تونس والصين.. شراكة استراتيجية على طريق الحرير

شؤون آسيوية – إعداد: رغد خضور –

 

في تقاطع طريق الحرير القديم وشواطئ المتوسط، تلتقي الصين وتونس في علاقة تتجاوز المسافات والاختلافات الثقافية؛ فهي ليست مجرد شراكة دبلوماسية، بل حوار حضاري تتخلله مبادرات تنموية واستثمارات استراتيجية. وفي كل مشروع مشترك، تنسج الدولتان خيوط تعاون يمزج بين الحكمة الشرقية والطموح المغاربي.

 

شراكة سياسية متينة

تعود جذور العلاقة بين الصين وتونس إلى عام 1964، حين أقامت تونس علاقات دبلوماسية مع بكين، لتكون من أوائل الدول الإفريقية التي تعترف بجمهورية الصين الشعبية. وجاء هذا التوجه في ظل استقطاب عالمي حاد خلال الحرب الباردة، ما عكس رغبة تونس في انتهاج سياسة خارجية مستقلة ومتوازنة.

وعلى مرّ السنوات، حافظت العلاقات الثنائية على طابعها الهادئ والمستقر، لتتوسع بشكل ملحوظ منذ تسعينيات القرن الماضي، مع تصاعد الدور الاقتصادي للصين وسعي تونس إلى تنويع شركائها الدوليين.

 

لقاءات رفيعة المستوى

شهدت العلاقات التونسية-الصينية دفعة قوية من خلال زيارات رسمية متبادلة على أعلى المستويات. ففي عام 2014، زار رئيس الحكومة التونسية آنذاك، الباجي قائد السبسي، الصين وناقش سبل تعزيز التعاون الثنائي. كما شاركت تونس بوفد رفيع في منتدى “الحزام والطريق” للتعاون الدولي عام 2017.

ومن الجانب الصيني، زار وزراء خارجية الصين تونس عدة مرات، أبرزها في عامي 2020 و2022، حيث جدّدت بكين دعمها لجهود التنمية في تونس، وأكدت عمق الشراكة السياسية. ولعب السفراء الصينيون في تونس دوراً نشطاً في دعم مشاريع التعاون الثنائي.

 

مبادئ ثابتة

ترتكز العلاقات السياسية بين البلدين على جملة من المبادئ المشتركة، أبرزها احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وبينما تدعم الصين استقرار تونس في مراحلها الانتقالية، تجدد تونس التزامها بمبدأ “الصين الواحدة”.

كما يتقاطع البلدان في دعمهما لنظام عالمي متعدد الأقطاب يعزّز دور الأمم المتحدة ويحترم القانون الدولي، مع رفض ربط قضايا الأمن والتنمية بشروط سياسية. ويتعاون البلدان في إطار الأمم المتحدة والمنتديات الدولية الأخرى لتعزيز الحوار بين الشمال والجنوب.

 

تنسيق في المحافل الدولية

تسجّل تونس والصين تنسيقًا متقدّمًا في المنظمات الدولية، لا سيما في الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان، حيث تبنّت تونس مواقف متوازنة تجاه القضايا المرتبطة بالصين.

وفي إطار منتدى التعاون الصيني-الإفريقي، تشارك تونس بفعالية وتدعو إلى تعزيز الاستثمارات الصينية في شمال إفريقيا. كما تلتزم بالمواقف العربية المشتركة في منتدى التعاون العربي-الصيني، وتؤيد إقامة منطقة تجارة حرّة مع الصين مستقبلاً.

وتعتمد العلاقة بين تونس وبكين على آليات دبلوماسية منتظمة تشمل لجانًا مشتركة ومشاورات سياسية دورية.

 

تبادل تجاري نشط

تُعدّ الصين أحد أهم الشركاء التجاريين لتونس في آسيا، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 2.2 مليار دولار سنويًا في السنوات الأخيرة، وإن كان يميل لصالح الصين، مما يجعلها من أكبر مورّدي السلع إلى السوق التونسية.

وتتركز الواردات الصينية في المعدات والآلات الكهربائية، والمنتجات الإلكترونية والهواتف، إضافة إلى النسيج ومواد البناء.

في المقابل، تبقى الصادرات التونسية إلى الصين محدودة وتشمل أساسًا الفوسفات، وزيت الزيتون، وبعض المنتجات الفلاحية الموسمية. هذا التفاوت أدّى إلى اختلال هيكلي في الميزان التجاري لصالح الصين، ما يطرح تحديًا على الاقتصاد التونسي.

 

استثمارات صينية محدودة

رغم الزخم التجاري، لا تزال الاستثمارات الصينية المباشرة في تونس محدودة نسبيًا، ويُعزى ذلك إلى هشاشة المناخ القانوني، وتذبذب السياسات الاستثمارية، فضلًا عن المنافسة الأوروبية في السوق المحلية.

ومن أبرز المشاريع الصينية في تونس:

المدينة الصناعية الصينية – جبل الوسط: مشروع استراتيجي في إطار مبادرة الحزام والطريق، لا يزال في طور الدراسة.

مشاريع البنية التحتية: بمشاركة شركات كبرى مثل CSCEC وCMEC، تشمل طرقًا وجسورًا وتطوير السكك الحديدية والموانئ.

قطاع الطاقة: هناك اهتمام متزايد بمشاريع الطاقة الشمسية، وتحلية المياه، وتطوير الشبكات الذكية.

الاتصالات: تلعب شركة هواوي دورًا مهمًا في تحديث البنية التحتية، لا سيما في مشروع الجيل الخامس بالشراكة مع “اتصالات تونس”.

كذلك توفر الصين لتونس تمويلات ميسّرة لمشاريع تنموية تشمل بناء مستشفيات، وتجديد مؤسسات تعليمية، وتحديث منظومة النقل. كما قدّمت منحًا غير مستردة لمشاريع حيوية، منها مستشفى الأطفال بمنوبة، ومرافق جامعية وتعليمية.

 

الحزام والطريق… بُعد استراتيجي جديد

منذ انضمام تونس إلى مبادرة الحزام والطريق عام 2018، اكتسب التعاون بين البلدين طابعًا استراتيجيًا، خصوصًا في مجالات النقل والخدمات اللوجستية، من خلال تطوير الموانئ ومشاريع الربط السككي والبحري لتعزيز دور تونس كمركز لوجستي.

إلى جانب ذلك، تدعم الصين إنشاء مناطق صناعية وتجارية حرّة موجّهة للتصدير نحو الأسواق الإفريقية.

وتُعدّ تونس بوابةً مهمة لإفريقيا وأوروبا، مما يجعلها نقطة محورية في الحزام الاقتصادي لطريق الحرير البحري، خاصة من خلال ميناء رادس وميناء النفيضة مستقبلًا.

وفيما تشجّع الصين الشراكات مع الجانب التونسي لنقل التكنولوجيا في مجالات الاتصالات والطاقة والرقمنة، تشارك تونس في عدد من المشاريع النموذجية للتعاون الصيني-الإفريقي.

ورغم الفرص المتاحة، تواجه العلاقات الاقتصادية الصينية-التونسية العديد من التحديات، منها العجز التجاري المتزايد، والانتقادات المتعلقة بجودة بعض المنتجات الصينية، فضلًا عن محدودية حجم الاستثمارات مقارنة بإمكانيات التعاون.

 

طريق الحرير الثقافي

بدأ التعاون الثقافي رسميًا بين البلدين بتوقيع أول اتفاقية عام 1966، وتوالت بعدها سلسلة من التحديثات لتشمل تبادل الفرق الفنية، وتنظيم أسابيع ثقافية، ودعم الترجمة والنشر، وتعليم اللغات.

وفي إطار مبادرة “الحزام والطريق”، انخرطت تونس فيما يُعرف بـ”طريق الحرير الثقافي”، من خلال تبادل زيارات الكتّاب والفنانين، وتنظيم معارض فنية مشتركة، والتعاون في مشاريع ترميم التراث.

 

فعاليات ثقافية متبادلة

يشهد التعاون الثقافي حضورًا فعّالًا في شكل أنشطة وتظاهرات، كتنظيم أسابيع ثقافية صينية في تونس، تتضمّن عروض أوبرا بكين، وفنونًا قتالية، ومعارض للخط والرسم، وأفلامًا صينية مترجمة.

كما تشارك تونس في فعاليات ثقافية دولية تُقام في الصين، مثل مهرجان طريق الحرير، ومنتدى الحضارات القديمة، وبينالي بكين للفنون.

وفي مجال الترجمة، هناك تعاون متزايد من خلال مبادرات مثل “آداب طريق الحرير”، التي ساهمت في ترجمة أعمال أدبية من الصينية إلى العربية والعكس.

 

إعلام وسياحة ثقافية

يشمل التعاون الثقافي أيضًا المجال الإعلامي والسياحي. فمن جهة، يستفيد صحفيو تونس من دورات تدريبية في الصين، كما تربط مؤسسات إعلامية تونسية شراكات مع قناة CGTN الصينية لتبادل المحتوى.

وفي السياحة، تسجّل الزيارات الصينية إلى تونس ارتفاعًا تدريجيًا، بفضل إعفاء حاملي الجوازات الرسمية من التأشيرة، وتنظيم برامج سياحية تراعي الأبعاد الثقافية، مثل زيارة قرطاج وسيدي بوسعيد والمتاحف.

 

تبادل علمي ومنح دراسية

توفر الصين سنويًا عشرات المنح الدراسية الكاملة للطلبة التونسيين، تشمل تكاليف الدراسة والمعيشة، إلى جانب برامج تمهيدية لتعليم اللغة الصينية. وتُخصّص هذه المنح لمجالات حيوية مثل الهندسة، والطب، والإعلام، والاقتصاد، وتكنولوجيا المعلومات، بالتنسيق بين وزارة التعليم العالي التونسية والسفارة الصينية في تونس.

كما يوجد تبادل دوري للأساتذة والباحثين، من خلال المشاركة في المؤتمرات الأكاديمية، والدورات التدريبية المتخصصة، واستضافة خبراء صينيين في الجامعات التونسية.

وقد وقّعت عدة مؤسسات جامعية تونسية اتفاقيات تعاون مع نظيراتها الصينية، مثل جامعة بكين للدراسات الأجنبية وجامعة شنغهاي للاتصالات، ونجم عن ذلك تنفيذ مشاريع بحثية ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، شملت مجالات الطاقة المتجددة، والتكنولوجيا الحيوية، والموارد الطبيعية.

 

كونفوشيوس واللغة الصينية

شهدت السنوات الأخيرة توسعًا ملحوظًا في تعليم اللغة والثقافة الصينية في تونس، ويأتي في مقدّمة هذه الجهود معهد كونفوشيوس بجامعة قرطاج، الذي أُنشئ عام 2014، ويؤدي دورًا محوريًا في تدريس اللغة والثقافة الصينية، إلى جانب تنظيم ورشات في الخط والطهي والفنون القتالية. ويستقطب المعهد سنويًا مئات الطلبة من تخصصات متعددة.

وفي إطار شراكة تربوية مباشرة بين البلدين، تم إدراج اللغة الصينية كمادة اختيارية في عدد من المعاهد الثانوية النموذجية بتونس.

 

منتديات تعليمية وتعزيز مهني وتقني

تنظّم الصين برامج تدريب قصيرة المدى لفائدة كفاءات تونسية في قطاعات مثل تكنولوجيا المعلومات، وإدارة الكوارث، والأمن الغذائي. كما طُرحت مبادرات لإنشاء مراكز تكوين صناعية متخصصة بالشراكة بين البلدين، تركز على الصناعات الذكية والطاقة المتجددة.

وتشارك تونس بانتظام في المنتديات التعليمية لمبادرة “الحزام والطريق”، التي تركز على تبادل الطلبة، والاعتراف المتبادل بالشهادات الجامعية، وتوسيع شبكات البحث الإقليمي.

وقد انضمت الجامعات التونسية إلى “تحالف جامعات الحزام والطريق”، الذي يضم أكثر من 150 جامعة من آسيا وإفريقيا وأوروبا.

 

تاريخ حافل بالبعثات والخدمات الطبية

يتواصل التعاون الصحي والطبي بين البلدين منذ أكثر من خمسين عامًا، من خلال برامج متنوعة شملت البعثات الطبية، والبنية التحتية الصحية، والطب التقليدي، ومكافحة الجوائح، والتدريب المتخصص.

أرسلت الصين أول بعثة طبية إلى تونس عام 1974، ومنذ ذلك الحين، استمرت الفرق الطبية الصينية في تقديم خدماتها بشكل دوري، خاصة في المناطق الداخلية مثل القصرين وسيدي بوزيد وقبلي وتطاوين، مما ساعد في تخفيف الضغط عن المستشفيات الكبرى، وتوفير الرعاية الصحية في مناطق تعاني من نقص الكوادر الطبية.

وبفضل وجود البعثات الصينية، شهدت تونس انتشارًا للطب التقليدي الصيني، لا سيما الوخز بالإبر والعلاج بالأعشاب، وقد تم إدراج أقسام تجريبية للطب الصيني في بعض المستشفيات، لا سيما في جنوب البلاد، بإشراف أطباء مختصين من الصين.

 

مساعدات تقنية

ساهمت الصين في بناء وتجهيز مؤسسات صحية تونسية، من أبرزها مستشفى الأطفال بمنوبة، الذي تم إنشاؤه كمنحة صينية غير مشروطة، إلى جانب تجهيز مراكز صحية محلية في المناطق الريفية. كما قدمت معدات طبية متطورة، شملت أجهزة تصوير بالرنين المغناطيسي (IRM)، ومختبرات، وسيارات إسعاف.

وبعد انضمام تونس إلى مبادرة “طريق الحرير الصحي”، التي أطلقتها الصين لتعزيز التعاون في مجالات التدريب الطبي، والدعم التقني، والصناعات الدوائية، أضفى ذلك بُعدًا جديدًا على الشراكة الصحية بين البلدين.

 

مواجهة مشتركة لجائحة كوفيد-19

أثبت التعاون التونسي-الصيني فاعليته خلال جائحة كوفيد-19، حيث كانت الصين من أولى الدول التي أرسلت مساعدات طبية شملت كمامات، وأجهزة تنفّس، وكواشف PCR.

كما تم تنظيم لقاءات افتراضية بين أطباء البلدين لتبادل الخبرات في إدارة الأزمات الصحية، وتلقّت تونس دفعات من لقاحي “سينوفارم” و”سينوفاك”، ما ساعد على تسريع حملة التلقيح، خاصة في المناطق النائية.

 

تمثّل العلاقات الصينية-التونسية نموذجًا متوازنًا للشراكة بين دولة نامية وأخرى صاعدة، قائمة على المصالح المشتركة والمكاسب المتبادلة.

ومع تسارع التحوّلات الدولية، تبرز تونس كشريك استراتيجي موثوق ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، ومن المتوقّع أن تشهد العلاقات مزيدًا من التطور، بما يعزّز دور تونس كلاعب محوري في شبكة التعاون الدولي متعددة الأبعاد.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *