شؤون آسيوية – إعداد: رغد خضور –
مع إعلان مجموعة البنك الدولي أن التنمية الزراعية يمكن أن تساهم في إنهاء الفقر المدقع وتعزيز الرخاء المشترك وتوفير الغذاء لنحو عشرة مليارات شخص بحلول عام 2050، بدأت العديد من الدول تولي اهتماماً كبيراً في هذا الجانب وتضع خططها الاستراتيجية لتحقيق التنمية الريفية.
وتعد الزراعة جانباً مهماً للنمو الاقتصادي إذ تشكل حوالي 4% من إجمالي الناتج المحلي العالمي، وفي بعض البلدان يمكن أن تشكل أكثر من 25% من إجمالي الناتج المحلي، وعليه تهدف التنمية الريفيّة إلى تطوير الحياة في الريف، والتحسين من نوعيتها، وتقديم الدعم الاقتصادي للأفراد الذين يعيشون في المناطق الريفيّة.
كل هذا دفع الصين إلى الاهتمام بهذا القطاع لتحقيق التنمية الشاملة للبلاد، حيث أصدرت حزمة من الإجراءات ووثيقة تركزّ على الزراعة والمناطق الريفية والمزارعين.
النموذج الصيني..
حضر اسم الصين بقوّة في ملف التنمية الريفية، فهي تُعَدّ من أكبر الدول الزراعية في العالم، إذ يمثّل المزارعون نحو 40% من سكّانها، البالغ عددهم نحو 1.4 مليار نسمة، كما تُعد أكبر منتج زراعي في العالم، حيث حافظت على إنتاج أكثر من 650 مليون طن من الغذاء لمدة 8 سنوات متتالية.
وتدرك بكين أن عملية تحديث البلاد وتنميتها لا تزال شاقة وصعبة بسبب الأرياف، لذا، وضعت السلطات حل القضايا المتعلقة بالزراعة والمناطق الريفية والمزارعين على رأس أولوياتها، لأنه يؤثر بشكل مباشر في الاقتصاد الوطني للبلاد وفي معيشة المواطنين، وبدأت العمل في هذا الملف منذ عدة سنوات.
وحسب الإحصائيات يعيش 75% من فقراء العالم في المناطق الريفية، ويعتمد معظمهم على الزراعة لكسب عيشهم. وقد ساهم تطبيق إستراتيجية “النهضة الريفية” وتطوير الزراعة على انتشال ما يقارب 100 مليون شخص من براثن الفقر في الصين، وقدم مساهمة كبيرة في الحد من الفقر في العالم.
الوثيقة المركزية رقم (1)..
تهدف الصين إلى تحقيق تقدم كبير في النهوض الريفي الشامل وتعزيز تحديث الزراعة والمناطق الريفية إلى مرحلة جديدة بحلول عام 2027، وذلك وفقاً لخطة صدرت عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ومجلس الدولة الصيني.
ومع إصدار “الوثيقة المركزية رقم 1” لعام 2025، تؤكد بكين مرة أخرى التزامها بتحقيق النهوض الريفي الشامل، وهو هدف استراتيجي لا يقتصر فقط على تعزيز الاقتصاد الزراعي، بل يمتد ليشمل تحسين جودة الحياة في المناطق الريفية وضمان استدامة التنمية على المدى الطويل.
ووفقاً للمسؤول بوزارة الزراعة والشؤون الريفية، وانغ جين تشن، كشفت الوثيقة عن المزيد من التدابير الداعمة في هذا المجال، حيث ستواصل الصين تعزيز قدرتها على تأمين إمدادات الحبوب وغيرها من المنتجات الزراعية المهمة، وتكثيف جهود الابتكار في صناعة البذور، وتعزيز حماية الأراضي الزراعية، إلى جانب تنمية الصناعات المحلية، ودفع البناء الريفي، وتحسين نظام الحوكمة الريفية، ونظام تخصيص الموارد الريفية.
وحددت الوثيقة هدف ضمان استقرار المساحات المزروعة بالحبوب عند حوالي 1.75 مليار مو (حوالي 117 مليون هكتار)، كما دعت إلى بذل الجهود لتعزيز الزيادة المستقرة في قدرة إنتاج الحبوب لتصل إلى نحو 1.4 تريليون جين (700 مليار طن).
وستتولى المناطق المتقدمة شرقي البلاد وقرى الضواحي في المدن في المناطق وسط وغرب البلاد، حيث تسمح الظروف، زمام المبادرة فيما يتعلق بتحقيق التحديث الزراعي والريفي بحلول عام 2027، وفقا للخطة.
وبحلول 2035، سيجري إحراز تقدم حاسم في النهوض الشامل للمناطق الريفية، مع تحقيق التحديث الزراعي بشكل أساسي وتوفير الظروف الأساسية للعيش على الطريقة الحديثة في المناطق الريفية، بحسب الخطة.
خارطة طريق..
وعلى الرغم من التطور الذي شهدته الصين على مدى العقود الماضية، لا تزال الزراعة تؤدي دوراً رئيسياً في اقتصاد البلاد، حيث تبرز أهميتها في إنتاج الغذاء الذي يعد أمراً أساسياً وضرورياً لبقاء الإنسان وتأمين الأمن والاستقرار الاجتماعي.
لذا تعد الوثيقة بمثابة خريطة طريق للسياسات الصينية، وتأكيداً ضمنياً على أن الصين لن تتخلى عن أهدافها التاريخية بأن تكون الزراعة على رأس أولوياتها؛ وذلك لإيمانها بأنها ملتزمة أمام شعبها بتوفير الغذاء والحياة الرغيدة لكافة المستويات المعيشية.
وبالإضافة إلى أهمية ضمان أمن البذور وضرورة الاحتفاظ بالموارد في أيدي الصينيين، وتحقيق الاعتماد على الذات، تسعى الصين إلى إلى تحسين بناء البنية التحتية الزراعية ودعم العلوم والتكنولوجيا والمعدات الزراعية، بهدف تعزيز قدرتها على الاكتفاء الذاتي الغذائي لمواجهة عدم اليقين الناجم عن البيئة الخارجية وضمان الأمن الغذائي للصين وتحسين معيشة المزارعين من خلال دفع النهضة الريفية.
استراتيجية العمل الصينية..
الأساس الذي ارتكزت عليه التجربة الصينية، التي صمدت أمام تحديات عالمية عديدة، هو إعطائها الأولويّة للأمن الغذائي، ورسمها خطّاً أحمر على كل القضايا المتعلّقة بالزراعة والمناطق الريفيّة والمزارع حيث لا مجال لخطأ، وهذه الاستراتيجيّة تبدو اليوم أكثر إلحاحاً على مستوى العالم من أجل ضمان الأمن الغذائي ومنع انتشار الفقر على نطاق واسع.
فالصين لا تنظر إلى النهوض الريفي على أنه مجرد تحسين للبنية التحتية أو زيادة الإنتاج الزراعي، بل تسعى إلى إعادة تعريف دور الريف في الاقتصاد الوطني، فالسياسات الجديدة تدمج بين تحسين مستويات المعيشة، وتعزيز الصناعات المحلية، وتوسيع نطاق السياحة الريفية، وتطوير نماذج أعمال جديدة.
والتحديث الصيني النمط، لا ينفصل عن التحديث الزراعي والريفي، وفي هذا الجانب أشار الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى ضرورة بناء النظام الصناعي الريفي بالاستناد على تطوير الزراعة الحديثة والتنمية المتكاملة للصناعات الأولية والثانوية والثالثية في المناطق الريفية.
فمن خلال تركيز الوثيقة على أهمية تطوير قوى إنتاجية عالية الجودة في القطاع الزراعي والابتكار العلمي والتكنولوجي في هذا المجال، حققت المناطق الريفية في جميع أنحاء الصين تقدما مطردا في متابعة النهضة الريفية من خلال تنمية الصناعات ذات الخصائص المحلية، بدعم من مبادرات سياسية قوية من الحكومة.
النهوض الريفي..
أهم المفاهيم التي تقوم عليها فكرة التنمية في الصين أنه لا يمكن للتنمية أن تولد إلا بعمل واع ومدروس ومنسّق للسيطرة على الصيرورة الاقتصادية والاجتماعية، كما أن معجزة الصين في تحقيق النهضة والنهوض لم تقتصر على بناء اقتصاد قوي زراعي وصناعي، بل كان الشعب الصيني جزءا كبيرا من هذا الاقتصاد، وذلك وفقا لمبدأ أنه لا دولة قوية بشعب جائع.
الصين عملت على تعزيز تخطيط الصناعات الريفية مع توسيع البنية التحتية الحضرية والخدمات العامة الأساسية لتشمل المناطق الريفية، بالإضافة إلى تحسين وظائف الخدمة الشاملة للمقاطعة وبناء منصات للبحث والتطوير التكنولوجي وتدريب المواهب وتسويق المنتجات.
واستناداً إلى موارد كل مقاطعة، تم تسليط الضوء على الصناعات الرائدة، وذلك من أجل بناء عدد من المجمعات الصناعية الزراعية الحديثة ومدن للصناعات الزراعية القوية، مع إنشاء مجمعات تجريبية للتنمية المتكاملة للصناعة الريفية.
التكامل في وويوان..
هناك نماذج كثيرة أثبتت جدارة التجربة الصينية، منها مدينة وويوان، التي تعد مثالاً بارزاً على كيفية قيام الصين بتغيير حياة سكان الريف عن طريق تخفيف حدة الفقر وجهود النهوض الريفي.
وكانت المقاطعة، التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 300000 نسمة، في حالة ركود اقتصادي، إلا أنها شهدت تحولاً ملحوظاً من خلال الإصلاح الزراعي والتخفيف من حدة الفقر وتحديث البنية التحتية.
وويوان تبنت نموذج تطوير “التكامل بين الزراعة والسياحة”، حيث جمعت بين الزراعة التقليدية والسياحة لتطوير صناعات مميزة مثل زراعة بذور اللفت والأقحوان، الأمر الذي حفز نمو النزل الريفية، ما رفع متوسط دخل الفرد السنوي إلى أكثر من 26000 يوان (حوالي 3626 دولارا أمريكيا) في عام 2023.
كما تعمل وويوان على تحويل مواردها المحلية إلى صناعة سياحية مزدهرة ومتنوعة، وعلى سبيل المثال، أصبح مركز تعليم الطبيعة الذي تديره مجموعة من الخريجين الشباب بمتوسط أعمار أقل من 30 عاما، وجهة رائجة، حيث يقوم المشاركون المتحمسون بحجز أماكنهم قبل ثلاثة أشهر.
التعاون بين الشرق والغرب..
تعد بلدة مين نينغ في محافظة يونغنينغ بمنطقة نينغشيا ذاتية الحكم لقومية هوي، نموذجاً ناجحاً للتعاون بين الشرق والغرب في التخفيف من حدة الفقر، الذي تم طرحه من قبل الرئيس الصيني شي جين بينغ.
فمنذ المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني، قامت بلدة مين نينغ بتوسيع عمق التعاون بين مقاطعتي فوجيان ونينغشيا، حيث ابتكرت أساليب التعاون وعززت بشكل فعال التنشيط الشامل للمناطق الريفية حول الإصلاحات الزراعية والريفية.
وفي ورشة عمل بالبلدة، تعمل العشرات من العاملات على تشغيل آلات الخياطة بمهارة، وهذه الشركة، التي يقع مقرها في مقاطعة فوجيان، واحدة من أولى الشركات التي استجابت لنداء مساعدة منطقة نينغشيا وبناء مصنع في بلدة مين نينغ.
المديرة العامة هوانغ تشي تشاو ذكرت أن أكثر من 100 عاملة مستقرة تعمل في المصنع، الأمر الذي خلق، بشكل غير مباشر، أكثر من 500 فرصة عمل.
وجنوب بلدة مين نينغ، أُنشئ 16 مصنع في صحراء جوبي، كما تعد حديقة فوجيان-نينغشيا الصناعية إنجازٌ آخر ناجح للتعاون بين فوجيان ونينغشيا.
القطارات البطيئة..
تعد القطارات منخفضة السرعة، التي تسير في أعماق الجبال، مثالاً للمناطق الريفية في الصين التي تستقل “القطار السريع” للتخلص من الفقر، وبفضل ثمانية أعوام من العمل المتواصل، تخلص نحو 100 مليون شخص من الفقر، جميعهم من أبناء الريف الفقراء، وانتشلت جميع المحافظات الـ832 الفقيرة من دائرة الفقر، وبهذا تكون الصين قد حققت نصراً حاسماً في معركة القضاء على الفقر.
وبالإضافة إلى القطارات البطيئة، تساهم التحسينات التي شهدتها البنية التحتية، ولا سيما توسيع شبكات السكك الحديدية فائقة السرعة، في تسريع وتيرة عملية النهوض الريفي.
وعلى الرغم من أن التطور المستمر بشبكة السكك الحديدية فائقة السرعة عزز اتصال المجتمعات الريفية، إلا أن القطارات البطيئة الخيرية ستبقى في الخدمة.
تجربة تستحق الدراسة..
أدركت الصين باكراً جداً أنه لا تفوق على الصعيد العالمي بدون تنمية داخلية، ولا تنمية داخلية مع أفراد جائعين، لذا عملت على تخليص سكانها من الفقر، وتحديداً في الأرياف النائية، كي تشكّل مجتمعاً منسجماً على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. وهو ما يُشكّل تجربة تستحق الدراسة بشكل مفصّل، خاصة في عالمنا العربي، للنهوض بواقع شعوبنا.
الصين حققت الأهداف التي حددتها أجندة الأمم المتحدة 2030 للتنمية المستدامة قبل الموعد المقرر بعشرة أعوام، لكن القضاء على الفقر لا يزال أحد أكبر التحديات العالمية التي يواجها العالم اليوم.
ومن بلد تلقى المساعدات إلى بلد يقدم المساعدات، فإن الصين مستعدة للعمل مع دول العالم لدفع الحد من الفقر عالمياً وتعزيز بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية، كما أنها ترحب بجميع الدول لاستقلال “القطار السريع” للتنمية الصينية.