتال دفاعاً عن أراضيها»، ورغم أن ابنه هون مانيه هو رئيس الوزراء حالياً، فإن مواقف هون سين لا تزال ترسم حدود القرار، إذ جاء خطابه الأخير حاداً وحاسماً: «لن نتراجع»، مؤكداً أن كمبوديا لم ترد على الهجمات في البداية «احتراماً لوقف إطلاق النار»، لكنها اضطرت للرد لاحقاً. من جهتها، تؤكد بانكوك أن «العمليات الدفاعية ستستمر حتى تتوقف الهجمات الكمبودية»، ما يعني أن الطرفين لا يريان في الوقت الراهن أي فرصة لهدنة.
في الوقت الراهن، تبدو الوساطة الدولية الطريق الوحيد المتاح لكسر حلقة النار هذه. الولايات المتحدة تحاول استعادة دورها، لكن مناخ الثقة بين واشنطن وبانكوك لم يعد كما كان، أما آسيان، رغم جهودها، فتبدو عاجزة عن فرض حلول في نزاع يختزن طبقات من التاريخ والسياسة والعسكر. الصين، بقوتها الإقليمية، قادرة على التأثير في كمبوديا، لكنها لا تبدو راغبة في الدخول في خلاف علني مع تايلاند. هذا كله يضع النزاع في مساحة رمادية، حيث يضطر المدنيون لدفع الثمن بينما ينتظر الجيشان ما ستقرره العواصم.
هذا التصعيد أجبر مئات الآلاف من المدنيين على الهروب، وتقدّر السلطات الإنسانية أن أكثر من 600 ألف شخص نزحوا في البلدين، بعضهم لجأ إلى جامعات وحرم معابد ومدارس تحوّلت خلال ساعات إلى ملاجئ مؤقتة.
على الأرض، يعيش آلاف النازحين مشهداً مكرراً من المعاناة. في جامعة بمدينة سورين في شمال شرق تايلاند، تنتشر آلاف الحصائر والخيام الصغيرة في ساحات مفتوحة وغرف صفية قديمة، رجال ونساء وأطفال يحاولون استعادة أنفاسهم بعدما تركوا كل شيء خلفهم، ومزارعون لم يكد موسم الحصاد يبدأ لديهم يجدون أنفسهم فجأة بلا أرض وبلا مأوى.
وفي كمبوديا، مشاهد مشابهة، أكثر من 55 ألف شخص نُقلوا إلى مراكز إيواء، بعضهم يحمل أطفالاً رُضّعاً، وآخرون روى لهم القدر قصة حياة متكررة عنوانها «الهروب من القصف».
حتى هذه اللحظة، لا توجد إشارات حقيقية إلى نية في تهدئة فورية. التصريحات الرسمية متصلبة، والاتهامات المتبادلة لا تهدأ، والضربات العسكرية تتسع رقعتها. الاتصالات التي وعد بها ترامب، رغم أهميتها، لن تكون كافية ما لم يرافقها التزام واضح من الطرفين بتجميد العمليات على الأرض. وفي حال فشلت هذه الوساطة الجديدة، ستجد المنطقة نفسها أمام خطر تصعيد أكبر قد يجرّ دولاً إقليمية نحو دور «الحكم الإجباري».

