شؤون آسيوية – الخرطوم – خاص –
تحولت مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، اليوم إلى بؤرة كارثية تختزل معاناة السودان بأسره: دمار شامل، نزوح جماعي، وانهيار إنساني لم تعرف له البلاد مثيلاً منذ عقود، بعد أن كانت على مدى قرون مركزاً سياسياً واقتصادياً وثقافياً للإقليم.
في الأيام الأخيرة، تصاعدت وتيرة الأحداث بشكل درامي، بعدما أعلنت قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) سيطرتها الكاملة على الفاشر، في ما وصفته الأمم المتحدة بأنه “تصعيد مروع” في النزاع الدائر.
هذا التطور، الذي أعقب حصاراً دام 18 شهراً للمدينة، مثّل منعطفاً حاسماً في مسار الحرب، إذ فقد الجيش السوداني آخر معاقله الرئيسة في إقليم دارفور، تاركاً مئات الآلاف من المدنيين عالقين في أتون العنف والدمار.
انسحاب الجيش وتصريحات البرهان
قائد الجيش السوداني ورئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، أقرّ بانسحاب قواته من الفاشر بعد معارك عنيفة استمرت شهوراً.
وفي خطاب بثه التلفزيون الرسمي، قال البرهان إن “القيادة في الفاشر قدّرت أنه يجب مغادرة المدينة نظراً لما تعرضت له من تدمير وقتل ممنهج للمدنيين”، مضيفاً أنه وافق على انسحاب القوات “تجنّباً لمزيد من الدمار”.
وشدد على أن الجيش “سيقتص لما حدث لأهل الفاشر”، مؤكداً أن ما يجري “محطة من محطات العمليات العسكرية المفروضة على البلاد”، مضيفاً بأن “القوات المسلحة ستنتصر لأنها مسنودة بالشعب ويقاتل معها كل أبناء الوطن”، موجهاً اتهامات للمجتمع الدولي بالصمت حيال الجرائم المرتكبة، حسب قوله.
تصريحات البرهان، التي جاءت عقب انتشار مقاطع مصورة أظهرت مقاتلي الدعم السريع يحتفلون داخل مقر الفرقة السادسة مشاة، عكست إدراك القيادة العسكرية لحجم الخسارة الاستراتيجية، إذ كانت الفاشر تمثل مركز القيادة الغربية للجيش، وبوابة الإمدادات نحو دارفور الكبرى، وسقوطها يعني عملياً فقدان الجيش السيطرة على الإقليم بأكمله، باستثناء بعض الجيوب الصغيرة في الشرق والشمال.
الدعم السريع تُعلن الانتصار
في المقابل، أعلنت قوات الدعم السريع أنها “أحكمت السيطرة الكاملة” على المدينة، بما في ذلك مقر القيادة العسكرية ومطار الفاشر، معتبرة ذلك نصراً “تاريخياً” يعزز موقعها في الصراع.
وأظهرت مشاهد تم التحقق منها من قبل وكالات دولية مثل “رويترز” و”بي بي سي” مقاتلين من الدعم السريع داخل المقر العسكري يرفعون راياتهم ويهتفون بانتصارهم، بينما تنتشر حولهم الجثث والمركبات المحترقة.
وفيما احتفى قادة الدعم السريع بهذا التقدم باعتباره “تحريراً للمدينة”، توالت تقارير المنظمات الحقوقية والإنسانية لتصف ما يجري بأنه “واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في السودان”.
تقارير عن مجازر وعمليات تصفية عرقية
مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أكد تلقيه “تقارير متعددة ومقلقة” عن فظائع واسعة النطاق ارتكبتها قوات الدعم السريع بعد دخولها الفاشر.
المفوض السامي فولكر تورك قال إن المعلومات الأولية تشير إلى “وضع شديد الخطورة”، متحدثاً عن “إعدامات بإجراءات موجزة للمدنيين ومحاولات تطهير عرقي ذات دوافع قبلية”.
وأفاد المكتب بأن مقاطع الفيديو التي تم التحقق منها أظهرت عشرات الرجال العزل يُطلق عليهم الرصاص أو تُترك جثثهم في الشوارع، بينما يحيط بهم مقاتلون من الدعم السريع يتهمونهم بالانتماء إلى الجيش.
كما وردت تقارير عن احتجاز مئات المدنيين بينهم صحفيون، إلى جانب عمليات اغتصاب ونهب واسع للممتلكات والمرافق الطبية.
من جهتها، تحدثت شبكة أطباء السودان عن “عمليات قتل بدوافع عرقية طالت العشرات”، ونهب مستشفيات وصيدليات، مؤكدة، في بيان لها، أن “قوات الدعم السريع اختطفت ستة من الكوادر الطبية وطالبت بفدية مالية لإطلاق سراحهم”، في مشهد يعكس انهياراً كاملاً لسيادة القانون في المدينة.
الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر
الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، وصف الأحداث في الفاشر بأنها “تصعيد مروّع” ودعا إلى “توفير ممر آمن للمدنيين العالقين داخل المدينة وخارجها”.
وأضاف، خلال مؤتمر صحفي في ماليزيا، أن “المجتمع الدولي مطالب بالتحدث بوضوح مع الدول التي تقدم السلاح للأطراف المتحاربة، لأن التدخلات الخارجية تزيد النار اشتعالاً”.
وفي نيويورك، قالت دينيس براون، منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في السودان، إن “الوضع في الفاشر بشع بكل المقاييس”، مؤكدة أن آلاف المدنيين يحاولون الفرار لكن الطرق مليئة بالمليشيات المسلحة التي تحتجز الفارين مقابل فدية أو تهاجمهم.
وأوضحت أن الأمم المتحدة “جاهزة لإدخال 42 شاحنة محملة بالمساعدات الإنسانية” إذا تم السماح لها بالدخول، محذّرة من أن “التجويع يُستخدم كسلاح حرب في الفاشر”.
وبدوره، أكد توم فليتشر، أحد كبار مسؤولي الشؤون الإنسانية في المنظمة الدولية، أن “مئات الآلاف من المدنيين يعيشون حصاراً مرعباً، ويتعرضون للقصف والجوع والمرض”، مطالباً بالسماح بمرور آمن وإمدادات فورية.
ردود فعل دولية غاضبة
توالت الإدانات الدولية بعد تأكيد سيطرة الدعم السريع على المدينة، حيث أعربت الحكومة الألمانية عن “ذهولها من التقارير المروعة”، وقالت في بيان رسمي إن “المقاتلين يقتلون المدنيين بشكل عشوائي، وهذا يجب أن يتوقف فوراً”، مضيفة أن “قادة الدعم السريع تعهدوا بحماية المدنيين وسيتحملون المسؤولية”.
فيما جددت الولايات المتحدة الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار، وأكدت أنها تجري مشاورات مع دول مؤثرة في الإقليم لإطلاق مفاوضات سياسية جديدة.
ومن جهته، دعا المستشار الدبلوماسي الإماراتي أنور قرقاش إلى “التعقل والواقعية”، مشدداً على أن “الحل السياسي هو السبيل الوحيد لإنهاء الحرب”، في إشارة إلى خريطة الطريق التي طرحتها المجموعة الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، بريطانيا).
كارثة إنسانية شاملة
وراء المعارك العسكرية، تتكشف مأساة إنسانية متفاقمة، إذ لا يزال أكثر من 250 ألف مدني عالقين داخل المدينة، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، في ظل انقطاع شبه تام للاتصالات والكهرباء والمياه.
السكان يعيشون على ما تبقى من مخزون الطعام، فيما اضطر البعض لتناول علف الحيوانات للبقاء على قيد الحياة.
وبحسب منظمات محلية فإن الأسعار بلغت مستويات “خرافية”، وإن بعض العائلات تبيع ممتلكاتها مقابل كيس من الدقيق أو لتر من الوقود.
ووفق شهادات ميدانية، باتت الأوبئة تنتشر بسرعة في أحياء المدينة بسبب تراكم الجثث وغياب الخدمات الصحية.
الفاشر كانت لعقود مركزاً لعمليات الإغاثة وبعثة “اليوناميد” الأممية، لقربها من معسكرات النازحين مثل أبو شوك وزمزم، لكنها اليوم تحولت إلى منطقة مغلقة بالكامل، لا تصلها الإمدادات الطبية ولا القوافل الإنسانية منذ شهور.
تحذيرات من تقسيم السودان
يرى مراقبون أن سقوط الفاشر يحمل تداعيات تتجاوز حدود دارفور، فهي ليست مجرد مدينة استراتيجية، بل آخر مركز حضري كبير كان تحت سيطرة الجيش في الغرب، وبالتالي فإن سيطرة الدعم السريع عليها تعني عملياً بسط نفوذها على الإقليم بأكمله، وهو ما قد يفتح الباب أمام تقسيم فعلي للبلاد إلى مناطق نفوذ متناحرة.
الخبير العسكري اللواء المتقاعد عصام عباس أوضح أن “سيطرة الدعم السريع على الفاشر تمنحها عمقاً جغرافياً يمتد من الحدود الليبية شمالاً إلى أفريقيا الوسطى جنوباً، ما يتيح لها إنشاء قاعدة عمليات مركزية لإدارة الصراع”، مضيفاً أن هذا التطور “رفع من معنويات قوات الدعم السريع وعزز روايتها الإعلامية كقوة منتصرة”.
في المقابل، يرى أن “الجيش السوداني ما زال يمتلك عناصر قوة مهمة، أبرزها التفوق الجوي وقدرته على المناورة في شمال البلاد”، لكنه اعتبر أن “خسارة الفاشر ضربة معنوية كبيرة ستجبر القيادة العسكرية على إعادة تقييم استراتيجيتها”.
اتهامات بتدخل خارجي
تزايدت التقارير التي تتحدث عن دعم خارجي للأطراف المتحاربة، حيث كشفت صحيفة “الغارديان” البريطانية عن العثور على معدات عسكرية بريطانية الصنع في ساحات القتال بالسودان، بينها أنظمة تصويب ومحركات لمركبات مدرعة، قالت الأمم المتحدة إنها استُخدمت من قبل قوات الدعم السريع.
ورغم نفي الإمارات أي تورط مباشر، فإن هذه التقارير أعادت تسليط الضوء على اتهامات بتزويد قوات الدعم السريع بالسلاح عبر وسطاء إقليميين.
الأمين العام للأمم المتحدة دعا مجدداً إلى “وقف تدفق الأسلحة” إلى السودان، محذراً من أن استمرار الدعم العسكري لأي طرف “سيحول البلاد إلى ساحة حرب مفتوحة بالوكالة”.
دلالات استراتيجية وتاريخية
تاريخياً، كانت الفاشر عاصمة سلطنة دارفور في القرن السابع عشر، ومركزاً سياسياً وثقافياً بارزاً حتى ضم الإقليم إلى السودان عام 1916.
جغرافياً، تتمتع المدينة بموقع محوري يربط شمال ووسط وغرب دارفور، وتُعد معبراً تجارياً رئيسياً نحو ليبيا وتشاد ومصر.
وتبلغ مساحة ولاية شمال دارفور وحدها نحو 296 ألف كيلومتر مربع، أي ما يعادل 12% من مساحة السودان، وتضم أكثر من نصف سكان الإقليم. السيطرة على الفاشر تعني السيطرة على شبكة الطرق الحيوية وخطوط الإمداد بين دارفور الكبرى وبقية البلاد.
من الناحية العسكرية، تعد المدينة مقراً للفرقة السادسة مشاة ومطاراً عسكرياً استراتيجياً، إضافة إلى مخازن ضخمة للسلاح والذخيرة، ما يجعلها هدفاً بالغ الأهمية لأي طرف في النزاع.
الفاشر.. مرآة للسودان المنهك
المأساة التي تتكشف في الفاشر تعكس حال السودان بأسره، أكثر من 150 ألف قتيل، وقرابة 12 مليون نازح، ونصف السكان يواجهون الجوع، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
الجهود الدبلوماسية حتى الآن لم تفلح في كبح التصعيد، وعلى الرغم من الاجتماعات التي عقدتها واشنطن مع مسؤولين من مصر والسعودية والإمارات لمناقشة خطة سلام جديدة، إلا أن الانقسامات الإقليمية وتضارب المصالح لا تزال تحول دون أي تقدم حقيقي.
