العلاقات الصينية البحرينية: شراكة متزنة وآفاق مستقبلية

شؤون آسيوية – ديما دعبول  –

 

تبرز العلاقات الصينية البحرينية كنموذج لعلاقات ثنائية تتجاوز حسابات الحجم والنفوذ إلى آفاق الشراكة المتزنة والمصالح المشتركة.

بين دولة صغيرة ذات موقع استراتيجي في الخليج العربي، وقوة كبرى تسعى لتوسيع نفوذها عالمياً، تنمو هذه العلاقة بوتيرة هادئة لكنها ثابتة، وتستند إلى رؤية عملية للتعاون بعيد المدى.

 

أوليات التأسيس: دبلوماسية الهدوء والثقة المتبادلة

 

أُقيمت العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين البحرين وجمهورية الصين الشعبية في 18 أبريل 1989، في وقت كانت فيه بكين لا تزال في طور التحول الاقتصادي الداخلي، بينما كانت المنامة منفتحة على العالم كواحدة من أكثر دول الخليج اعتدالاً سياسياً وانفتاحاً اقتصادياً.

رغم عدم وجود روابط تاريخية عميقة بين البلدين قبل ذلك، فإن طبيعة السياسة الخارجية البحرينية التي تتسم بالاعتدال، والتزام الصين بمبدأ “عدم التدخل في الشؤون الداخلية”، شكلت قاعدة مشتركة لبناء علاقة تقوم على الثقة والاحترام المتبادل.

 

العلاقات الاقتصادية بين الصين والبحرين: من التبادل التجاري إلى شراكة استراتيجية ناعمة

 

في عالم تتغير فيه موازين القوى الاقتصادية، وتبحث فيه الدول الصغيرة عن توازنات جديدة في شراكاتها، تبرز العلاقات الاقتصادية بين الصين والبحرين كنموذج دقيق لشراكة تسير بخطى مدروسة، تتجاوز الحسابات التقليدية لحجم السوق نحو رؤية استراتيجية قائمة على التكامل، لا التنافس.

 

فرغم الفارق الكبير في الحجم الجغرافي والديمغرافي والاقتصادي بين البلدين، فإن التعاون بين بكين والمنامة يحمل سمات فريدة، ترتكز على الاحترام المتبادل، والمصالح العملية، والفرص المستقبلية غير المستغلة.

 

نقطة الانطلاق: من التجارة إلى التعاون التقني

 

شهد العقدان الأخيران نمواً مطّرداً في التبادل التجاري بين البحرين والصين، حيث أصبحت بكين من أهم الشركاء التجاريين للمنامة، مدفوعة بالطلب الصيني على المواد الأولية مثل الألمنيوم والبتروكيماويات، وبالطلب البحريني على التكنولوجيا والمنتجات الاستهلاكية الصينية.

 

لكن العلاقة لم تتوقف عند هذا المستوى، فمع تحوّل الاقتصاد البحريني نحو التنويع بعيداً عن النفط، ومع طموحات الصين لتعزيز وجودها في الأسواق الخليجية عبر مبادرة “الحزام والطريق”، بدأ الطرفان في البحث عن مجالات أكثر عمقاً مثل:

  • الصناعة الذكية والتكنولوجيا المالية
  • الطاقة النظيفة والمستدامة
  • الخدمات اللوجستية وسلاسل الإمداد
  • الاستثمار في البنى التحتية الرقمية

 

البحرين بوابة ذكية إلى الخليج العربي

 

رغم صغر حجمها، تُعد البحرين دولة ذات قيمة استراتيجية عالية في التجارة الخليجية، لعدة أسباب:

  1. موقعها الجغرافي: فهي تقع على مفترق طرق بحري وجوي يربط بين شرق الخليج وعمقه السعودي.

 

  1. بنيتها التشريعية المرنة: تملك البحرين قوانين استثمار متقدمة، خصوصاً في التكنولوجيا المالية والمناطق الحرة.

 

  1. كوادرها البشرية المدربة: تتميز بنسبة عالية من الكفاءات المحلية، خاصة في مجالات المالية والتقنية.

 

كل هذه العوامل جعلت من البحرين منصة ملائمة للشركات الصينية التي ترغب في دخول الأسواق الخليجية بخطوات ذكية ومركزة.

 

مبادرة الحزام والطريق: البحرين على خريطة الصين الكبرى

 

منذ توقيع البحرين على مذكرة تفاهم للانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق في 2018، بدأ التفكير المشترك بين المنامة وبكين لتطوير مشاريع في مجالات:

  • الموانئ والتخزين البحري
  • البنى التحتية للطاقة والمياه
  • المناطق الصناعية ذات الامتيازات الخاصة

وتُطرح اليوم مقترحات لإقامة منطقة صناعية صينية في البحرين، على غرار نماذج موجودة في مصر وجيبوتي، تستهدف الصناعات الخفيفة والمتوسطة، ما يتيح للصين الوصول السريع إلى الخليج، ويمنح البحرين فرصة لتعزيز ناتجها الصناعي وتوفير وظائف جديدة.

 

الطاقة المتجددة: فرصة بحرينية، وخبرة صينية

 

تسعى البحرين إلى الوصول للحياد الكربوني بحلول عام 2060، مما يجعل الطاقة المتجددة خياراً استراتيجياً لا مفر منه. من هنا، تأتي أهمية الشراكة مع الصين، التي تُعد رائدة عالمياً في إنتاج الألواح الشمسية، وتوربينات الرياح، وأنظمة تخزين الطاقة.

 

وقد أبدت شركات صينية مثل “هواوي للطاقة” و”لونجي سولار” اهتماماً بالاستثمار في السوق البحريني، سواء في المشاريع الحكومية أو الخاصة. وتشكل البيئة الشمسية المناسبة في البحرين عامل جذب كبير لهذه الشركات.

 

القطاع المالي والتقني: مجالات خصبة للتكامل

 

تُعد البحرين من أوائل دول الشرق الأوسط التي طوّرت نظاماً تشريعياً متقدماً للتكنولوجيا المالية (FinTech)، عبر بيئة تنظيمية تجريبية Sandbox جذبت شركات عالمية.

 

تعمل الصين على تصدير خبراتها في هذا المجال، خصوصاً في مجالات الدفع الإلكتروني، والذكاء الاصطناعي في التمويل، والتصنيف الائتماني الذكي. ومن شأن التعاون في هذا المجال أن يفتح الباب لتجارب مشتركة مثل:

  • المحافظ الرقمية للشركات الصغيرة
  • التمويل الموجه بالذكاء الاصطناعي
  • دعم البنوك الرقمية والبنية السحابية

 

 

واقع السوق وحدود النفوذ

 

رغم هذه الفرص، تواجه العلاقات الاقتصادية بين البحرين والصين عدة تحديات، أبرزها:

صغر حجم السوق البحريني، ما يجعل بعض الاستثمارات الضخمة أقل جاذبية، والاعتبارات الجيوسياسية، خصوصاً أن البحرين حليف تقليدي للولايات المتحدة.

ومع ذلك، فإن هذه التحديات لا تشكل عوائق كبرى، بل هي جزء من الواقع الإقليمي الذي يمكن تجاوزه بالتخطيط الذكي والمصالح المشتركة.

 

التكنولوجيا والتحول الرقمي: فرص لم تُستثمر بعد

 

تُعد البحرين من الدول الرائدة في التحول الرقمي في منطقة الخليج، حيث طوّرت بيئة متقدمة في مجال التكنولوجيا المالية (FinTech)، والحوسبة السحابية، والخدمات المصرفية الرقمية. وهذا يفتح آفاقاً مهمة أمام تعاون محتمل مع الصين، خصوصاً في ظل تطور شركات التكنولوجيا الصينية مثل “هواوي” و”علي بابا” و”تينسنت”، التي تسعى للتوسع في أسواق الشرق الأوسط.

 

ورغم بعض الحساسيات الغربية المرتبطة بالشركات الصينية، خصوصاً في مجال الاتصالات، فإن البحرين اتخذت موقفاً مرناً نسبياً، وسمحت بهامش للتعاون التقني، شريطة مراعاة المعايير الأمنية.

 

التعاون الصحي والعلمي: دروس من الجائحة

 

أثناء جائحة كورونا، لعبت الصين دوراً مهماً في دعم البحرين بمستلزمات طبية، وأدوية، بل ولقاحات، وكانت البحرين من أوائل الدول التي وافقت على الاستخدام الطارئ للقاح “سينوفارم” الصيني، وهو ما عكس مستوى الثقة والتنسيق بين البلدين.

 

وقد امتدت هذه التجربة إلى مجالات أخرى، حيث بدأت مناقشات بين الجامعات والمؤسسات البحثية لتعزيز التبادل العلمي، لا سيما في مجالات الطب، والهندسة، والذكاء الاصطناعي.

 

الثقافة والتعليم: جسور ناعمة نحو الفهم المتبادل

 

في السنوات الأخيرة، أدركت البحرين والصين أن العلاقات المستدامة لا تُبنى على الاقتصاد وحده، بل تحتاج إلى جسور ثقافية حقيقية. وافتُتح معهد كونفوشيوس في البحرين كمركز لتعليم اللغة والثقافة الصينية، واستضافت المنامة فعاليات ثقافية متعددة لتعريف الجمهور الصيني بالحضارة الخليجية والعربية.

 

كما ازداد عدد الطلبة البحرينيين في الصين، والعكس، ضمن برامج تبادل أكاديمي وثقافي، وهو ما يعزز القاعدة الشعبية للعلاقات الثنائية ويُسهم في تجاوز الصور النمطية.

 

البحرين في حسابات الصين

 

من منظور صيني، تمثل البحرين نقطة توازن دبلوماسي في الخليج، فهي حليف تقليدي للولايات المتحدة، وتستضيف الأسطول الأميركي الخامس، لكنها في الوقت نفسه تُبقي قنواتها مفتوحة مع الصين وروسيا ودول أخرى. وهذا التوازن يجعل منها شريكاً جذاباً لبكين، التي تسعى إلى توسيع نفوذها في الشرق الأوسط دون الدخول في صراعات مباشرة مع القوى التقليدية.

 

وفي ظل التنافس الصيني الأميركي، تمثل البحرين تجربة لعلاقات يمكن أن تجمع بين الانفتاح على الصين والحفاظ على تحالفات تاريخية مع الغرب، دون خسارة أي طرف.

 

نحو شراكة أكثر ديناميكية

توجد أمام البلدين فرص واعدة منها الاستفادة من موقع البحرين كبوابة لأسواق الخليج وشمال إفريقيا، إنشاء مناطق حرة مشتركة أو مراكز لوجستية مرتبطة بمبادرة الحزام والطريق، تعزيز التعاون في الطاقة النظيفة والتقنيات المستدامة.

 

علاقة بحجم المستقبل

 

العلاقات الصينية البحرينية قد تبدو للوهلة الأولى غير متكافئة من حيث الحجم والنفوذ، لكنها تحمل في طياتها مقومات شراكة ذكية، تقوم على احترام السيادة، والبحث عن المصالح المشتركة، والتفاعل الثقافي بعيداً عن الصراعات الكبرى.

 

وفي عالم يتغير بسرعة، تصبح مثل هذه العلاقات، التي تبنى بالحكمة والصبر والتدرج، هي الأكثر قابلية للبقاء، وإذا واصلت المنامة وبكين هذا النهج، فقد تكون البحرين نموذجاً مصغراً لنهج عالمي جديد في التعامل مع الصين: الانفتاح دون انحياز، والتعاون دون تبعية.

 

 

*صحافية سورية

**ينشر بالتعاون مع مركز الدراسات الآسيوية والصينية في لبنان

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *