شؤون آسيوية – خاص –
تبرز الصين كلاعب محوري يعيد صياغة معادلة الطاقة العالمية،فبينما تتراجع قوى تقليدية عن التزاماتها المناخية، تتقدم بكين بخطى محسوبة نحو مستقبل منخفض الكربون، مستثمرة في التكنولوجيا الخضراء، ومحركة لعجلة اقتصاد جديد يقوم على الشمس والرياح والهيدروجين، فوق أرضٍ كانت يوماً مرادفاً للفحم والانبعاثات.
هذا التحول مشروع استراتيجي طويل النفس، يهدف إلى بلوغ ذروة الانبعاثات قبل عام 2030 وتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060، وفي الوقت نفسه، تتطلع الصين إلى توظيف قوتها الصناعية وقدرتها على الإنتاج كثيف الحجم والرخيص التكلفة، لبسط نفوذها في أسواق الطاقة النظيفة وتشكيل قواعد اللعبة المناخية عالمياً.
ثورة الطاقة المتجددة
في أقل من عقدين، انتقلت الصين من دولة يطغى على مزيجها الطاقي الفحم بنسبة تفوق الثلثين، إلى أكبر منتج ومستخدم للطاقة المتجددة في العالم، حيث تشير البيانات الصادرة بين يناير ومايو 2025 إلى تركيب قدرات من الطاقة الشمسية والرياح تكفي لتوليد كهرباء تعادل إنتاج دول بحجم تركيا أو إندونيسيا، في فترة لا تتجاوز خمسة أشهر.
القدرة المركبة لطاقة الرياح والطاقة الكهروضوئية تجاوزت 1690 غيغاواط حتى نهاية أغسطس 2024، أي ثلاثة أضعاف مستويات 2020، وتمثّل وحدها نحو 80% من إجمالي الطاقة الجديدة التي دخلت الخدمة خلال السنوات الأربع الماضية، وفي عام 2024 وحده، ركّبت الصين 333 غيغاواط من الطاقة الشمسية، وهو رقم يفوق إنتاج بقية دول العالم مجتمعة.
وتبدو الأرقام في 2025 أكثر جرأة، إذ أضافت البلاد 240 غيغاواط من الطاقة الشمسية و61 غيغاواط من طاقة الرياح خلال الأشهر التسعة الأولى فقط، لتقترب من تحقيق رقم قياسي جديد يعزز هيمنتها التقنية.
هذا التوسع الهائل لم يهبط من فراغ، فالصين أصبحت المركز العالمي لتصنيع مكونات الطاقة النظيفة، من الألواح الشمسية إلى توربينات الرياح مروراً بالسيارات الكهربائية، وهي تنتج بنحو 40% من إجمالي الطاقة المتجددة في العالم.
وتستثمر بكين أكثر من 818 مليار دولار في الطاقة الخضراء حتى مطلع 2024، وهو ما يتجاوز إجمالي استثمارات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مجتمعين.
الهيدروجين الأخضر والطاقة النظيفة
تعتبر الصين الهيدروجين الأخضر – المنتج باستخدام الكهرباء المتجددة – أحد أعمدة منظومتها القادمة للطاقة منخفضة الكربون، فقد تجاوزت قدرتها الإنتاجية السنوية من الهيدروجين الأخضر 150 ألف طن حتى نهاية العام الماضي، لتتصدر العالم في هذا القطاع الصاعد.
وتستثمر بكين في البنية التحتية اللازمة لاقتصاد الهيدروجين المقبل، من شبكات الأنابيب إلى محطات التزوّد بالوقود، وصولًا إلى مشاريع إنتاج ضخمة في المناطق الغنية بالرياح والشمس مثل منغوليا الداخلية.
وفي سياق موازٍ، تحول قلب الصين الصناعي، الذي لطالما ارتبط بالفحم، إلى حاضنة لمشاريع الطاقة الجديدة، ففي منطقة منغوليا الداخلية، تنتشر آلاف الألواح الشمسية وتوربينات الرياح على امتداد الأفق، بينما تتوسع مصانع تصنيع توربينات الرياح كما في مجمع شركة «مينغ يانغ»، الذي أسس سلسلة صناعية كاملة من البحث إلى الإنتاج إلى الاختبار.
المنطقة التي كانت توفر ربع إنتاج الفحم الوطني تجاوزت اليوم حاجز 20% نمواً في القيمة المضافة لصناعة الطاقة الجديدة في 2024، فيما ارتفعت قيمة معدات الطاقة الجديدة بنسبة 42.4%.
النقل والصناعة الخضراء
قطاع المركبات في الصين يمرّ بتحول ثوري، فخلال الأشهر التسعة الأولى من 2025، شكلت مبيعات مركبات الطاقة الجديدة 45.8% من إجمالي مبيعات السيارات في بكين-تيانجين-خبي، ارتفاعًا من 13% فقط في 2021.
كما تستهدف الحكومة الصينية أن تصبح نصف السيارات الجديدة المباعة في البلاد بحلول 2024 من المركبات الكهربائية أو الهجينة، في خطوة ستؤثر حتمًا على أسواق السيارات العالمية.
في المقابل، تتبنى الصينآليات سوقية للضغط نحو خفض الانبعاثات، وأبرز أدواتها سوق تداول انبعاثات الكربون الذي تعتزم توسيعه ليشمل جميع الصناعات المسببة للانبعاثات بحلول 2027.
وقد أضيفت خلال 2025 قطاعات الصلب والأسمنت وصهر الألمنيوم إلى السوق، بينما تستعد قطاعات مثل الكيماويات والبتروكيماويات والطيران المدني وصناعة الورق للانضمام لاحقًا عند استكمال معايير البيانات.
في الوقت نفسه، تُظهر البيانات الضريبية تحسنًا واضحًا في الهيكل الصناعي. ففي منطقة بكين-تيانجين-خبي مثلًا، انخفضت نسبة مبيعات الصناعات عالية الانبعاثات من 40.6% في 2021 إلى 34.4% في 2025، فيما استفادت الشركات من تخفيضات ضريبية بقيمة 1.63 مليار يوان مقابل التزامها بمعايير خفض الانبعاثات.
الانبعاثات والطاقة النووية
إلى جانب الشمس والرياح، تسعى الصين إلى مضاعفة اعتمادها على الطاقة النووية لتأمين استقرار النظام الكهربائي، حيث تمتلك بكين 112 وحدة طاقة نووية قيد التشغيل أو الإنشاء أو معتمدة للبناء، بإجمالي قدرة 125 غيغاواط، لتكون الأولى عالميًا.
وتطور الصين نماذج للمفاعلات المعيارية الصغيرة SMR، التي يمكن تجميعها وشحنها مثل قطع صناعية جاهزة، ما يفتح سوقاً عالمياً للمفاعلات منخفضة التكلفة ومرنة التشغيل، خصوصاً لدول مبادرة «الحزام والطريق».
من جهة أخرى، تشير تحليلات مراكز الأبحاث إلى أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الصين بقيت ثابتة أو في حالة انخفاض طوال 18 شهراً، مع احتمال أن ينتهي عام 2025 بتراجع في الانبعاثات على مستوى العام الكامل لأول مرة في تاريخ الصين الصناعي.
السبب الرئيسي لهذا التحول هو الطفرة في توليد الطاقة الشمسية والرياح، التي نمت بنسبة 46% و11% في الربع الثالث من العام، وأبقت انبعاثات قطاع الطاقة مستقرة رغم ارتفاع الطلب على الكهرباء.
كما سجلت قطاعات مثل السفر والصلب والأسمنت انخفاضًا واضحًا في الانبعاثات، وفق تحليل مركز «كريا» لموقع «كاربون بريف».
الصين تتقدم وواشنطن تتراجع
رغم الخلافات التجارية والسياسية بين الصين والاتحاد الأوروبي، فإن الطرفين وجدا في الطاقة الخضراء مساحة تعاون نادرة، فقد صدر بيان مشترك خلال قمة يوليو في بكين يؤكد تسريع نشر تقنيات الطاقة النظيفة، ودعم اتفاق باريس، في وقت انسحبت فيه الولايات المتحدة من الاتفاقية وتراجعت عن برامجها المناخية.
ويرى محللون أن التعاون الصيني الأوروبي يمنح الطرفين فرصة لتشكيل سياسات المناخ العالمية، بينما تتراجع واشنطن إلى ما يشبه «العزلة المناخية»، مع إلغاء مشاريع تكنولوجيا مناخ أمريكية بقيمة 8 مليارات دولار بحلول 2025.
في هذا السياق، طرحت الصين مبادرة دولية للتعاون الاقتصادي والتجاري بشأن التعدين والمعادن الخضراء خلال قمة العشرين في جوهانسبرغ، وقد تلقت دعمًا من أكثر من 20 دولة ومنظمة دولية حتى الآن.
كوب30.. تأثير حاضر
رغم غياب الرئيس الصيني شي جين بينغ عن قمة القادة في مؤتمر الأطراف COP30 في البرازيل، إلا أن الوفد الصيني لعب دوراً مؤثراً في المفاوضات، حيث قدم نائب رئيس مجلس الدولة دينغشيويهشيانغ رؤية بكين للتحول الأخضر، معلناً عن مساهمة وطنية جديدة لعام 2035 تشمل جميع القطاعات الاقتصادية وجميع الغازات الدفيئة لأول مرة.
وأكد دينغ ثلاث رسائل رئيسية: ضرورة التوازن بين البيئة والتنمية، تمسك الصين بمبدأ «المسؤوليات المشتركة لكن المتباينة»، وأهمية خلق بيئة دولية داعمة للمنتجات والتقنيات الخضراء.
القوة الناعمة الخضراء
تستخدم الصين صادراتها من التكنولوجيا الخضراء لتعزيز نفوذها العالمي، فهي مصدر رئيسي للألواح الشمسية وتوربينات الرياح والسيارات الكهربائية، وتطمح لبيع 30 مفاعلًا نوويًا لدول الحزام والطريق بحلول 2030.
كما تمول مشاريع للطاقة المتجددة في آسيا وأفريقيا والأمريكيتين، وتوفر تدريبًا للدول النامية على إدارة تحديات المناخ.
وبينما تتراجع الولايات المتحدة عن قيادة الجهود المناخية، ترى مؤسسات دولية أن «مستقبل الطاقة الخضراء بات صينيًا»، لا من حيث الإنتاج فقط، بل من حيث صياغة المعايير وتأثير سلاسل التوريد.
بين الواقع والطموح
الصين اليوم تقف عند مفترق بين صورتين: دولة هي الأكبر عالميًا في الانبعاثات، ودولة هي الأكبر في إنتاج الطاقة النظيفة. هذا التناقض يعكس طبيعة التحول الجاري: ضخم، معقد، ومتسارع.
ومع اقتراب صدور الخطة الخمسية الخامسة عشرة (2026–2030)، ينتظر العالم من الصين خطوات أكثر حسمًا نحو خفض الانبعاثات بنسبة أكبر، لا سيما في القطاعات التي ما زالت مقاومة لإزالة الكربون.
لكن المؤكد أن بكين، بتحولها الأخضر المتسارع، تغير قواعد اللعبة في السياسة الدولية للطاقة. وما بين شمسها ورياحها وهيدروجينها ومفاعلاتها الصغيرة، تتشكل ملامح عصر جديد، لن يكون النفط سيده، بل التكنولوجيا وقدرة الدول على إعادة تعريف معنى التنمية.
والأرجح أن الصين ستظل اللاعب الذي يكتب الفصول الأكثر تأثيرًا في حكاية التحول العالمي نحو الطاقة النظيفة.

