شؤون آسيوية – الخرطوم –
دفعت التطورات في السودان، خاصة على محور الخرطوم ودارفور وكردفان، لتحركات دبلوماسية عاجلة، حيث أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن انخراط مباشر في ملف السودان للمرة الأولى منذ عودته إلى البيت الأبيض، استجابةً ـ حسب قوله ـ لطلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
وبينما تتسع دائرة الإدانة الغربية لانتهاكات قوات الدعم السريع، تتجه أوروبا إلى فرض عقوبات جديدة، فيما تتخذ بريطانيا موقفاً أكثر حزماً، بالمقابل، يتعاظم الجدل حول دور الإمارات وليبيا في إمداد قوات الدعم السريع بالسلاح والوقود.
انخراط أميركي
في خطوة فاجأت الكثير من المراقبين، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال منتدى أميركي–سعودي في واشنطن أنه سيبدأ العمل بشكل مباشر على إنهاء الحرب في السودان، بعد أن طلب منه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان التدخل.
وصرّح ترامب إن السودان لم يكن ضمن الملفات التي ينوي الانخراط فيها، لكنه “بعد ثلاثين دقيقة من حديثه مع ولي العهد، بدأ النظر في الملف”.
وبحسب ما نشره ترامب على منصته “تروث سوشيال”، فإنه ينوي استخدام “نفوذ الرئاسة لوقف الحرب على الفور”، مؤكداً أن السودان “حضارة عظيمة انزلقت إلى فوضى هائلة لكنها قابلة للإصلاح عبر تعاون دولي، خصوصاً من دول المنطقة ذات الثروة الهائلة”.
وتعهد ترامب بالعمل مع السعودية والإمارات ومصر وشركاء آخرين لوقف “الفظائع غير المقبولة”، في تكرار لعبارة “الفظائع” التي باتت ترد كثيراً في الخطاب الأميركي الرسمي مؤخراً.
تفاعل سوداني
تأتي هذه التطورات في لحظة يُعاد فيها تقييم السياسة الأميركية تجاه السودان بعد شهور من الاتهامات بأن واشنطن “تخلّت عن الملف” لصالح أولويات أخرى مثل غزة وأوكرانيا.
التفاعل السوداني الداخلي مع تصريحات ترامب كان سريعاً؛ إذ رحّب مجلس السيادة بالجهود الأميركية–السعودية، وأعلن استعداده للانخراط في أي مساعٍ لتحقيق “السلام العادل والمنصف”.
كما أكّد قائد الجيش عبد الفتاح البرهان استعداده للتعاون “لإيقاف نزيف الدم السوداني”. ولاحقاً، انضم إلى الترحيب مستشار قوات الدعم السريع الباشا طبيق الذي قال إن قواته تتطلع إلى سلام “يعالج جذور الأزمة”.
ورغم أن ترامب قلما تطرّق سابقاً للنزاع السوداني، فإن تحركه يأتي بعد تقارير أميركية متواترة تصف السودان بأنه “أكبر أزمة إنسانية في العالم”، وهي عبارة كررها مبعوثه للشؤون الإفريقية مسعد بولس ووزير الخارجية ماركو روبيو، وحتى بيانات مجموعة السبع.
فظائع الفاشر
تزامنت تصريحات ترامب مع واحدة من أكثر المراحل دموية في الحرب، خصوصاً بعد دخول قوات الدعم السريع الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، في نهاية أكتوبر الماضي بعد حصار استمر 18 شهراً.
وتحدثت الأمم المتحدة عن شهادات “مروعة” تشمل إعدامات جماعية وعنفاً جنسياً واسع النطاق وتعذيباً واعتداءات ضد المدنيين الفارين، إضافة إلى حالات حصار وتجويع طالت عشرات الآلاف.
وقال توم فليتشر، مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، إن ما رأه في دارفور “يفوق أي تصور” وإن الانتهاكات ارتُكبت بروح “الإفلات الكامل من العقاب”. وأكّد أن الفاشر باتت “مسرح جريمة” يحتاج إلى تحقيق دولي شامل، فيما قدّر عدد النازحين بأكثر من 100 ألف خلال أيام.
هذا الاستنكار الأممي أثار موجة من ردود الفعل الغربية، كان أبرزها موقف الاتحاد الأوروبي الذي حذّر على لسان ممثلته كايسا أولونجرين من أن انتهاكات قوات الدعم السريع “تقع في صلب الجرائم ضد الإنسانية”، مكررةً الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار.
وتحدثت أولونجرين عن دعم أوروبي لتعزيز البنية التحتية في السودان كجزء من استجابة إنسانية واسعة، في حين دعا ممثل إسبانيا إلى المسارعة إلى “إغلاق باب الجرائم الجديدة”.
اتهامات أميركية وأوروبية ضد الدعم السريع
بالتوازي، تتعزز في العواصم الغربية قناعة بأن قوات الدعم السريع تتحول إلى قوة خارجة عن السيطرة، حيث وصفها وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بأنها “ترتكب أسوأ الفظائع بما في ذلك العنف الجنسي ضد النساء والأطفال”، ملوّحاً بإجراءات عقابية، ومؤيداً مقترح تصنيفها “منظمة إرهابية أجنبية” في حال رأى الكونغرس أن ذلك يساعد في إنهاء الحرب.
ورغم أن روبيو رفض تسمية دولة تورّد الأسلحة لهذه القوات، فإنه ألمح إلى أن “واشنطن تعرف الأطراف المتورطة” وأنها ستتحدث معها على أعلى مستوى.
وبحسب دبلوماسيين وخبراء، فإن تصريحات روبيو تمثل على الأرجح بداية تحوّل في السياسة الأميركية، على الرغم من عدم وجود توافق كامل بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية حول كيفية التعامل مع الدعم السريع.
الموقف الأوروبي بدا أكثر وضوحاً، إذ كشفت رويترز أن الاتحاد الأوروبي يستعد لفرض عقوبات جديدة على عبد الرحيم دقلو، نائب قائد الدعم السريع وشقيق محمد حمدان دقلو “حميدتي”، تشمل حظر السفر ومصادرة الأموال.
ويبدو أن وزراء الخارجية الأوروبيين عازمون على خطوة تدريجية، تفتح الباب أمام مزيد من العقوبات لاحقاً، من دون غلق قنوات الحوار.
أما بريطانيا، فذهبت إلى أبعد من ذلك؛ إذ أعلنت وزيرة الخارجية إيفيت كوبر أنها تعمل على إعداد عقوبات بسبب “الفظائع المرصودة في الفاشر”، مشيرة إلى أن الدعم السريع يمنع وصول المساعدات الإنسانية، وأن الصور القادمة من المدينة تكشف “برك دماء واضحة من الفضاء”. وأكّدت أن لندن لن تقف بعد اليوم موقف المتفرّج مما يجري.
الإمارات وحفتر!!
أحد أكثر الملفات حساسية يتعلق بالتقارير المتزايدة حول دور الإمارات في تغذية قوات الدعم السريع بالسلاح والوقود.
تقرير منظمة “ذا سنتري” الرقابية اتهم القائد الليبي خليفة حفتر بتزويد قوات الدعم السريع بالوقود المهرب “نيابة عن الإمارات”، بسبب علاقاته الوثيقة مع أبوظبي، مضيفاً بأن هذا التدفق المنتظم للديزل والبنزين مكّن قوات الدعم السريع من التحرك السريع في دارفور وتنفيذ عملياتها بكفاءة أكبر.
الإمارات نفت هذه الاتهامات، كما نفت تهم الجيش السوداني بأنها توفر مرتزقة من كولومبيا، إلا أن واشنطن نفسها دعت إلى “تحرك دولي لقطع الإمدادات العسكرية عن الدعم السريع”، وهو موقف فُهم على أنه رسالة مبطنة للإمارات.
هذا الملف يضع واشنطن في معادلة صعبة، فالإمارات والسعودية شريكان رئيسيان للولايات المتحدة في المنطقة، وفي الوقت ذاته تبدو قوات الدعم السريع أكثر الفصائل السودانية تقارباً مع أبوظبي.
ويعتقد خبراء أن الإدارة الأميركية تسعى إلى إدارة هذا التوتر من دون أن تنفجر علاقاتها الإقليمية، الأمر الذي يجعل أي ضغط على الإمارات معقداً وحساساً.
خريطة المعارك الجديدة
على الأرض، تتغير الجغرافيا العسكرية بوتيرة سريعة، فبعد السيطرة على الفاشر، اتجهت قوات الدعم السريع نحو إقليم كردفان، وهو ممر استراتيجي يفصل بين دارفور والخرطوم، وسيطرت بالفعل على بلدة بارا المهمة، وواصلت توغلها صوب مواقع الجيش في شمال وغرب كردفان.
في الوقت ذاته، كثّفت القوات شبه العسكرية هجماتها بالطائرات المسيّرة، بما في ذلك هجوم كبير على مدينة مروي في الولاية الشمالية استهدف مقر قيادة الجيش والسد والمطار.
وقد رُصدت عشرات الانفجارات وانقطاع كامل للكهرباء. وبحسب الجيش، فإن الدعم السريع تحصل على مسيّرات متطورة من جهات خارجية.
بالمقابل، يرفض الجيش السوداني حتى الآن الموافقة على الهدنة الإنسانية التي اقترحتها الولايات المتحدة لمدة ثلاثة أشهر، رغم موافقة الدعم السريع عليها. ويرى مراقبون أن الجيش يريد تعديل موازين القوة في كردفان أولاً، قبل الدخول في أي وقف لإطلاق النار قد يُكسب خصومه مزيداً من الوقت أو الشرعية.
هدنة مقترحة ومرحلة انتقالية ممنوعة
الهدنة الأميركية المقترحة ليست فقط لوقف القتال، بل يُفترض أن تمهّد لمسار سياسي جديد يستبعد الجيش والدعم السريع معاً من المرحلة الانتقالية، كما نصّت مبادرة الرباعية (أميركا، السعودية، الإمارات، مصر)، والفكرة هنا أن يُمنع الطرفان المتحاربان من جني ثمار المعركة سياسياً.
هذا الطرح يثير إشكالات ضخمة؛ فالجيش يرى أنه يمثل الدولة، والدعم السريع يعتقد أنه قوة سياسية واجتماعية أيضاً، وليس مجرد ميليشيا.، ومع ذلك، تصرّ واشنطن وشركاؤها على أن استمرار القتال يمنع أي حلول جوهرية، وأن البداية يجب أن تكون وقفاً شاملاً لإطلاق النار، قبل الحديث عن مستقبل الحكم

