شؤون آسيوية – طرابلس – خاص –

تعيش العاصمة الليبية طرابلس منذ أسابيع على وقع توترات أمنية غير مسبوقة، مع تحشيدات عسكرية متصاعدة بين مجموعات مسلحة موالية لحكومة الوحدة الوطنية وأخرى مرتبطة بجهاز الردع التابع للمجلس الرئاسي.

وفي ظل هذا المشهد المعقد، تتقاطع مسارات محلية ودولية، بين مساعٍ أممية لاحتواء الأزمة، وضغوط شعبية متزايدة، وتدخلات إقليمية ودولية تسعى لإعادة رسم خريطة النفوذ في البلاد.

الحوار بديلاً عن السلاح

المتحدث باسم بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، محمد الأسعدي، أكد أن البعثة تعمل بالتنسيق مع المجلس الرئاسي ولجنتي الهدنة والترتيبات الأمنية لاحتواء التوتر في طرابلس، مشدداً على أن الهدف الأساسي هو حقن الدماء وحماية المدنيين.

وقال الأسعدي: “نسعى لدعم المفاوضات وتوفير الظروف اللازمة لتجنيب العاصمة شبح الحرب، فالحوار هو السبيل الوحيد للحل بعيداً عن لغة السلاح.”

وفي السياق، عقدت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، هانا تيتيه، اجتماعاً مع مجموعة من الأعيان ولجان التواصل من المنطقة الغربية، بحضور نائبتها للشؤون السياسية ستيفاني خوري.

اللقاء ضم ممثلين عن مدن طرابلس المركز، سوق الجمعة، تاجوراء، الزاوية، مصراتة، ورشفانة، الزنتان والجبل الغربي، في إطار مساعي البعثة لتعزيز الحوار المحلي ودعم جهود الاستقرار السياسي والأمني.

تيتيه أعربت عن قلقها العميق من الوضع الأمني الراهن، مؤكدة أن البعثة ملتزمة بدعم جهود المجلس الرئاسي للوصول إلى تسوية تفاوضية دون إراقة الدماء. وأضافت: “نؤمن بإمكانية الوصول إلى اتفاق دون إطلاق رصاصة واحدة.”

العاصمة تحت قبضة السلاح

على الأرض، تواصل المجموعات المسلحة تحشيد قواتها، حيث خرجت وحدات من معاقلها في الزاوية والزنتان، وأعادت تمركزها في محاور حيوية بطرابلس، وترافق ذلك مع إخلاء واسع لمعارض السيارات وإغلاق طرق رئيسية، ما جعل شوارع العاصمة أشبه بثكنة عسكرية.

ذروة التوتر جاءت بعد محاولة حكومة عبد الحميد الدبيبة فرض السيطرة على مجمع معيتيقة، الذي يضم المطار والقاعدة الجوية والمستشفى العسكري، لكن جهاز الردع رفض تسليم هذه المرافق. ومنذ ذلك الحين، يزداد الاحتقان الشعبي وسط دعوات للعصيان المدني الشامل إذا استمرت التحركات المسلحة داخل الأحياء المكتظة.

بعثة الأمم المتحدة حذرت من أن أي تصعيد سيكون كارثياً ليس فقط على طرابلس، بل على كامل البلاد.

في المقابل، لم تُفض اجتماعات المجلس الرئاسي، برئاسة محمد المنفي وحضور رئيس الحكومة الدبيبة وعدد من القيادات العسكرية، إلى اختراق يُذكر.

من اغتيال غنيوة إلى صراع معيتيقة

الكاتب محمد محفوظ أشار إلى أن جذور الأزمة تعود إلى اغتيال قائد جهاز دعم الاستقرار، غنيوة الككلي، في مايو الماضي، وهي الحادثة التي فجرت سلسلة من المواجهات بين قوات الحكومة وجهاز الردع.

المفاوضات الأخيرة تعثرت بسبب ملفات حساسة مثل السيطرة على مطار معيتيقة وتسليم السجناء، وفقاً لمحفوظ، الذي حذر من أن فشل التفاهمات قد يقود إلى كارثة إنسانية إذا اندلعت المواجهات في الأحياء المكتظة.

قوة جهاز الردع تنبع من سيطرته على قاعدة معيتيقة، التي تضم مستشفى عسكرياً ومطاراً مدنياً هو الوحيد في العاصمة بعد تدمير مطار طرابلس الدولي، إضافة إلى سجن ومقرات عسكرية، وهذا النفوذ جعل الجهاز لاعباً أساسياً في المشهد الأمني، وسط اتهامات بتلقيه دعماً خارجياً، خصوصاً من تركيا.

الانقسام يغذي التوتر

رمضان معيتيق، الباحث السياسي، يرى أن ما يجري في طرابلس هو انعكاس لانقسام سياسي ممتد منذ 2014، إذ يقول إن “المواجهات مؤجلة منذ أحداث مايو الماضي، لكن الضغط الشعبي يشكل صمام أمان لمنع الانزلاق إلى حرب مفتوحة.”

أما السنوسي إسماعيل، الباحث والمتحدث السابق باسم المجلس الأعلى للدولة، فيعتبر أن الدبيبة يحاول فرض سيطرته على العاصمة لتعزيز موقعه السياسي قبل الاستحقاقات المقبلة، لكنه يواجه رفضاً من المجلس الرئاسي ومجلس الدولة والبرلمان وحتى من الرأي العام داخل طرابلس.

في المقابل، حذر محمد السلاك، المتحدث السابق باسم المجلس الرئاسي، من أن الأزمة الحالية تمثل “قنبلة موقوتة” تهدد وحدة ليبيا وسلامتها الإقليمية، في ظل غياب سيطرة الحكومة وتنامي نفوذ الميليشيات المسلحة. وأوضح أن تراجع الاهتمام الدولي بالملف الليبي لصالح أزمات أخرى مثل أوكرانيا وغزة وسوريا، منح القوى المحلية مساحة أكبر لتعطيل الحلول السياسية.

خريطة طريق أممية جديدة

وسط هذه الأجواء، قدمت البعثة الأممية خريطة طريق سياسية جديدة إلى الجهات الليبية، تمهيداً لطرحها أمام مجلس الأمن في 21 أغسطس الجاري، وتستهدف الخطة وضع أساس قانوني ودستوري لإجراء انتخابات تنهي دوامة المراحل الانتقالية.

لكن أستاذ القانون مجدي الشبعاني اعتبر أن البعثة تدير الأزمة أكثر مما تسعى لإنهائها، متهماً إياها بالابتعاد عن الاستحقاقات الدستورية الشرعية مثل الاستفتاء على مشروع الدستور. ويرى أن محاولة إرضاء كل الأطراف غاية لا تُدرك، ما يطيل عمر الأزمة.

حفتر وابنه في المشهد

في موازاة ذلك، عيّن خليفة حفتر نجله صدام نائباً له في ما يُعرف بالقيادة العامة للجيش الليبي، وهذه الخطوة أثارت جدلاً واسعاً، ورآها مراقبون تمهيداً لترتيب المشهد العسكري وربما لتهيئة صدام لقيادة مستقبلية، حيث أشار الباحث محمد امطيريد إلى أن صدام يحظى بعلاقات إقليمية ودولية وبدأ بالفعل بلعب دور متقدم في الشرق.

إيطاليا بدورها دخلت على خط الوساطة، حيث كشفت تقارير عن لقاء غير معلن في روما جمع صدام حفتر بإبراهيم الدبيبة، مستشار الأمن القومي لرئيس حكومة الوحدة، بحضور مستشار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، مسعد بولس. اللقاء ناقش ملفات سياسية وعسكرية وطاقية، ويعكس محاولة أميركية ـ إيطالية لإيجاد سلطة موحدة عبر دمج الحكومتين في طرابلس وبنغازي.

الدبيبة بين ضغوط الداخل والخارج

على المستوى الداخلي، أصدر 40 نائباً في البرلمان بياناً دعوا فيه عبد الحميد الدبيبة إلى التنحي فوراً، متهمين إياه بالفساد والانقسام والاعتماد على الميليشيات للبقاء في الحكم. البيان أكد أن بقاءه لم يعد مقبولاً سياسياً ولا اجتماعياً، وأن مصلحة الوطن تقتضي فتح صفحة جديدة عبر توافق وطني جامع.

هذا التراجع في الحاضنة السياسية والشعبية للدبيبة ترافق مع مطالبات من سكان طرابلس الكبرى وتاجوراء والزاوية بمنحه مهلة 24 ساعة لإخلاء العاصمة من الميليشيات المسلحة، محملين المجتمع الدولي مسؤولية ما قد يحدث إذا اندلعت المواجهات.

صراع على النفوذ

المشهد الليبي بات ساحة مفتوحة لتقاطع مصالح دولية وإقليمية. تركيا عززت انفتاحها على معسكر حفتر، بعد استقبالها صدام حفتر في أبريل الماضي، وزيارة وفود عسكرية إلى بنغازي. كما تستعد أنقرة لاستقبال خليفة حفتر نفسه في زيارة رسمية مرتقبة.

إيطاليا، التي تحتفظ بعلاقات وثيقة مع حكومة طرابلس، كثفت انفتاحها على بنغازي، فيما دخلت واشنطن على الخط عبر مسعد بولس الذي طرح مشاريع اقتصادية ضخمة بقيمة 70 مليار دولار، في مؤشر على اهتمام أميركي متجدد بملف الطاقة الليبي.

مفترق طرق خطير

كل المؤشرات تؤكد أن ليبيا تقف أمام مفترق طرق: إما التوصل إلى تسوية سياسية تفتح الباب لانتخابات طال انتظارها، أو الانزلاق إلى مواجهة مسلحة قد تعصف بما تبقى من مؤسسات الدولة. وبينما يواصل المجتمع الدولي إطلاق بيانات القلق، يبقى السؤال الأهم: هل تنتصر الإرادة الوطنية على منطق السلاح؟

الوضع في طرابلس يعكس بدقة الأزمة الليبية الممتدة منذ أكثر من عقد: انقسام سياسي حاد، مؤسسات ضعيفة، سلاح منفلت، وتدخلات خارجية متشابكة. وفي ظل هذا المشهد، تبدو فرص الحل مرهونة بقدرة الليبيين على التوافق داخلياً، قبل انتظار وصفات الخارج.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *