شؤون آسيوية – بكين – إعداد: رغد خضور –

شهدت العاصمة الصينية بكين أجواء احتفالية وتاريخية كبرى بمناسبة إحياء الذكرى الـ80 للانتصار في حرب المقاومة الشعبية الصينية ضد العدوان الياباني، والانتصار العالمي على الفاشية في الحرب العالمية الثانية.

وامتلأ ميدان تيان آن وسط العاصمة بآلاف الجنود والمواطنين وضيوف الصين من مختلف أنحاء العالم، في احتفال جمع بين الرمزية الوطنية والعرض العسكري المهيب والرسائل السياسية العميقة التي حملها خطاب الرئيس الصيني شي جين بينغ.

خطاب تاريخي

في مستهل الفعاليات، ألقى الرئيس الصيني شي جين بينغ خطاباً وصف بالتاريخي أمام التجمع الكبير الذي احتشد في ميدان تيان آن من.

وأكد شي، وهو الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ورئيس اللجنة العسكرية المركزية، أن “إحياء نهضة الأمة الصينية لا يمكن إيقافه”، مشدداً على أن انتصار الشعب الصيني في حرب المقاومة الشعبية ضد العدوان الياباني لم يكن مجرد إنجاز عسكري، بل محطة مفصلية في مسيرة الصين نحو الاستقلال والكرامة الوطنية.

وأوضح شي أن حرب المقاومة، التي استمرت 14 عاماً، مثلت أول انتصار كامل للصين ضد العدوان الأجنبي في العصر الحديث، مشيراً إلى أن هذا النصر تحقق بفضل الجبهة الوطنية الموحدة ضد العدوان التي قادها الحزب الشيوعي الصيني، وبفضل التضحيات الهائلة للشعب الصيني الذي قدم مساهمة كبرى في الدفاع عن الحضارة الإنسانية والسلام العالمي.

وأضاف الرئيس الصيني أن الإنسانية اليوم تقف مجدداً أمام خيارات كبرى بين الحرب والسلام، والحوار والمواجهة، والتعاون المشترك أو منطق “المحصلة الصفرية”، مؤكداً أن الصين ستظل تقف “على الجانب الصحيح من التاريخ”، متمسكة بطريق التنمية السلمية، وساعية مع دول العالم إلى بناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية.

تحية لقدامى المحاربين

ولم تخلُ كلمات شي من إشارات إلى الدور التاريخي للجيش والشعب في تلك الحرب، حيث شدد على ضرورة بقاء جيش التحرير الشعبي قوة عالمية المستوى قادرة على حماية السيادة الوطنية ووحدة الأراضي الصينية.

وطالب الجيش بأن يقدم دعماً استراتيجياً لنهضة الأمة، ويسهم في تعزيز السلام والتنمية على الصعيدين الإقليمي والعالمي.

وصعد شي إلى منصة تيان آن من وصافح عدداً من قدامى المحاربين الذين شاركوا في الحرب، في مشهد رمزي مؤثر أكد التقدير العميق للتضحيات التي قدمها جيل المقاومة.

طلقات مدفعية وحمائم السلام

بدأت الفعاليات بتحية مدفعية مؤلفة من 80 طلقة، مع رفع العلم الوطني على وقع النشيد الوطني “مسيرة المتطوعين”، الذي تم تأليفه في زمن الحرب.

واختتمت الفعاليات بإطلاق 80 ألف حمامة و80 ألف بالون في سماء بكين، كرمز للسلام والحرية والأمل، بينما كانت تصدح الأغنية الوطنية “قصيدة للوطن الأم” وسط تصفيق الحشود.

عرض عسكري ضخم

أبرز ما ميّز الاحتفال كان العرض العسكري الضخم الذي نظم في ميدان تيان آن من، حيث استعرض الرئيس شي جين بينغ القوات وهو واقف في سيارة ليموزين من طراز “هونغتشي”، ملوحاً للأعلام الوطنية والعسكرية، ومحيياً الجنود بعبارة: “مرحبا يا رفاق”، ليجيبه الجنود بصوت واحد: “مرحبا رئيس”.

تضمن العرض تشكيلات راجلة محكمة الانضباط، وحرس الشرف وهو يرفع أعلام الحزب والوطن وجيش التحرير الشعبي.

كما شاركت في الاستعراض للمرة الأولى قوات الفضاء الجوي، وقوات الفضاء السيبراني، وقوات الدعم المعلوماتي، في إشارة إلى تطور القدرات الدفاعية الصينية في المجالات الحديثة.

كما عرضت تشكيلات من القوات الصاروخية، والدبابات، والطائرات المقاتلة، والمروحيات، والطائرات المسيّرة، والصواريخ العابرة للقارات، في مشهد أظهر القوة العسكرية المتنامية للصين.

مشهد جوي مهيب ورموز رقمية

رافق العرض البري استعراض جوي مثير، حيث حلق سرب من الطائرات في تشكيل يحمل أعلام الحزب الشيوعي الصيني، وجمهورية الصين الشعبية، وجيش التحرير الشعبي، وتبع ذلك سرب آخر مكون من 26 مروحية شكّل في السماء رقمي 8 و0، في إشارة رمزية للذكرى الـ80 للنصر.

كما حلقت ثلاث مروحيات حاملة لافتات ضخمة كتب عليها شعارات: “النصر للعدالة”، “النصر للسلام”، و”النصر للشعب”.

وفي ختام العرض، قدمت سبع طائرات استعراضية من طراز جيه-10 عرضاً جوياً تخلله 14 خطاً من الدخان الملون، في دلالة على أعوام الحرب الـ14 وعلى تطلعات 1.4 مليار صيني لمستقبل مشرق.

حضور دولي ورسائل خارجية

قبل انطلاق الفعاليات، استقبل الرئيس شي جين بينغ وعقيلته بنغ لي يوان رؤساء الوفود الأجنبية وأزواجهم، الذين شاركوا في الاحتفال، في مشهد أبرز البعد الدولي للذكرى، إذ حرصت بكين على أن تُظهر للعالم أن انتصارها على العدوان الياباني كان جزءاً لا يتجزأ من الانتصار العالمي على الفاشية، وأن الصين كانت وما تزال قوة دافعة من أجل السلام.

في سياق متصل، عُقدت في بكين ندوة خاصة بمشاركة 340 شخصية، بينهم ممثلون من هونغ كونغ وماكاو وتايوان وصينيون مقيمون في الخارج، حيث أكد وانغ هو نينغ، عضو اللجنة الدائمة للمكتب السياسي ورئيس المجلس الوطني للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني، أن الانتصار يمثل “ذكريات مشتركة للأمة الصينية وشرفاً لجميع الصينيين”، مشيداً بمساهمات أبناء الوطن في الداخل والخارج في بناء الجبهة الموحدة المناهضة للفاشية.

وشدد وانغ على أهمية استمرار روح المقاومة الوطنية، وتعزيز اندماج هونغ كونغ وماكاو في التنمية الشاملة للبلاد، والتمسك بمبدأ “صين واحدة” ورفض أي محاولات انفصالية في تايوان، مؤكداً أن ذلك يمثل امتداداً للانتصار التاريخي في الحرب ضد العدوان الياباني.

دلالات ورسائل

الاحتفال بالذكرى الـ80 حمل رسائل داخلية وخارجية في آن واحد، فعلى الصعيد الداخلي، كان مناسبة لإبراز وحدة الشعب والجيش والحزب تحت قيادة الحزب الشيوعي، والتأكيد على الثقة بالنهضة الوطنية التي وصفها شي بأنها “لا يمكن إيقافها”، أما خارجياً، فقد أرادت بكين أن تُذكّر العالم بأن مساهمتها في الحرب العالمية الثانية كانت أساسية في هزيمة الفاشية، وأنها اليوم مستعدة للعب دور مماثل في صون السلم العالمي.

كما جاء الاستعراض العسكري ليبعث برسالة قوة وردع، خصوصاً مع ظهور وحدات الفضاء السيبراني والجوي، في وقت تتصاعد فيه التوترات الجيوسياسية في شرق آسيا والمحيط الهادئ. لكنه حمل أيضاً رسالة سلمية واضحة تمثلت في إطلاق الحمائم والبالونات وشعارات “النصر للسلام”، لتؤكد الصين أن قوتها العسكرية هي من أجل الدفاع، لا العدوان.

بين الماضي والمستقبل

بإحياء هذه الذكرى، سعت الصين إلى وصل ماضيها الحافل بالتضحيات بمستقبلها المليء بالطموحات، فالحرب التي بدأت قبل ثمانية عقود وانتهت بانتصار باهظ التكاليف، أعادت إلى الصين مكانتها الدولية، فيما يشير الحاضر إلى أن الأمة التي صمدت في وجه الغزو والدمار، تسير اليوم بثقة نحو التحديث والنهضة.

وبينما كانت الطائرات ترسم في السماء خطوطاً ملونة، والجنود يهتفون “اتبع الحزب! كافح للفوز!”، بدا أن الرسالة التي أرادت بكين إيصالها للعالم واضحة: أن الصين الموحدة والقوية لا تسعى فقط لحماية أرضها وشعبها، بل أيضاً للإسهام في نظام عالمي أكثر عدلاً وسلاماً.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *