شؤون آسيوية –
بقلم: د. هيثم مزاحم*/
أتابع الملف النووي الإيراني منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين، وفي كل سنة كانت تصدر تحذيرات إسرائيلية بأن إيران على بعد سنتين أو سنوات من حصولها على القنبلة النووية.
وكانت إيران في عهد الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي قد دخلت في مفاوضات مع الترويكا الأوروبية، المؤلفة من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، بشأن برنامجها النووي حيث وافقت طهران على التوقيع على البروتوكول الإضافي الملحق بمعاهد منع الانتشار النووي في نهاية عام 2003، وسمحت إيران بموجبه للوكالة الدولية للطاقة النووية بإجراء عمليات تفتيش مفاجئة لمنشآتها النووية.
ومع قدوم الرئيس الإيراني المتشدد محمود أحمدي نجاد في العام 2005، رفضت إيران الالتزام ببعض القيود التي وضعتها الوكالة الدولية بموجب البروتوكول الإضافي بخصوص تفتيش جميع المواقع المشتبه بها وبنسبة تخصيب اليورانيوم.
وقد استطاعت إسرائيل من تحريض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والوكالة الدولية للطاقة النووية لرفع الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي حيث تم فرض العقوبات الأممية في العام 2006 بحسب قرار مجلس الأمن رقم 1737 بعد أن رفضت إيران أن تمتثل لقرار المجلس رقم 1696 الذي طالبها بوقف برنامج تخصيب اليورانيوم.
واستمرت المزاعم الإسرائيلية السنوية بأن إيران لديها برنامجاً سرياً لتصنيع سلاح نووي وأنها على بعد عام أو عامين من تحقيق الاختراق النووي، على الرغم من إعلان وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في مناسبات عدة بأن إيران تحتاج إلى سنوات عديدة لا تقل عن ثلاث إلى خمس سنوات لتخصيب يورانيوم كافٍ لصنع قنبلة نووية، فضلاً عن قدرتها العلمية والتقنية على وضع هذا اليورانيوم المخصب في رأس صاروخ.
واستمر الشد والجذب بين إيران من جهة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى بشأن ملفها النووي، حيث تصاعدت العقوبات الأميركية والأوروبية على إيران، إلى أن نجحت المفاوضات السرية بين واشنطن وطهران في سلطنة عمان في إحداث اختراق دبلوماسي أدى لاحقاً إلى المحادثات النووية في فيينا والتي أثمرت توقيع الاتفاق النووي المعروف بخطة العمل المشتركة الشاملة، في تموز 2015.
هذا الاتفاق الذي كسر جليد العلاقات الأميركية الإيرانية بين إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما وإدارة الرئيس الإيراني حسن روحاني، لم يصمد أكثر من عامين حيث انسحب منه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أيار 2018 وفرض عقوبات شاملة وقاسية على إيران أطلق عليها تسمية “أقصى العقوبات” ضمن خطة استراتيجية لـ”تصفير تصدير النفط الإيراني”.
وعلى الرغم من خروج ترامب من الاتفاق وفرضه عقوبات أقسى من تلك التي كانت تفرضها بلاده على إيران قبل توقيع الاتفاق النووي، لم تنسحب طهران من الاتفاق واستمرت في التفاوض مع الأوروبيين في محاولة للتوصل إلى تسوية والحفاظ على الاتفاق النووي، بينما أدت العقوبات الأميركية إلى توقف تصدير أكثر من 80 في المائة من النفط الإيراني، وتدهور الوضع الاقتصادي في إيران نتيجة تراجع العائدات بالعملة الصعبة وبالتالي تدهور سعر العملة الإيرانية.
حينها بدأت طهران في تخفيف تدريجي لالتزاماتها بالاتفاق النووي لجهة نسبة تخصيب اليورانيوم وتقييد عمل مفتشي الوكالة الدولية للطاقة النووية، حيث أعلنت عن رفع نسبة التخصيب إلى 60 في المائة، بينما ينص الاتفاق النووي على نسبة تخصيب هي 3.67 في المائة.
وعلى الرغم من تولي بايدن للرئاسة وعودته للمحادثات النووية مع إيران لإحياء الاتفاق النووي، رفضت طهران التوقيع على اتفاق جديد يعود فيه الطرفان الأميركي والإيراني إلى الالتزام بخطة العمل المشتركة الشاملة، بسبب إصرارها على رفع جميع العقوبات التي فرضها ترامب عليها من جهة، ولاقتراب الانتخابات الرئاسية حيث تم انتخاب الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي. وتريد القيادة الإيرانية أن يتم توقيع أي اتفاق جديد من قبل إدارته وتسجيل هذا الإنجاز لحكومته.
وبينما لا تزال محادثات فيينا معلقة بعد شهر من استلام رئيسي لمنصبه، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز”، أن إيران أصبحت قادرة خلال فترة شهر واحد تقريباً على امتلاك ما يكفي من المواد لتزويد سلاح نووي واحد بالوقود.
وأشار تقرير صدر الإثنين الماضي، عن “معهد العلوم والأمن الدولي”، وهي مجموعة متخصصة في تحليل النتائج التي توصلت إليها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى أن تخصيب إيران خلال الصيف لليورانيوم بدرجة نقاء 60 في المائة، وهو مستوى قريب من مستوى القنبلة، قد جعل طهران قادرة على إنتاج وقود قنبلة واحدة “في غضون شهر واحد”.
وقدّر التقرير أنه بإمكان إيران “إنتاج وقود السلاح الثاني في أقل من ثلاثة أشهر، والسلاح الثالث في أقل من خمسة أشهر”.
ولفتت “نيويورك تايمز” إلى أنه رغم ذلك، فإن تصنيع رأس حربي حقيقي، أي رأس يمكن أن يصلح للتركيب على صاروخ إيراني ويتحمل إعادة دخول الغلاف الجوي، سيستغرق وقتاً أطول بكثير.
هذا التقرير أثار مخاوف غربية وإسرائيلية بالخصوص من اقتراب حصول إيران على المواد الضرورية لصنع قنبلة نووية، وهي اللازمة التي تردّدها أوساط ومصادر متخصصة أو ذات صلة، كما الأوساط السياسية والأمنية الغربية والإسرائيلية منذ أكثر من عقدين.
وقد حذّر أحد رؤساء الطاقم الذي أشرف على إعداد التقرير، ديفيد أولبرايت، من أن تصرفات إيران تشير إلى جهود من جانب الحكومة الجديدة للرئيس إبراهيم رئيسي، للبحث عن شروط جديدة، أكثر ملاءمة لها، في المفاوضات بشأن استعادة العمل بالاتفاق النووي المبرم مع القوى الكبرى عام 2015.
وقال أولبرايت، وهو أيضاً رئيس المعهد: “علينا أن نكون حذرين، حتى لا ندعهم يخيفوننا”.
وكان وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد قد حذّر قبل أيام من أن إيران أصبحت “على وشك” الحصول على ترسانة نووية.
وفي شباط الماضي، قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن إيران ربما تكون على بعد أسابيع من امتلاك مواد لسلاح نووي إذا واصلت خرق الاتفاق النووي.
في المقابل، قال المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذريّة رافائيل غروسي إن الوكالة التابعة للأمم المتحدة حلّت القضية الأكثر إلحاحاً مع إيران، بالتوصل إلى اتفاق فيما يتعلق بخدمة معدّات المراقبة، مما يفتح الباب أمام جهود دبلوماسية أوسع نطاقاً.
وأعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية التوصل إلى اتفاق مع إيران بشأن معدّات مراقبة موضوعة في منشآت نووية إيرانية، في بيان مشترك صدر على هامش زيارة مديرها العام رافاييل غروسي إلى طهران.
وجاء في البيان المشترك بين وكالة الطاقة الذرية والمنظمة الإيرانية للطاقة الذرية، أنه تم “السماح لمفتّشي الوكالة بالصيانة الفنية والتقنية لأجهزة المراقبة المحددة، واستبدال بطاقات الذاكرة لهذه الاجهزة التي ستُختم من قِبل الجانبين وتُحفظ في ايران”.
غير أن إيران لم تسمح للوكالة بالاطلاع على تسجيلات الكاميرات. وكانت طهران قد أعلنت في شباط الماضي أنها ستسلّم التسجيلات للوكالة في حال التوصل الى تفاهم لإعادة احياء الاتفاق النووي ورفع واشنطن العقوبات المفروضة عليها.
على الجانب الإسرائيلي، نقلت صحيفة “هآرتس” عن مصادر سياسية إسرائيلية قولها إن “إيران ربما اختارت عن قصد سياسة المماطلة المستمرة في المحادثات حول الاتفاق النووي، من أجل استغلال هذه الفترة التي قد تستمر لسنوات، كي تصبح في نهاية المطاف دولة نووية”.
واعتبرت الصحيفة أن الاتفاق بين الوكالة الدولية للطاقة الذرية وإيران بشأن معدّات المراقبة للمنشآت النووية الإيرانية، يعزّز شكوك إسرائيل حيال الدوافع الإيرانية، وإذا ما كانت موافقة طهران على صيانة معدات المراقبة تدل على رغبتها بالتقدم نحو اتفاق نووي جديد، أم أن هذه الخطوة ترسّخ التقديرات بأن القيادة الإيرانية الجديدة تسعى للانسحاب بشكل كامل من الاتفاق النووي.
وأشارت الصحيفة إلى أن إسرائيل تركّز في الأشهر الأخيرة على هدفين مركزيين ضد إيران، وهما إحداث مسافة ثابتة وكبيرة تمنع تحوّل إيران إلى دولة نووية، ووقف التحركات العسكرية الإيرانية في الشرق الأوسط.
ولا شك أن إسرائيل تخشى من تنامي القدرات الإيرانية النووية والصاروخية ومن تحالفاتها مع دول وقوى في المنطقة، في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن. ويمكن تفسير القلق الإسرائيلي من احتمال وصول طهران إلى ما يسمى العتبة النووية، بأن ذلك سيطلق سباق تسلّح نووي في المنطقة، أي من خصوم ومنافسي إيران، وتحديداً المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا، الأمر الذي يؤدي إلى كسر التفوق النووي الإسرائيلي في المنطقة. فالعقيدة الاستراتيجية لإسرائيل تقضي بأنه لا ينبغي لأي دولة عربية أو مسلمة أن تمتلك سلاحاً نووياً قد يشكل توازن ردع معها أو يهدد أمنها وبقاءها في يوم من الأيام. حتى أن امتلاك باكستان، البعيدة نسبياً عن فلسطين المحتلة، للسلاح النووي، برغم كونه موجّه أساساً لردع خصمها وجارتها الهند، إلا أنه يؤرق إسرائيل على المدى البعيد.
بالعودة إلى الملف النووي الإيراني، يمكن تفسير الخطوات الإيرانية الأخيرة بأنها لدفع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن للتراجع عن شروطها الجديدة لإعادة إحياء الاتفاق النووي، إذ تريد طهران العودة إليه بعد رفع جميع العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب بعد توقيع الاتفاق النووي في عام 2015، ومن دون تعديلات أو شروط لا صلة لها بمضمون الاتفاق، مرتبطة بقدرات إيران الصاروخية ودورها الإقليمي في الشرق الأوسط.