شؤون آسيوية – كوالالمبور – خاص –
استضافت العاصمة الماليزية كوالالمبور جولة جديدة من المحادثات التجارية التي تجمع كبار المفاوضين من الولايات المتحدة والصين.
الجولة الجديدة التي انطلقت السبت، كما أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية ووسائل الإعلام الصينية الرسمية، تأتي قبل اجتماع مهم بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ، اجتماعُ قد لا يتخذ شكل ابتسامات دبلوماسية فحسب، بل قد يحمل مفاجآت ثقيلة الوزن في الملفات التجارية والأمنية.
وتهدف هذه المحادثات لتهدئة التوترات والحد من التصعيد في حرب تجارية أنهكت اقتصادي البلدين.
محدثات بناءة
خلال الجلسات الأولى، وصفت وزارة الخزانة الأمريكية المحادثات بأنها “بناءة، وشاملة، وعميقة”، مشيراً إلى أن النقاش يشمل ملفات حساسة: مشتريات المنتجات الزراعية، المعادن النادرة، ضوابط التكنولوجيا، تطبيق تيك توك، تهريب الفنتانيل، وتوسيع فرص الشركات الأميركية، والتوصل إلى إطار عمل “ناجح للغاية”، على حد تعبير بيسنت.
ومع ذلك، يرى المفاوضون أن الطريق أصبح ممهداً لعقد اجتماع “مثمر للغاية” بين ترامب وشي يوم الخميس المقبل على هامش قمة “أبيك” في كوريا الجنوبية، فيما يؤكد آخرون أن اللحظة مناسبة لوقف نزيف الرسوم، ولو مؤقتًا.
ضغوط متبادلة
نقاط الخلاف ليست جديدة، فواشنطن تصعّد بتهديدات متكررة ورسوم قد تصل إلى 100% على السلع الصينية من الأول من نوفمبر، والصين ترد بحرب من نوع آخر، تقييد صادرات المعادن الأرضية النادرة والمغناطيسات الحيوية لصناعة التكنولوجيا والسلاح.
مجلة “إيكونوميست” البريطانية رأت أن بكين “تعلمت فن الرد بالمثل”، بل إنها أصبحت تختبر قواعد تجارة عابرة للحدود تغيّر مسار الاقتصاد العالمي، وهذه الاستراتيجية سمتها المجلة بـ”الهيمنة التصعيدية”، بمعنى لا نريد الحرب، لكننا لسنا خائفين منها.
الصين امتنعت أيضاً عن شراء فول الصويا الأميركي، الأمر الذي شكل ضربة موجعة للولايات الأميركية الزراعية التي لا تخفي وزنها الانتخابي، كما هددت بفتح ملفات احتكارية لشركات أميركية عملاقة مثل “غوغل” و”كوالكوم” و”إنفيديا”، في حال لعبت واشنطن بورقة أشباه الموصلات.
ملف الأدوية
إحدى أكثر الأوراق حساسية لا تتعلق بالمغناطيسات ولا الرقاقات، بل بالأدوية، ففي تقرير لـ”بلومبيرغ” كشف عن الهيمنة الصينية على المكونات الصيدلانية الفعالة التي يعتمد عليها نحو 700 دواء أميركي.
وأوضحت بلومبرغ أن إحكام الصين قبضها على المعادن النادرة يمنحها نفوذًا غير مسبوق لانتزاع تنازلات من واشنطن خلال المحادثات الجارية في كوالالمبور، ووفقاً لمفاوضين تجاريين سابقين، نقلت عنهم الوكالة، فإن اعتماد واشنطن على بكين في هذه الصادرات يشكل خطراً كبيراً لا يمكن تجاهله، على الرغم أن الصين لم تهدد حتى الآن بإمدادات الأدوية.
تايوان.. بند حساس
من بين البنود المحتملة على جدول الأعمال، سياسة الولايات المتحدة تجاه تايوان، ومن جهتها تضغط بكين لانتزاع تصريح أميركي يعارض استقلال الجزيرة، فيما تكرر واشنطن موقفها التقليدي: “لا ندعم الاستقلال”، مع الاحتفاظ بعلاقات دفاعية وسياسية فاعلة مع تايبيه، وهذا ما تراه بكين تدخلاً وسيادة منقوصة، وتراه واشنطن جزء من استراتيجية ردع القوى الصاعدة.
هدنة بعد هدنة
منذ مايو الماضي عقدت أربع جولات محادثات بين الفرق الاقتصادية في جنيف، لندن، ستوكهولم، وجلسات أخرى افتراضية، أثمرت هدنة مدتها 90 يوماً تم تمديدها مرة أخرى.
الرسوم الأميركية انخفضت من 145% إلى 30%، مقابل خفض الصين رسومها من 125% إلى 10%.
بعدها جاءت واشنطن بقائمة تصدير سوداء جديدة تشمل آلاف الشركات الصينية، لترد بعدها بكين بقرارات تقييدية للمعادن النادرة.
وعلى الرغم من ذلك برهنت الجولات السابقة على قدرة الجانبين على إدارة الخلافات وإيجاد أرضية مشتركة للتعاون، وانطلاق المحادثات في ماليزيا يرسل رسالة مفادها أن الحوار الاقتصادي لا يزال السبيل المفضل لدى الطرفين لمعالجة الخلافات التجارية
لماذا ماليزيا؟
اختيار ماليزيا ليس اعتباطياً، فهي دولة محايدة نسبياً، عضو فاعل في آسيا التجارية، وتستضيف قمة آسيان التي تجمع عشرات القادة والمسؤولين، إضافة إلى أن اختيار كوالالبور يعكس رغبة الطرفين في منح القضايا الاقتصادية والتجارية أولوية، بما يمهد لتفاعل دبلوماسي أرفع مستوى بين بكين وواشنطن.
كما أن زيارة ترامب الآسيوية، وهي الأطول منذ عودته إلى البيت الأبيض، تهدف عملياً إلى إعادة ترسيخ النفوذ الاقتصادي الأميركي في منطقة تتسارع نحو الصين، الزيارة التي بدأها من ماليزيا وسيتابع بعدها إلى اليابان وكوريا الجنوبية، مع لقاء مرتقب بالرئيس الصيني شي جين بينغ خلال قمة «أبيك».
من يملك زمام المبادرة
السوق الصيني صمد أمام التصعيد وحقق نمواً في الصادرات يتجاوز 8% رغم انخفاض صادراته لأميركا، ومؤشراته المالية ارتفعت 34% بالدولار هذا العام — ضعف نمو وول ستريت، بالمقابل، تواجه الولايات المتحدة ضغوط انتخابية واقتصادية داخلية في قطاعات الزراعة والصناعة والتكنولوجيا.
والصين تستخدم قوتها الصناعية وسلاسل التوريد طويلة الجذور كورقة ردع، أما الولايات المتحدة فتراهن على العقوبات المالية والتفوق التكنولوجي.
المفاوضون يدركون أن القمة الرئاسية في كوريا الجنوبية قد تكون لحظة مفترق طريق، إما اتفاق يمدد الهدنة ويمنح الأسواق جرعة طمأنينة، أو سقوط آخر جدار حماية وعودة نيران الرسوم الجمركية إلى الاشتعال.
العالم يراقب
المحادثات في ماليزيا مستمرة حتى يوم الاثنين، أما التفاصيل التي ستُعلن بعد لقاء الخميس في كوريا الجنوبية، فهي ستحدد ما إذا كان هذا التقرير جزءاً من مرحلة التهدئة، أم مقدمة لفصل جديد من التصعيد.

