Monday

02-06-2025 Vol 19

الصين والعراق.. تنمية مستدامة وشراكات مستقبلية

شؤون آسيوية – إعداد: رغد خضور –

 

تبرز العلاقات الصينية العراقية كنموذج متقدم للتعاون الاستراتيجي المتعدد الأبعاد، وقد تعززت هذه العلاقات بشكل خاص في ظل مبادرة “الحزام والطريق” التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ، والتي تهدف إلى تعزيز الترابط بين الدول عبر مشاريع البنية التحتية والتعاون الاقتصادي والثقافي.

 

جذور العلاقة..

بدأت العلاقات الرسمية بين العراق والصين في عام 1958، ومنذ ذلك الحين شهدت تطوراً مستمراً، حيث كانت الصين من أوائل الدول التي اعترفت بالجمهورية العراقية الجديدة.

وفي العقود اللاحقة، حافظ البلدان على علاقات مستقرة، وإن كانت محدودة بسبب التزامات العراق العربية والارتباطات الإيديولوجية، ومع ذلك، دعمت الصين سيادة العراق، خاصة في مواقف تتعلق بالنزاعات الإقليمية.

وبعد الغزو الأمريكي للعراق، تبنّت الصين سياسة “عدم التدخل في الشؤون الداخلية”، لكنها دعمت وحدة الأراضي العراقية، وعارضت الغزو الأميركي في مجلس الأمن دون استخدام الفيتو، ودعمت مواقف العراق في مجلس الأمن، بما في ذلك رفع العقوبات بعد 2003، وشطبه من قائمة الدول عالية الخطورة في التعاملات المالية.

ومنذ 2004، أعادت الصين فتح سفارتها في بغداد، وبدأت في إعادة بناء العلاقات الرسمية على أساس جديد، بالمقابل، نشطت السفارة العراقية في بكين بعد عام 2005، وتعززت بملحقين ثقافي واقتصادي.

وخلال زيارات دبلوماسية متبادلة، شدد الطرفان مراراً على احترام سيادة العراق ووحدة أراضيه، مع رفض محاولات الهيمنة الأجنبية، وهو موقف أكده الرئيس الصيني شي جين بينغ في لقائه مع الرئيس العراقي برهم صالح عام 2019.

تطور العلاقة بين البلدين شهد توقيع “معاهدة الصداقة والتعاون” عام 2010، والتي أرست إطاراً قانونياً للتعاون في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة والتكنولوجيا، وشملت تقديم مساعدات اقتصادية وفنية.

 

مصالح متبادلة..

الصين أكبر مستورد للنفط العراقي، ففي عام 2019 استوردت ما يعادل 10% من إجمالي وارداتها النفطية، مما يجعل العراق ثاني أكبر مورد للنفط إلى الصين بعد السعودية، وبحسب بيانات عام 2023، بلغت الواردات الصينية من النفط العراقي نحو 1.1 مليون برميل يومياً في بعض الفترات.

وتُدير الشركات الصينية أكثر من ثلث احتياطيات النفط والغاز المؤكدة في العراق، وتُسهم في أكثر من ثلثي الإنتاج الحالي.

وفي مايو 2025، وقّعت شركة “جيو-جيد بتروليوم” الصينية عقداً لتوسيع حقل “توبا” النفطي، بهدف زيادة الإنتاج من 20,000 إلى 100,000 برميل يومياً، بالإضافة إلى بناء مصفاة بطاقة 200,000 برميل يومياً، ومصنع للبتروكيماويات وآخر للأسمدة، باستثمار يُقدَّر بـ848 مليون دولار.

كما تمتلك شركات صينية مثل Sinopec وCNPC وCNOOC حصصاً تشغيلية كبيرة في حقول النفط جنوب العراق، مثل حقل الرميلة وحقل غرب القرنة 1 و2 وحقل الحلفاية.

كذلك تساهم الصين في نقل التكنولوجيا النفطية وتدريب الكوادر العراقية من خلال الشراكات مع وزارة النفط العراقية وشركات الطاقة الوطنية، إضافة إلى توفير منصات حفر ومعدات ثقيلة.

 

النفط مقابل الإعمار..

وُقع البلدان اتفاقية عام 2019، تقوم على مبدأ “النفط مقابل الإعمار”، حيث يُخصص العراق 100 ألف برميل نفط يومياً تُباع للصين، وتُوضع العوائد في صندوق تمويلي يُستخدم لتمويل المشاريع الخدمية والبنى التحتية داخل العراق، بإشراف مباشر من الحكومة الصينية.

أول مشروع في هذه الاتفاقية كان بناء ألف مدرسة نموذجية في أنحاء العراق، بواسطة شركتي “باور تشاينا” و”سينوتيك” الصينيتين.

 

البنية التحتية والطاقة..

تُشارك الشركات الصينية في تنفيذ مشاريع كبرى في العراق، منها بناء محطات توليد الكهرباء، حيث عملت شركة “شنغهاي إلكتريك” ببناء محطة “واسط” الحرارية، وهي واحدة من أكبر المحطات في العراق، والتي تُوفر حوالي 20% من احتياجات البلاد من الكهرباء.

ونفذت شركة سيبكو الصينية (SEPCO III) مشاريع لصيانة وتطوير محطات التوليد مثل محطتي الزبيدية والنجف، وتعمل الصين بالتعاون مع وزارة الكهرباء العراقية على تنفيذ أول مشاريع الطاقة المتجددة في العراق، لا سيما الطاقة الشمسية، من خلال مذكرة تفاهم مع شركة “باور تشاينا”.

 

أرقام استثمارية متصاعدة..

بلغت الصادرات العراقية إلى الصين حوالي 23 مليار دولار عام 2023، معظمها من النفط الخام، فيما بلغت الواردات الصينية إلى العراق قرابة 11 مليار دولار، تشمل المعدات، الإلكترونيات، والمنتجات الصناعية.

وأنشأت الصين منطقة صناعية مشتركة في البصرة، موجهة للبتروكيماويات، مواد البناء، والصناعات الخفيفة، كما تدرس مشاريع لإنشاء موانئ جافة وسكك حديدية ضمن إطار “مبادرة الحزام والطريق” لربط البصرة بالموانئ الصينية عبر إيران وآسيا الوسطى.

 

محور الحزام والطريق..

دعمت الصين إدراج العراق في مبادرة الحزام والطريق، مما فتح له آفاقاً اقتصادية ودبلوماسية أوسع ضمن شبكة علاقات أوراسية تقودها بكين.

وانضمت بغداد إلى المبادرة الصينية عام 2015، وأصبح جزءاً من “المسار البري الغربي” الذي يربط الصين بالشرق الأوسط، إذ يُعتبر موقع العراق الاستراتيجي بين آسيا وأوروبا عاملاً مهماً في هذه المبادرة.

وتُسهم الصين في دعم مشاريع إعادة الإعمار في العراق، بما في ذلك مشاريع البنى التحتية من بناء الطرق والجسور والموانئ والمطارات، مما يُعزز من دور العراق في مشروع “طريق التنمية”.

 

مشاريع استراتيجية..

تعمل البنوك الصينية، مثل بنك الصين للتنمية (China Development Bank) وبنك ICBC، على تمويل المشاريع الاستراتيجية، خاصة تلك المرتبطة باتفاقية النفط مقابل الإعمار.

كما يُجري العراق والصين محادثات لتسهيل استخدام اليوان الصيني في التبادلات التجارية، كجزء من التوجه العالمي نحو تنويع أدوات التجارة وتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي.

 

القوة الناعمة للشراكة..

تعود العلاقات الثقافية بين العراق والصين إلى خمسينيات القرن العشرين، لكنها شهدت تطوراً ملحوظاً في العقدين الأخيرين، خاصة بعد انضمام العراق إلى مبادرة الحزام والطريق.

إذ تحرص الصين على استخدام “القوة الناعمة” من خلال الثقافة واللغة والتعليم لتعزيز حضورها العالمي، والعراق يُمثل موقعًا ثقافيًا محوريًا في العالم العربي.

 

جسر حضاري تعليمي..

تُشجع الصين التعاون الأكاديمي مع العراق، من خلال برامج تبادل الطلاب والأساتذة، وتقديم المنح الدراسية، وذلك عبر برنامج الحكومة الصينية (CGS)، الذي يُتيح فرصاً للدراسة في مجالات الطب والهندسة والاقتصاد والعلاقات الدولية.

وفي عام 2023، تلقى أكثر من 100 طالب عراقي منحاً كاملة للدراسة في جامعات صينية مثل جامعة بكين، وشنغهاي جياو تونغ، وزيجيانغ، ومن أبرز برامج التبادل الجامعي، البرنامج بين جامعة بغداد وجامعة شنغهاي للدراسات الدولية، الذي يشمل تبادل أساتذة ومحاضرات افتراضية ومشاريع بحثية مشتركة.

 

جامعات طريق الحرير..

تُشارك الجامعات العراقية في “تحالف جامعات طريق الحرير”، التجمع الذي يضم أكثر من 150 جامعة من دول “الحزام والطريق” بقيادة جامعة “شيان جياو تونغ” الصينية، الذي يهدف إلى تعزيز التعاون التعليمي والبحثي بين الدول المشاركة في مبادرة “الحزام والطريق”.

ومن خلال هذا التحالف، تنظم الجامعات العراقية ورش عمل، مؤتمرات علمية، ومشاريع بحثية مشتركة في مجالات التنمية المستدامة، تكنولوجيا المعلومات، والعلاقات الدولية.

 

اللغة مفتاح التواصل..

تُسهم الصين في نشر الثقافة واللغة الصينية في العراق، وتقديم دورات في اللغة الصينية في الجامعات العراقية، وفي هذا السياق افتتح جامعة بغداد عام 2019 قسماً خاصاً لتعليم اللغة الصينية، ليُصبح أول قسم من نوعه في العراق، ويضم القسم الآن مئات الطلاب، ويُشرف عليه أساتذة صينيون بالتعاون مع السفارة الصينية.

كذلك، أطلقت جامعة الكوفة وجامعة البصرة برامج اختيارية لتعليم اللغة الصينية، ضمن خطة توسيع العلاقات الثقافية.

وتخطط الصين لافتتاح معهد كونفوشيوس رسمي في بغداد، وهو مركز ثقافي عالمي تابع لوزارة التعليم الصينية يُعنى بتعليم اللغة الصينية وتنظيم الفعاليات الثقافية.

وفي الوقت الراهن، يتم تمويل الدورات الصينية من خلال التعاون الثنائي بين السفارة الصينية ووزارة التعليم العالي العراقية.

هذا وتُشارك الصين في تطوير البنية التحتية الاجتماعية في العراق، من خلال بناء المدارس والمراكز الصحية، حيث وقعت الصين عقداً لبناء ألف مدرسة في العراق، بهدف دعم قطاع التعليم في البلاد.

 

تواصل الشعبي..

يُنظم البلدان فعاليات ثقافية وفنية لتعزيز التفاهم المتبادل بين الشعبين، حيث نظمت السفارة الصينية في بغداد عدة أسابيع ثقافية صينية، تضمنت عروضاً للموسيقى التقليدية، والخط الصيني، وعروض أفلام سينمائية صينية مترجمة للعربية.

بالمقابل، استضافت الصين وفوداً ثقافية عراقية ضمن برامج تبادل ثقافي، عرضت خلالها فنون الزخرفة والخط العربي والموسيقى العراقية.

ويُضاف إلى ذلك مشاركة دور النشر الصينية في معرض بغداد الدولي للكتاب، حيث قدمت ترجمات لأعمال أدبية صينية إلى العربية، منها روايات “مو يان” الحائز على جائزة نوبل.

وتعمل الصين أيضاً على دعم مشاريع الترجمة التبادلية، من خلال ترجمة نصوص من العربية إلى الصينية والعكس، ضمن مشروع ثقافي أشرفت عليه جامعة اللغات الأجنبية في بكين.

من جهة أخرى، تعمل الجامعات العراقية والصينية على تطوير منصات تعليمية رقمية مشتركة، خاصة بعد جائحة كورونا، التي زادت من الاعتماد على التعليم عن بُعد،  مثل المنصة الرقمية المشتركة بين جامعة الموصل وجامعة بكين التقنية لتعليم اللغة الصينية عن بُعد، مع توفير أدوات تفاعلية وتمارين محاكاة.

 

سرد جديد..

التعاون الثقافي بين الصين والعراق شمل أيضاً مجال الإعلام، إذ توجد اتفاقيات تعاون إعلامي بين وكالة الأنباء العراقية (واع) ونظيرتها الصينية (شينخوا)، بما يشمل تبادل الأخبار والمواد المرئية والمقابلات.

كما تُنشر تقارير عراقية مترجمة في الصحف الصينية، لتقديم صورة واقعية عن الوضع العراقي بعيداً عن الإعلام الغربي.

 

دعم طبي في زمن الجائحة..

كانت الصين أول دولة ترسل مساعدات طبية إلى العراق بعد ظهور الإصابات الأولى. شملت المساعدات، مثل معدات وقاية شخصية، أجهزة تنفس صناعي، وأطقم فحص PCR، إلى جانب إرسالها لفريق طبي متخصص من سبعة خبراء إلى العراق، بالتنسيق مع وزارة الصحة العراقية لمساعدة كوادرها على التعامل مع الجائحة.

وذلك إلى جانب ورشات العمل الإلكترونية التي نظمتها الصين لتدريب الأطباء العراقيين على تشخيص كورونا وعلاجه، خاصة في المحافظات ذات الإمكانيات الضعيفة.

وخلال جائحة كورونا، وفرت الصين لقاح “سينوفارم” للعراق، وأُبرمت وزارة الصحة العراقية لاحقاً اتفاقاً تجارياً لاستيراد ملايين الجرعات من اللقاح الصيني، واعتماده رسمياً ضمن خطة التلقيح الوطنية.

كما يوجد برنامج تبادل طبي بين الجامعات الصينية والمراكز العراقية، تم من خلاله إرسال أطباء عراقيين للتدريب في مستشفيات صينية، وبالمقابل، تمت دعوة أساتذة طب صينيين لإلقاء محاضرات وورشات في جامعات بغداد والمستنصرية.

 

تُشير المؤشرات إلى أن العلاقات بين البلدين ستستمر في النمو، خاصة مع التزام الصين بدعم إعادة إعمار العراق وتنميته، واستعداد العراق للاستفادة من الخبرات والاستثمارات الصينية، ما يُسهم في تحقيق التنمية المستدامة والاستقرار في العراق، وتعزيز دور الصين كشريك موثوق في المنطقة.

Shuun Asyawiya

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *