شؤون آسيوية – دمشق –
منذ الأيام الأولى لسقوط النظام في سوريا في الثامن من ديسمبر 2024، تبدّلت خريطة السيطرة في جنوب سوريا بصورة دراماتيكية، وبرز الحضور الإسرائيلي العسكري العلني في ريفي القنيطرة ودرعا كحدث محوري يفرض نفسه على المشهد السوري والإقليمي.
على الطرق الترابية والفواصل الحدودية التي كانت تُعد مناطق عازلة تحت إشراف الأمم المتحدة منذ اتفاقية فصل القوات لعام 1974، بدأت قوات الاحتلال الإسرائيلي بتكثيف عمليات توغلها داخل الأراضي السورية، في مسار تصعيدي اتسم بالتوسع الجغرافي والجرأة العملياتية، مصحوباً بجملة من الانتهاكات التي طالت السكان المحليين، وأعادت رسم معالم النفوذ جنوب سوريا.
وفق معطيات مصادر إعلامية وميدانية متعددة، فإن القوات الإسرائيلية نفذت ما يفوق 400 عملية توغل بري منذ سقوط النظام السابق، وما يزيد عن 1000 غارة جوية، في سياق عسكري أوسع هدفه تثبيت سيطرة فعلية على أجزاء واسعة من القنيطرة ودرعا، وتغيير الواقع الأمني والسياسي القائم في تلك المنطقة الحساسة.
وتكشف تقارير منظمات حقوقية وأقمار صناعية عن بناء تسع قواعد عسكرية جديدة داخل الأراضي السورية وفي محيط المنطقة العازلة، بالإضافة إلى حواجز ثابتة ومراكز مراقبة، وانتشار متواصل للدوريات المدرعة.
ويعكس هذا التوسع رغبة إسرائيل في صياغة معادلة جديدة تتجاوز ما نصت عليه اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974، التي أعلنت تل أبيب عملياً انهيارها بعد يوم واحد من سقوط الأسد.
في أحدث التحركات الميدانية، جددت إسرائيل توغلها الأربعاء داخل بلدة جباتا الخشب بريف القنيطرة الشمالي، حيث دخلت قوة مكونة من دبابتين و4 سيارات عسكرية، وأقامت حاجزاً عسكرياً في مدخل منطقة الكسارات على الطريق الواصل إلى قرية عين البيضا.
الحكومة السورية لم تعلّق على العملية، لكن وزارة الخارجية أدانت عبر بيان رسمي الانتهاكات المتكررة ووصفتها بأنها “خرق صارخ لاتفاقية 1974 لفض الاشتباك”، مطالبة المجتمع الدولي بالتحرك “لوقف الاعتداءات”.
وبالتوازي، أفادت وسائل إعلام سورية أن القوات الإسرائيلية اعتقلت عاملين سوريين في المحجر المحلي خلال العملية ذاتها، في سياق ما بات يوصف بعمليات الاعتقال الممنهج التي تستهدف مدنيين تحت ذرائع أمنية.
هذه الحادثة لم تكن معزولة، إذ توغلت، قبل يومين، قوة إسرائيلية تضم 11 عربة عسكرية و4 دبابات في مناطق العجرف والمشيرفة وأم باطنة بالقنيطرة، ونفذت عمليات تفتيش داخل بعض المنازل، قبل انسحابها لاحقاً.
وفي توغل آخر سابق، ذكرت “سانا” أن دورية إسرائيلية مكونة من 12 عربة عسكرية وناقلات جند توغلت في قرية أوفانيا وصولاً إلى التل الأحمر، ومنذ أسابيع، تقوم قوات الاحتلال بإغلاق طرق الريف عبر بوابات حديدية تفصل القرى عن بعضها، ما يشكل حالة خنق جغرافي للسكان ويحد من حركة المزارعين نحو أراضيهم.
تصاعد توغل القوات الإسرائيلية في القنيطرة وريف درعا لم يعد حدثاً طارئاً، بل مشهداً يومياً يتكرر وسط صمت دولي لافت، وقلق شعبي يتزايد مع اتساع رقعة الاعتقالات والتجريف والاستيلاء على الأراضي.
منظمات محلية توثق اعتقال ما لا يقل عن 5 مدنياً سورياً منذ مطلع 2025، بينهم قُصّر لم تتجاوز أعمارهم 16 عامًا، تحت مسمى “قانون مقاتل غير شرعي” الذي يتيح لإسرائيل احتجاز المدنيين دون لوائح اتهام أو ضمانات محاكمة عادلة.
ويقول حقوقيون إن بعض المعتقلين السوريين محتجزون في “قسم سري تحت الأرض داخل سجن الرملة”، المعروف باسم “راكيفت”، حيث يمنع التواصل بينهم، ويخضعون للمراقبة المستمرة على مدار 24 ساعة داخل الزنازين.
ومن بين القصص المؤلمة التي تتكرر في جنوب سوريا، رواية بهاء وعلي العبد الله، وهما شابان من درعا، اعتقلتهما قوات الاحتلال بعد إطلاق النار عليهما خلال زيارة عائلية، نُقلا إلى مستشفى في الداخل المحتل بدعوى تلقي العلاج، ثم اختفيا بعد ذلك في دائرة الاعتقال السري، بينما لا يزال أهلهما يتلقون إجابات مقتضبة من الصليب الأحمر بأنهما “قيد التحقيق”.
ويتكرر المأزق نفسه مع المعتقل وديع بكر، البالغ من العمر 21 عاماً من بلدة طرنجة، والذي قبض عليه عند حاجز إسرائيلي “طارئ” دون مبرر، ولا تملك عائلته أي معلومات عن مصيره.
وفق بيانات المرصد السوري لحقوق الإنسان، بلغ عدد التوغلات العسكرية الإسرائيلية 314 توغلاً خلال أقل من عام واحد فقط، توزعت شهرياً بين عمليات محدودة وأخرى موسعة شملت دبابات ومدرعات وجرافات عسكرية.
في ديسمبر وحده، سجل المرصد 14 عملية توغل، ثم تتابعت الأعداد بشكل تصاعدي خلال 2025، وصولاً إلى شهر أكتوبر الذي شهد 40 توغلًا، ويوضح الرصد أن التوغلات جاءت مصحوبة بتجريف أراضٍ زراعية، واقتحام مواقع عسكرية سورية مدمرة سابقاً، وتدمير بنى تحتية، وإقامة نقاط عسكرية مؤقتة ودائمة.
ولا يقتصر التمدد الإسرائيلي على العمليات الميدانية، بل يتعداه إلى هندسة واقع سياسي جديد في الجنوب السوري، فبعد زوال القوة العسكرية السورية اعتبرت إسرائيل أن الفرصة باتت سانحة لـ”نزع السلاح من الجنوب السوري” وإقامة ترتيبات أمنية جديدة مع الحكومة السورية الحالية، التي يقودها الرئيس الانتقالي أحمد الشرع.
وتشير تقارير إعلامية إلى أن عدة جولات تفاوض عقدت في باكو وباريس ولندن بوساطة المبعوث الأميركي لدى سوريا، لكنها تعثرت مع رفض دمشق شروطاً إسرائيلية تمس السيادة السورية.
وبالتوازي، قال مسؤولون إسرائيليون إن التفاوض الأمني ليس هدفه فقط تثبيت وقف إطلاق النار، بل الحصول على امتيازات استراتيجية تضمن لإسرائيل وجوداً طويل الأمد في منطقة تعتبرها “عمقاً أمنياً جديداً”.
وتتحدث مصادر دبلوماسية غربية عن ضغوط تمارسها الولايات المتحدة على دمشق وتل أبيب للوصول إلى اتفاق يحد من التوتر على الحدود، بالتزامن مع زيارة مرتقبة للرئيس السوري إلى واشنطن للقاء الرئيس الأميركي.
ويؤكد محللون أن إسرائيل تسعى إلى تحويل الجنوب السوري إلى “منطقة نفوذ مباشر”، ما أدى إلى تغيير مهام قوات الأمم المتحدة العاملة في فض الاشتباك “أندوف”، فبعد أن كانت تقوم يومياً بـ55 – 60 دورية مراقبة، تراجع عدد الدوريات إلى 3 – 5 فقط، مع رصد حالات لمنع قوات الاحتلال تحرك آليات الأمم المتحدة.
عملياً، بات السكان المحليون هم الضحية المباشرة لهذا التحول الجيوسياسي، فالمزارعون في ريف القنيطرة يشتكون من منعهم الوصول إلى أراضيهم، لا سيما تلك الواقعة قرب الشريط الحدودي أو القواعد العسكرية الإسرائيلية المستحدثة، فيما تدمر مئات الدونمات من الغابات والأراضي الزراعية جرى وتحرق أو تجرف، ما أدى إلى خسائر مادية كبيرة وتهديد مباشر للاقتصاد الزراعي المحلي، الذي يعد مصدر الدخل الوحيد للعديد من الأسر.
كذلك أقيمت بوابات حديدية على مداخل القرى، أبرزها على طريق الحميدية – الصمدانية الغربية، قرب قرية الرواضي، في خطوة اعتبرها ناشطون “مقدمة لتحويل القرى إلى جيوب معزولة”.
ويفسّر المحلل العسكري عبد الله الأسعد هذه الإجراءات بأنها تجهيز لمسرح عمليات قتالي قادم، يتضمن تقسيم المناطق وفتح مسارات دعم لوجستي وإنشاء نقاط استناد. ويرى أن “إسرائيل تعمل على تضييق الخناق على القرى لإجبار السكان على النزوح عنها”، ما يفتح الباب أمام سيناريو شبيه بما حدث في القرى المحاذية للجدار الفاصل داخل الضفة الغربية.
تتشابك الخلفيات السياسية والعسكرية لهذه التحركات مع محاولات إسرائيل استثمار سقوط النظام السابق لإعادة صياغة الجنوب السوري بما يتناسب مع مصالحها الأمنية، ففي المقابل، تتمسك دمشق بموقفها العلني الرافض لأي اتفاق جديد يمس سيادتها على الأراضي، وتصر على أن اتفاق 1974 لا يزال قائماً، مع ذلك، تتصاعد التسريبات حول استعداد دمشق لدراسة حلول وسط، في ظل الضغط العسكري الإسرائيلي من جهة، والضغط السياسي الأميركي من جهة أخرى، فيما تشير مصادر إلى أن إسرائيل تتطلع إلى اتفاق أمني “موسّع”، يشمل ترتيبات حول الجولان المحتل وربما تطبيعاً سياسياً مستقبلاً.
ورغم أن الحكومة السورية الجديدة حرصت على ألا تشكل أي تهديد أو نشاط عسكري ضد إسرائيل، وأكدت التزامها بتجنب التصعيد، إلا أن القوات الإسرائيلية استمرت في تنفيذ ضربات جوية واسعة.
وخلال الشهور الأخيرة، استهدفت الغارات مواقع وآليات عسكرية ومستودعات أسلحة وذخائر داخل الأراضي السورية، وفي بعض الحالات، قُتل مدنيون جراء هذه الضربات، وهو أمر وثقته مصادر محلية ومنظمات إنسانية في الجنوب السوري.
من جهة أخرى، وعلى مستوى أوسع، يكشف هذا الملف عن تحول جنوب سوريا إلى ساحة تنافس إقليمي متعدد الأطراف، يمتد تأثيره إلى السياسة الداخلية السورية، والتوازنات الإقليمية بين إسرائيل وإيران وتركيا، والوجود الروسي الذي تقلص بعد سقوط النظام السابق وانسحاب وحدات روسية من مواقع كانت تشرف عليها.
إسرائيل تعتبر أن غياب قوات النظام السابقة وابتعاد مجموعات حزب الله عن الحدود بعد تسوية 2018 أزال “الخط الأحمر” الذي كان يمنعها من التحرك داخل المنطقة العازلة. وبعد تراجع النفوذ الإيراني في الجنوب، ظهرت إسرائيل كقوة انتدابية، تسعى لملء الفراغ عبر قواعد وأجهزة استخبارات وشبكات تنسيق مع جهات محلية.
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل ما يجري إعادة رسم لحدود الصراع، أم بداية تغيير في وظيفة الحدود نفسها؟
من الواضح أن التوغل الإسرائيلي في جنوب سوريا لم يعد مجرد رد فعل عسكري، بل تحول إلى مشروع إعادة هندسة جيوسياسية كاملة، يقوم على الدمج بين القوة العسكرية الميدانية والمفاوضات السياسية، والتأثير على السكان المحليين، بهدف إخراج الجنوب السوري من معادلة الصراع السوري الداخلي، وتحويله إلى جزء من معادلة صراع إقليمي أوسع. وفي ظل غياب رد دولي فعّال، وغياب قدرة سورية حقيقية على الرد، يبقى المدنيون السوريون عالقين بين أطماع الجغرافيا وقسوة الصراع، دون حماية أو أفق واضح لمستقبل منطقتهم.
وحتى اللحظة، لم يظهر ما يدل على نهاية قريبة لهذا التصعيد، بل تتزايد المؤشرات على أن إسرائيل ماضية في مشروعها الأمني والعسكري في الجنوب السوري، مستفيدة من هشاشة الوضع الداخلي السوري، وتصدع توازنات القوى الإقليمية. ومع استمرار عمليات التوغل وإقامة النقاط العسكرية ونشر البوابات الحديدية، يتحول الجنوب السوري تدريجياً إلى منطقة خاضعة لسيطرة إسرائيلية غير معلنة، بانتظار اتفاق أمني جديد قد يرسم حدود النفوذ في السنوات القادمة.

