
شؤون آسيوية – إسطنبول –
اختتمت الجولة الثالثة من المفاوضات المباشرة بين الوفدين الروسي والأوكراني في مدينة إسطنبول التركية مساء الأربعاء، وسط استمرار الجمود السياسي والتباعد في المواقف بشأن تسوية النزاع، في مقابل تقدم ملحوظ في ملفات إنسانية حساسة.
وجرت المفاوضات برعاية تركية، بمشاركة وزير الخارجية هاكان فيدان، ومدير جهاز الاستخبارات إبراهيم كالين، ورئيس الأركان العامة للجيش الجنرال متين غوراك، في مؤشر على الأهمية التي توليها أنقرة لهذا المسار.
وقد عقد الاجتماع بصيغة موسعة في قصر “تشيراغان” على ضفاف مضيق البوسفور، وسبقه لقاء ثنائي بين رئيسي الوفدين، الروسي فلاديمير ميدينسكي، والأوكراني رستم عمروف، في محاولة لرأب الصدع قبل الدخول في النقاشات الرسمية.
تبادل للأسرى وهدنات إنقاذ
ورغم التشاؤم الذي سبق الجولة، جاءت نتائجها محملة ببعض المكاسب الإنسانية، حيث توصل الجانبان إلى اتفاق لتبادل ما لا يقل عن 1200 أسير من كل طرف، وهو التبادل الأكبر منذ بدء الحرب، ويمتد ليشمل هذه المرة مدنيين محتجزين، وهو تطور نادر في سياق عسكري معقّد.
كما وافق الجانب الروسي على إطلاق سراح المحتجزين الذين تجاوزت فترة أسرهم ثلاث سنوات، استجابة لطلب تقدمت به كييف، وعرضت موسكو كذلك تسليم جثث 3000 جندي أوكراني إضافية عبر الصليب الأحمر، بعد أن كانت قد سلّمت سابقًا 7000 جثة، في خطوة توصف بأنها ذات طابع إنساني رغم السياق الدموي للنزاع.
واقترح الوفد الروسي هدنة مؤقتة تتراوح بين 24 و48 ساعة في مناطق القتال النشطة، بهدف تسهيل عمليات إجلاء الجرحى وانتشال جثث القتلى، وهو اقتراح لم ترفضه كييف، لكنها طلبت مزيدًا من الدراسة بشأن تفاصيل التنفيذ.
ويُنظر إلى هذه التطورات على أنها تعكس إدراكًا من الطرفين لصعوبة الحسم الميداني، وسعيًا للحفاظ على خطوط التواصل المفتوحة حتى في ظل تعثر مسار التسوية الشاملة.
ملفات شائكة على الطاولة
تضمنت المفاوضات أيضاً مناقشات حساسة حول الأطفال الأوكرانيين الذين نقلوا إلى الأراضي الروسية، وهي قضية أثارت ضجة دولية واسعة.
الطرفان تبادلا وثائق ومعلومات بشأن هويات الأطفال، وفي هذا السياق، ذكر الجانب الروسي أن “عدداً كبيراً من الأسماء الواردة في القائمة الأوكرانية هم في الواقع بالغون”، مطالبًا بإعادة ما وصفهم بـ”الأطفال الروس الموجودين في أوكرانيا”.
كما طرحت موسكو قضية نحو 30 مدنيًا من منطقة كورسك تعتقد أنهم محتجزون داخل أوكرانيا، داعية إلى توضيح وضعهم القانوني والإنساني، وربطت بعض بنود تبادل الأسرى بمصيرهم.
هذه القضايا، التي تمسّ جوانب عاطفية وإنسانية عميقة في المجتمعات المعنية، تبدو من أصعب الملفات التفاوضية، نظراً لتداخل الجوانب القانونية والحقوقية والسيادية فيها.
تباعد في الرؤى الاستراتيجية
على الجانب السياسي، بقيت مواقف الطرفين على طرفي نقيض. فقد أعرب ميدينسكي عن أسفه لما وصفه بـ”التباعد الجوهري في المواقف”، مؤكداً أن الطرفين تبادلا مسودات مذكرات تفاهم، لكن الخلافات حول مضامينها لا تزال عميقة، خصوصاً بشأن خريطة الانسحاب، الضمانات الأمنية، وحياد أوكرانيا.
فموسكو تشترط انسحاب القوات الأوكرانية من أربع مناطق شرقية أعلنت روسيا ضمّها عام 2022، فضلاً عن الاعتراف بضم القرم، ووقف دعم الناتو، ورفض أي توسع غربي في البنية الأمنية الأوكرانية. وهي شروط تعتبرها كييف غير قابلة للنقاش، مؤكدة تمسكها بوحدة أراضيها وبضمانات غربية دائمة تشمل استمرار الدعم العسكري والاقتصادي، إضافة إلى مطلبها بوقف شامل لإطلاق النار لمدة 30 يومًا، وهو ما تعتبره موسكو تهديدًا لتفوقها الميداني.
دعوات لعقد قمة بين بوتين وزيلينسكي
من المقترحات التي طرحتها كييف في الجولة الثالثة، الدعوة لعقد اجتماع قمة بين الرئيسين فلاديمير بوتين وفولوديمير زيلينسكي، بحلول نهاية أغسطس، على أن يُعقد اللقاء برعاية دولية واسعة تشمل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وقادة أوروبيين.
لكن الكرملين اشترط أن يكون هذا اللقاء تتويجًا لاتفاقات مكتملة الصياغة، لا مناسبة لمناقشة المبادئ من جديد، وفيما يتعلق ذلك علّق المتحدث باسمه ديمتري بيسكوف بالقول: “لا معنى لتحديد موعد لقاء على مستوى القادة دون التوصل إلى صيغة مقبولة للطرفين بشأن مذكرات التفاهم… لا أحد يتوقع معجزة”.
ويُظهر هذا التباين في مقاربة القمة الرئاسية أن الثقة بين الجانبين لا تزال مفقودة، وأن فرص الوساطة تعتمد بشكل كبير على الضغوط الدولية وتصاعد الكلفة البشرية للحرب.
وساطة تركية فعالة
في سياق الوساطة، أكدت أنقرة مجدداً أنها تسعى للعب دور “المُيسر المحايد”، كما وصفه وزير الخارجية هاكان فيدان، الذي افتتح الجولة الثالثة بكلمة شدد فيها على أهمية البناء على نتائج الجولات السابقة، مبدياً استعداد تركيا لمواصلة المساهمة في عمليات تبادل الأسرى ومراقبة وقف إطلاق النار في حال تم التوصل إليه.
وتسعى أنقرة، التي تحتفظ بعلاقات سياسية واقتصادية مع كلا الطرفين، إلى تعزيز موقعها كـ قوة إقليمية فاعلة في هندسة السلام الأوروبي، خاصة بعد نجاحها في التوسط سابقًا في اتفاق الحبوب ومبادرات إنسانية مماثلة خلال العامين الماضيين.
مسار تفاوضي طويل وشاق
انتهت الجولة الثالثة دون تحديد موعد للجولة الرابعة، لكن الوفود أكدت أن القرار بشأن استمرار الحوار سيتم اتخاذه بعد تنفيذ الاتفاقات الأخيرة، خاصة في الملفات ذات الطبيعة الإنسانية.
ومع أن تحقيق سلام شامل لا يبدو وشيكاً، فإن المفاوضات تُبقي باب الأمل مفتوحاً، ولو كان ضيقاً، في ظل استمرار التدهور الإنساني واستنزاف القدرات الميدانية للطرفين، ويعوّل المراقبون على أن استمرار التبادل في الملفات الإنسانية قد يُمهّد، على المدى المتوسط، لفتح ملفات أكثر حساسية إذا ما تهيأت الظروف السياسية لذلك.
إنجازات جزئية
تبدو مفاوضات إسطنبول الثالثة أقرب إلى “مناورة إنسانية” منها إلى حل سياسي شامل. فبينما تستمر المطالب القصوى والرفض المتبادل في الشق السياسي، يبرز التقدم في تبادل الأسرى وعودة الجثث والأطفال كمؤشرات على أن التواصل لا يزال ممكنًا، وإن كان هشًا.
ومع غياب اختراق حاسم في ملفات الحرب والحدود والضمانات، يبقى الأمل معلّقًا على الجولات المقبلة، وما قد تحمله من تغيير في ميزان القوى أو إرادة دولية أقوى لفرض التسوية.