شؤون آسيوية – إعداد: رغد خضور –
منذ أكثر من أربعة عقود، جمعت بين الصين والأردن علاقة دبلوماسية تميزت بتنوعها واستقرارها، تطورت خلالها الشراكة بين البلدين لتشمل مجالات متعددة. وفي ظل صعود الصين كقوة اقتصادية عالمية، وسعي الأردن لتعزيز انفتاحه الاقتصادي وتنوع شراكاته الدولية، اتجه البلدان نحو توطيد علاقاتهما على أسس الاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
توازن في ظل التحولات الإقليمية..
على الرغم من تأخر العلاقات الدبلوماسية بين المملكة الأردنية وجمهورية الصين الشعبية، مقارنة بدول عربية أخرى، إلا أنه منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين بدأ التقارب التدريجي بين البلدين في ظل تغيرات إقليمية متعددة، حيث أُعلن رسميًا عن إقامة العلاقات الدبلوماسية الكاملة عام 1977، ما شكل نقطة تحول كبرى في مسار العلاقات السياسية، لتتطور بعدها بشكل تدريجي على أسس قائمة على التفاهم السياسي والحوار الهادئ.
جاء هذا الاعتراف في إطار سعي الأردن إلى تنويع علاقاته الدولية، والانفتاح على القوى الصاعدة، خاصة بعد أن أصبحت الصين عضوًا دائمًا في مجلس الأمن الدولي. بالمقابل، رحّبت الصين بإقامة علاقات مع الأردن باعتباره دولة ذات موقع استراتيجي في قلب المشرق العربي.
الاحترام وعدم التدخل..
منذ بداية العلاقة، التزمت الدولتان بعدد من المبادئ السياسية التي أسست لتعاون مستقر، أهمها الاحترام المتبادل للسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
حرصت الصين على دعم استقرار الأردن في وجه التحديات الإقليمية، في حين تبنّى الأردن موقف “الصين الواحدة”.
وقد لعبت القضايا الإقليمية، مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، دوراً مهماً في الحوار السياسي بين الجانبين، حيث تؤيد الصين حل الدولتين، وتدعم الجهود الأردنية في رعاية الأماكن المقدسة في القدس، ما أكسب العلاقة طابعًا خاصًا في سياق الشرق الأوسط.
حوار سياسي مباشر..
شهدت العلاقات بين الصين والأردن تطوراً ملحوظاً مع مطلع القرن الحادي والعشرين، حيث بدأت الزيارات المتبادلة واللقاءات الدبلوماسية على مستوى القادة والوزراء، ما عزز من الحوار السياسي المباشر والتنسيق بين البلدين في المحافل الدولية، خاصة في الأمم المتحدة والمنتديات الاقتصادية والسياسية متعددة الأطراف.
وكانت عملية السلام حاضرة في نقاشات الرئيس الصيني شي جين بينغ والملك عبدالله الثاني، خلال زيارات العاهل الأردني إلى بكين، إضافة إلى سبل تعزيز التعاون الاقتصادي.
كما كان للأردن مشاركات فعالة في مؤتمرات مثل منتدى التعاون الصيني العربي (CASCF) ومنتدى الحزام والطريق.
ومع انضمام الأردن إلى مبادرة الحزام والطريق، تعمق التعاون بين البلدين وبدأ الحديث عن شراكة استراتيجية، وملفات سياسية وتنموية وأمنية.
نمو اقتصادي وتجاري..
تُعد العلاقات الاقتصادية بين الصين والأردن من أبرز محاور التعاون بين البلدين، وهي في نمو مستمر مدفوع بتحولات استراتيجية على المستوى الإقليمي والدولي. ففي الوقت الذي تسعى فيه الصين لتوسيع نفوذها الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط، يتطلع الأردن إلى تنويع شركائه التجاريين وجذب الاستثمارات الأجنبية، خاصة من دول كبرى كالصين.
ورغم الظروف الإقليمية والاقتصادية العالمية، شهدت العلاقات الاقتصادية بين الصين والأردن نموًا ملموسًا خلال العقدين الأخيرين، إذ تُعد الصين من أكبر الشركاء التجاريين للأردن، واحتلت في بعض السنوات المرتبة الأولى أو الثانية كأكبر مصدر للسلع إلى المملكة.
وبحسب البيانات الرسمية، تجاوز التبادل التجاري الثنائي 3 مليارات دولار سنويًا خلال السنوات الأخيرة، رغم أن كفة الميزان التجاري تميل بوضوح لصالح الصين، على اعتبار أن صادرات الأردن إلى الصين ضئيلة مقارنة بوارداته منها.
وتشمل واردات الأردن من الصين العديد من المنتجات الصناعية والإلكترونية والميكانيكية، بينما يصدر الأردن إلى الصين الفوسفات والمنتجات الكيماوية وبعض المواد الخام. وعلى الرغم من العجز التجاري لصالح الصين، إلا أن عمّان تسعى إلى تعزيز صادراتها من خلال اتفاقيات تعاون جديدة وتطوير الصناعات الوطنية.
مشاريع استثمارية نوعية..
رغم العلاقات المتقدمة، لا تزال الاستثمارات الصينية المباشرة في الأردن محدودة مقارنة بحجم التبادل التجاري. ومع ذلك، فهي ذات أهمية استراتيجية ونوعية، خاصة في قطاع الطاقة والبنية التحتية، حيث تولي الصين اهتمامًا متزايدًا للاستثمار في الأردن.
ومن أبرز المشاريع الصينية في الأردن:
* محطة العطارات للطاقة: وتُعد من أبرز المشاريع الاستثمارية الصينية في الأردن، حيث استثمرت شركات صينية مليارات الدولارات في إنشاء محطة كهرباء تعمل على الصخر الزيتي، في خطوة لتعزيز الأمن الطاقي الأردني وتقليل الاعتماد على الطاقة المستوردة، ووصف المشروع بأنه نموذج لتوطين الطاقة والاستفادة من الموارد الوطنية.
* مشروعات بنية تحتية: ساهمت شركات صينية في تطوير شبكة الطرق وبعض مشاريع الإسكان والنقل في الأردن، سواء من خلال التمويل أو المقاولات، لكن بشكل محدود مقارنة بدول أخرى.
* المنطقة الاقتصادية الخاصة في العقبة: أبدت الصين اهتمامًا باستغلال موقع العقبة كمركز لوجستي في المنطقة، ضمن رؤية لجعل الأردن منصة لإعادة التصدير نحو إفريقيا والمنطقة العربية، غير أن المشروع لم يتم تنفيذه بشكل كامل.
موقع استراتيجي على خارطة الحزام والطريق..
انضم الأردن رسمياً إلى مبادرة الحزام والطريق عام 2015، ما فتح آفاقاً جديدة للتعاون مع الصين في مجالات التجارة والبنية التحتية والاستثمار. ويمثل موقع الأردن الجغرافي نقطة وصل بين آسيا وأوروبا وإفريقيا، ما يجعله شريكًا مهماً في هذه المبادرة.
وترى الصين في الأردن دولة مستقرة نسبياً في منطقة مليئة بالتقلبات، مما يتيح لها توسيع نفوذها الاقتصادي في المشرق العربي.
ومن جانبها، تطمح عمّان إلى جذب المزيد من الاستثمارات الصينية في القطاعات الإنتاجية واللوجستية لتوليد فرص عمل وتعزيز النمو الاقتصادي.
وفي إطار هذه المبادرة، توجد العديد من الفرص الاستثمارية المتاحة، أهمها تطوير السكك الحديدية والموانئ في العقبة، بما يخدم أهداف الصين في توصيل بضائعها نحو إفريقيا والخليج، إلى جانب استفادة الصين من المناطق الحرة الأردنية لإنشاء مصانع موجهة للأسواق المجاورة. كما يمكن أن يكون الأردن مؤهلاً ليكون مركزًا رقميًا إقليميًا في مبادرات التجارة الإلكترونية الصينية.
جسور حضارية بين الشرق والغرب..
تشترك الصين والأردن في عمق حضاري وتاريخي طويل، فهما يمثلان حضارتين عريقتين في آسيا والشرق الأوسط. وقد ساعد الاستقرار السياسي والدبلوماسي بين البلدين على بناء تعاون ثقافي هادئ ومستمر.
وتُرجم ذلك على أرض الواقع عبر العديد من الأسابيع الثقافية والفنية التي نظمتها السفارة الصينية في عمّان بالتعاون مع المؤسسات الثقافية الأردنية، وفعاليات مثل “أسبوع السينما الصينية”، و”معارض الخط الصيني”، و”عروض الفنون الشعبية الصينية”، إلى جانب استضافة فرق فنية وموسيقية صينية في الأردن.
وتحتفل الجالية الصينية في الأردن بالمناسبات الخاصة مثل رأس السنة الصينية، بدعم رسمي وثقافي أردني، ما يعزز الاندماج والتبادل الثقافي، إضافة إلى تبادل الوفود من الفنانين والكتاب والمسرحيين بين الجانبين، مما يعكس روح التعاون الإنساني العابر للسياسة.
تواصل ثقافي شعبي..
شكل التعاون الثقافي بين الصين والأردن بعدًا استراتيجيًا ناعمًا يُكمل العلاقات السياسية والاقتصادية، حيث شهد الإعلام الأردني تغطية متزايدة للشأن الصيني، فيما بدأت وسائل الإعلام الصينية، خاصة وكالة شينخوا وCGTN، بنشر محتوى خاص عن الأردن يعرض جوانبه التاريخية والسياحية والثقافية، ما يعزز الصورة الذهنية الإيجابية.
كذلك فتحت منصات التواصل الاجتماعي بابًا لتقارب الشباب، إذ ينشط بعض المؤثرين الأردنيين في تقديم محتوى عن الثقافة الصينية، والعكس كذلك، ما يعمق الوعي المتبادل.
كونفوشيوس في الجامعة الأردنية..
تُعتبر العلاقات الثقافية والتعليمية من أبرز مظاهر التواصل بين الشعبين، فقد تم تأسيس معهد كونفوشيوس في الجامعة الأردنية عام 2009، والذي يُعد منصة مهمة لتعليم اللغة الصينية والتعريف بالثقافة الصينية في الأردن.
وشهد المعهد إقبالًا متزايدًا من الطلبة الأردنيين في ظل تزايد أهمية اللغة الصينية عالميًا، حيث يقدم دورات في اللغة الصينية بمستويات متعددة، إلى جانب تنظيم فعاليات ثقافية وندوات عن الفلسفة الصينية، والفنون القتالية التقليدية مثل “الكونغ فو”.
ولا يقتصر تعليم اللغة الصينية على معهد كونفوشيوس فقط، حيث بدأت بعض المدارس والجامعات الخاصة الأردنية بإدخال اللغة الصينية ضمن مناهجها الاختيارية.
البعد الأكاديمي والتعليمي..
تُقدم الحكومة الصينية منحًا دراسية سنوية لطلبة أردنيين للدراسة في الجامعات الصينية، في تخصصات متعددة تشمل الطب والهندسة والتكنولوجيا والعلوم الإنسانية.
بالمقابل، تستقبل الجامعات الأردنية طلابًا صينيين، خصوصًا في مجالات اللغة العربية والدراسات الإسلامية.
وهناك العديد من الطلبة الصينيين الذين يدرسون في الجامعات الأردنية، خاصة في تخصصات اللغة العربية والدراسات الإسلامية والعلاقات الدولية، حيث تُعتبر الجامعات الأردنية، وخاصة الجامعة الأردنية واليرموك، من الوجهات المفضلة للصينيين الراغبين في التخصص باللغة العربية الفصحى واللهجات المحلية.
كما تُقام فعاليات ثقافية وفنية مشتركة مثل أسابيع السينما الصينية، ومعارض الفنون، وعروض الفولكلور، مما يسهم في ترسيخ التفاهم الحضاري المتبادل.
ويشمل التعاون في هذا المجال أيضًا اتفاقيات توأمة وتبادل أكاديمي وأبحاث مشتركة في مجالات الطاقة المتجددة والعلوم البيئية والزراعة، فضلًا عن مؤتمرات علمية ودورات تدريبية في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية.
نموذج فعّال للتعاون الصحي..
أثبت التعاون الصحي بين الصين والأردن نجاحه خلال جائحة كوفيد-19، حيث قدمت الصين مساعدات طبية إلى الأردن، شملت أجهزة تنفس وكمامات ومستلزمات وقائية، وأجهزة تنفس اصطناعي ومستشعرات حرارة.
ومن خلال الاستجابة المباشرة للحكومة الصينية، عبر سفارتها في عمّان، تم التنسيق مع وزارة الصحة الأردنية، للتعاون في المجال اللوجستي والطبي في فترات حرجة من الأزمة الصحية.
وفي خطوة نوعية، تم توقيع اتفاقيات لإدخال اللقاح الصيني “سينوفارم” إلى الأردن، وقد تم استخدامه ضمن برنامج التطعيم الوطني، مما يعكس الثقة المتبادلة في الشراكة الصحية.
وحتى قبل كوفيد-19، كان التعاون بين البلدين في هذا المجال يشمل مجالات متعددة، أبرزها مواجهة الأوبئة والكوارث الصحية وتبادل الخبرات والتدريب الطبي، إضافة إلى تقديم المساعدات الصحية كالأدوية والمستلزمات الطبية.
كذلك أرسلت الصين فرقًا طبية زائرة إلى الأردن لبحث التعاون المشترك، وتبادل التجارب في إدارة النظم الصحية، وزار وفد من وزارة الصحة الأردنية عدة مستشفيات وجامعات طبية صينية للاطلاع على النظام الصيني في الرعاية الصحية الأولية والمستشفيات الذكية.
ونظرًا لتمتع الأردن بسمعة قوية في قطاع الأدوية، خاصة في الأسواق العربية، فإن ذلك يجعله شريكًا محتملًا لصادرات صينية عبره، كما يمكن أن يستفيد الأردن من الخبرة الصينية في تصنيع الأدوية منخفضة الكلفة عبر إقامة شراكات مع شركات صينية في مدينة السلط الدوائية أو منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة.
طريق الحرير الصحي..
أطلقت الصين مبادرة طريق الحرير الصحي في إطار الحزام والطريق، وتهدف إلى تعزيز البنية الصحية في الدول الشريكة، وبناء مراكز طبية متطورة، إضافة إلى دعم إنشاء شبكات إنذار مبكر بالأوبئة، وتشجيع البحث المشترك في مجالات الصحة العامة.
ويمكن أن يستفيد الأردن من هذه المبادرة لتمويل مشاريع صحية، خاصة في المناطق الريفية أو المراكز الصحية التابعة للاجئين.
مع سعي الأردن لتنويع تحالفاته الاقتصادية، وسعي الصين لتعميق نفوذها في العالم العربي عبر مبادرة الحزام والطريق، تبدو آفاق التعاون بين بكين وعمّان واعدة أكثر من أي وقت مضى.
لكن نجاح هذه الشراكة يتطلب توازناً دقيقاً يحافظ فيه الأردن على استقلالية قراره السياسي والاقتصادي، ويضمن تنمية حقيقية تعود بالنفع على المواطن الأردني، في ظل الانفتاح المتزايد على العملاق الآسيوي.
*صحافية سورية
**ينشر بالتعاون مع مركز الدراسات الآسيوية والصينية في لبنان